الصحافة : تجارة وعطارة وشطارة !
قبل سبعين عاما تقريبا كان مصطفى وعلى أمين ومحمد التابعي يبحثون عن الخبر والمخبر . الخبر الصحفي والمخبر الصحفي لا المخبر الأمنجي . وكانوا يبذلون في سبيل ذلك وقتا وجهدا ومالا ، ولنا أن نتفق معهم أو نختلف ؛ فقد كانت المهنة هدفهم الأساس الذي يبحثون من خلاله عن التفوق والانتشار ، ووضع الكفء على مقعد رئاسة التحرير ولو كان صغير السن ( هيكل رئيسا لتحرير آخر ساعة وهو في الرابعة والعشرين )، وكانوا يغدقون على الصحفي الفائق مكافآت وحوافز ليزداد تفوقا وانطلاقا .
اليوم تحولت الصحافة وخاصة الحزبية والخاصة في أغلبها إلى تجارة من نوع رخيص . وأصحابها أو المتحكمين فيها إلى تجار من النوع الذي لا يوثق فيه . هم أصحاب ملايين معظمها تدور حوله الشكوك ، ولا يُعرف مصدرها : حلال أو حرام ، وغايتهم العليا في الغالب هي كسب المزيد والمزيد ، أو غسل السمعة الملوثة أو مكايدة الخصوم أو ابتزاز من يملكون الملايين الحرام !
الضحية الكبرى في هذا السياق هم المحررون أو الأنفار أو عمال التراحيل الأكْفاء ، الذين يبذلون جهودهم وأعمارهم في تعبئة الصفحات الملعونة بالموضوعات والتحقيقات والصور ، ويلحق بهم نفر من الكتاب الذي يضطرهم سوء الحظ إلى التعبير عما في أنفسهم في هذه الصحافة التجارة والعطارة والشطارة !
صاحب الصحيفة المليونير النهم يعتمد على مجموعة مقربة منه تداهنه أو تنافقه أو تنحني أمامه لتحصد مبالغ باهظة لا تتأخر يوما واحدا ، أما عمال التراحيل أو الأنفار او المحررون فلا ينالون غير الفتات ، ويا ليته يستمر متاحا ، فالعواصف المليونيرية تهب أحيانا ، فيمتنع صاحب الصحيفة عن الدفع ، بحجة أن السيولة غير متوفرة ، وأنه في طريقه إلى تخفيض الفتات ، وأنه بسبيل الاستغناء عن العشرات من التراحيل ، وحين يقول الأنفار إن لنا أُسَرا وأطفالا والتزامات في إيجار السكن والمواصلات واللبس والعلاج وغير ذلك ، يقال للمحررين : أمامكم طريقان ؛ الرحيل أو قبول الأمر الواقع . وقبول الأمر الواقع يعني أن يصل فتات الفتات على دفعات كل دفعة تبعد عن الأخرى قرابة الشهرين ، وأحيانا يتأخر الفتات لمدة خمسة شهور أو أكثر ، ويحتج التراحيل ن فيقال لهم عيب ، هناك من لا يدفع منذ عام أو عامين ، وتحدث لقاءات واتفاقات وتسويات ولكن المليونيرية التجارية العطارية الشطورية لا تفي بوعد ، ولا تنجز اتفاقا ، ولا تحقق تسوية ، واللي مش عاجبه يخبط رأسه في أقرب حائط !
يشترط قانون إصدار الصحف وجود وديعة يستوفي منها أصحاب الحقوق من التراحيل وغيرهم مستحقاتهم ، ولكن أصحاب الصحف يتحايلون لفك الوديعة وتسلمها لتعود إلى جيوبهم معزّزة مكرمة وعليها الفوائد أيضا !
وهكذا يعيش الصحفي الذي لا يحظى برعاية أمنية ولا يجيد لعب الأكروبات أمام المسئولين بصحيفته في محنة مزدوجة . العمل الشاق بلا رحمة ، والحرمان من الحق المر !
أما كتاب المقالات ، فلا أحد يلتفت إليهم ، تعاملهم المليونيرية التجارية العطارية الشطورية كأنهم طلاب شهرة ، ولا حق لهم في شيء . إنهم طلاب شهرة في المفهوم المليونيري ، وعلى طالب الشهرة أن يكتفي بظهور اسمه مقرونا بما يكتبه يستوي في ذلك الكاتب المحترف والكاتب الهاوي أو الغاوي الذي ينقط بطاقيته .
يجنّد المليونير التاجر العطار الشاطر ، مجموعة من الكتاب ويمنحهم عطايا كبيرة لينافحوا عنه ، ويسوغوا سلوكياته ، ويدافعوا عن خطاياه وخاصة لو كان منتسبا إلى طائفة ذات بأس شديد !
وهناك بالطبع عملية الإقصاء العمد التي يمارسها القوم وتتجه إلى أصحاب الفكر الإسلامي بالدرجة الأولى . لا يمنحهم أحد فرصة التعبير إلا إذا كان صاحبها ممن تجندهم الأجهزة الأمنية أو يكتبون كلاما إنشائيا لا قيمة له ، أو من منقولات الكتب دون أن يشتبك مع الواقع .
وفي كل الأحوال عليك إذا كنت كاتبا أو أردت أن تنشر ما تكتب ؛ أن تقدم قرابين الولاء والطاعة ، بعد أن تخلع إسلامك على باب كلامك .
هناك ممارسات معروفة من أولئك النفر الذين يسمون بالعلمانيين ، ويشرفون على صفحات الرأي والفكر ، فهم يمارسون الإقصاء مع من ينتقد العلمانيين أو سلوكياتهم ، ولا قيمة لهذه اللافتة التي تُرفع فوق الرءوس أو أمام العيون وتتحدث عن الرأي والرأي الآخر !
الشطارة والعطارة والتجارة يستوي فيها أصحاب اللحى التايواني ، وأصحاب الياقات المنشاة ، كلهم لا ينصف التراحيل أو الأنفار أو المحررين والكتاب ، المال يذهب إلى الأنصار والمؤيدين ، أما الشغيلة بلغة اليساريين فلا حق لهم في مقابل مجز ، أو راتب عادل ، فهذا يستحقه من ترضى عنهم الأجهزة الأمنية أو الحضرة المليونيرية ، ومن لا يقترب من الحضرة أو الأجهزة فالويل له ولأسرته وأطفاله ومستقبله .
قبل سنتين طرد أصحاب اللحى التايواني مجموعة من الأنفار ، بعد أن استقالت هيئة تحرير لا تحب النفاق ، وحتى هذه اللحظة لم يحصل هؤلاء وأولاء على حقوقهم المرة ، ويقول الملتحون الشيطانيون للمظلومين : هل تريدون أخذ أموال اليتامى والأرامل ؟ ويسألهم هؤلاء : وماحكم الملايين التي تهدرونها في الانتخابات الفالصو وفي تأييد الطغاة ودعم أعداء الإسلام ؟
نقابة الصحفيين - حماها الله - تأخذ أجراء روتينيا بتجميد عضوية من يتقدم من هذه الصحف الملتحية شيطانيا أو غيرها إلى عضوية النقابة ، ولكن يأتي بعض أعضاء مجلس النقابة ممن يدينون بالولاء لهذه اللحى أو لأصحاب الياقات ، فيفبركون اتفاقات لم تحدث ، ويسمحون بالعضوية ويهدرون حقوق التراحيل أو الأنفار أو المحررين ! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
نسمع كلاما كثيرا من النقابة عن مواجهة الفصل التعسفي وأكل الأجور ، ولكن الواقع البائس يقول إن هذا الكلام يذهب مع الريح بسبب الحسابات الخاصة والعلاقات التحتية مما يجعل عمال التراحيل بلا مأوى ولا زاد !
الرسول صلى الله عليه وسلم يحث على إعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ، وأصحاب اللحى ومليونيرات الطموح ، وصحافة السلطة تأبى الدفع إلا لمن يحظى برعاية أمنية أو يغازل تجلياتهم الحرام !
هل يمكن أن يجيب أحد : لماذا تأخرت المهنة ؟