الشمّاعة التيميّة .. و تقنيات التشويه

بدر بن مرعي الثوعي

الحمد لله وبعد ..

فإن من نعم الله على العبد أن يرزق نظرًا سديدًا للأمور, فلا يعظم فكرة, أو يحقر أخرى دون دليل, ولا ينساق خلف الشعارات المفرغة من البرهان .

ولقد ابتليت الحقيقة عبر الزمن بمشوشات تصنع صورًا ذهنية مغلوطة, وتعيد تركيب الأفكار بشكل بعيد عن الإنصاف.

ومع تزايد الأحداث الدامية في المنطقة صار البحث عن منابع الأزمة واجب الوقت, واختلفَت مشارب النّاس في هذا البحث؛ يجمع بينهم النظر الأحادي لظاهرة مركّبة, وفي أحيان كثيرة تكون هذه الأحداث ساحة لتصفية الحسابات مع الخصوم؛ فكلما دوّى انفجار خرج تجار القضايا مشيرين بأصابعهم لأعدائهم, حتى صارت الأصابع تشير إلى الجهات الستّ دون خجل .

وفي هذه الورقة المختصرة سأحاول مناقشة فرضية مشتهرة على الألسن, تتناقلها الوسائل بمستويات مختلفة, مفادها "أن ابن تيمية –رحمه الله- هو الأب الروحي لتنظيم داعش ", وتزامنت مع هذه الحملة دعوات لإحراق تراث شيخ الإسلام ابن تيمية, في صورة مؤسفة للمغالطات.

ولأن المساحة العُرفية لمثل هذه الأوراق لا تسمح بالإفاضة والتشقيق؛ سأحاول جهدي التركيز على تحليل المغالطات التي يرددها خصوم الشيخ, وتقسيمها, ثم نقضها, بصورة تجعل العاقل يعيد النظر في تعاطيه مع هذا التراث, على ألا أخرج عن مضمار الأدب واللباقة, حتى لو رمينا من خارجه؛ فالحق قوي بذاته, يستطيع المواجهة بشجاعة, دون قذف قوارير الشتائم من مدرجات التشجيع الفكري.

أرضيّات أوليّة:

أولًا:

التكفير حكم شرعي ليس لأحد إلغاؤه, أو التبرؤ منه, فقد قال تعالى "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة",

وقال "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون",

والآيات في ذلك وافرة, فحديثنا هنا ليس عن إنكار أصل التكفير, بل عن نقد المسالك المشوهة في إثبات هذا الحكم على الأفكار والأعيان.

ثانيًا:

إن الشريعة أحاطت هذا الحكم بأسوار من الضوابط تسيج المرء قبل الحكم بكفره, فالتكفير ليس إذنًا بسفك الدماء, والأمر يتطلّب تجاوز عقبات أخرى لينزل على الأعيان, ثم إذا نزل على الأعيان كان لتنفيذ استحقاقاته أنظار مصلحية أخرى, والحديث عن تحقق شروط, وانتفاء موانع, والتفريق بين الفعل والفاعل حاضر في المخيلة التيمية :

"فقد يكون الفعل أو المقالة كفرًا, ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة, أو فعل ذلك الفعل, ويقال: من قال كذا فهو كافر, أو من فعل ذلك فهو كافر. لكن الشخص المعيّن الذي قال ذلك القول, أو فعل ذلك الفعل؛ لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة, فلا يشهد على المعين من أهل القبلة بأنه من أهل النار, لجواز أن لا يلحقه, لفوات شرط أو لثبوت مانع"1

وتلك الضوابط مبثوثة في كتب التراث, ويشهد المنصف أنّها في غاية التحرز والضبط.

ثالثًا:

باستخدام التجريد نجد أن فكرة التكفير مقبولة عقلًا, فكل فكرة تضع حدًا دائريًا ذهنيًا, ومن الطبيعي أن الأخطاء التي تناقض أصل الفكرة تزيح مرتكبها خارج الدائرة؛ إذ لا يمكن لأي فكرة أن تسيّل حدودها لدرجة تضم البشر جميعهم, لذلك فإن الحديث عن عدم التكفير مطلقًا ليس محمدة, وإنما يكون عدم التكفير محمدة إذا وضع في موضعه الشرعي وقيد بضوابطه ، وذلك لا يتأتى إلا لمن كان متبصرًا حَسَنَ الوضع لأحكام الله .

****

جمعت بعض اتهامات مناوئي ابن تيمية بالداعشية, وأخذني التأمل طويلًا في هذه الصورة, ثم عجبت؛ أهذا ابن تيمية !

هذه الأقصوصات المعلوماتية رتّبت بشكل مشوّه, كأن طفلًا ملولًا ألقاها بعشوائية, فأنتجت صورة مخيفة, كل ما أريده هنا أن أعيد ترتيب قطع البازل لتظهر الحقيقة كما هي.

وبعد تحليل تلك النقدات التي يقذفها الخصوم وجدتهم يستخدمون تقنيات تشويهية متعددة, أبرزت تلك المغالطات تحت تسع نقاط, تظهر تهافت الربط بين ابن تيمية والتهمة الداعشيّة.

التقنيات التشويهية :

1- العدسة الانتقائية:

لقد أحدث التراث التيمي نقلة نوعية فكريّة, أثنت عليها أطياف متباينة, حتى خصوم الزمن القديم كانوا يعترفون بفضله, وعلمه, ولموع ذهنه, وتعظيمه للوحي ظاهر لكل ناظر, فعندما يعاد تشكيل هذا التراث الغني بأنواع المعارف الطبيعية والإنسانية على لون واحد, يظن إذ ذاك مثقفو النقولات أن ابن تيمية كان يكفّر صباح مساء, وأن قضية إخراج الناس من دائرة الدين كانت مشروع ابن تيمية.

نحن نعلم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره, فكيف بالله عليكم يتأتّى لمن لم يقرأ من تراث ابن تيمية إلا نقولات موظفة أن يحكم بعدل !

ماذا لو سألنا جمهرة المدعشّين لابن تيمية كم كتابا قرؤوه له؛ أي جواب مخجل سيكون !

صاحبنا الذي أُرافع عنه قال في مشهد سردي ذاتي مؤثر:

"هذا مع أنّي دائمًا, ومن جالسني يعلم ذلك مني, أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معيّن لتكفير وتفسيق ومعصية, إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة, وفاسقًا أخرى, وعاصيًا أخرى" 2

ثمّ إن ابن تيمية لم يضبط نفسه فحسب, ولم يكتفِ بنهي تلاميذه عن الولوغ في الغلو التكفيري؛ بل صار ينتقد هذا الأمر ويجعله أمارة على أهل البدع فهو القائل :

" فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا, ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطّئون ولا يكفرون"

ومن انضباط منهجه, وسمو نفسه أنه لا يجازي التكفير بتكفيرٍ مضاد, ولا الكذب بمثله, وقد أنكر على الإسفراييني قوله "لا نكفر إلا من كفرنا", وأفاض القول في رده, وقال أن التكفير حق لله وحده, ليس لأحد أن يجعله مجالًا للمقارضة, وأبو إسحاق الإسفراييني لم يكن سلفيًا, وإلا لجُعل من مؤسسي تنظيمات التكفير, على طريقة العدسة الانتقائية !.

وفي شهادة كاشفة أدلى بها الإمام الذهبي –رحمه الله- قائلًا

" كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول أنا لا أكفر أحدًا من الأمة"3

ولو ذهبت أنتقي من تراث المذاهب الأخرى كلمات التكفير, مع نزع السياقات كما يحدث مع ابن تيمية؛ لأخرجت صورة أكثر تشوّها, ولكن يأبى الله ثم الإنصاف هذا الضرب من الفجور في الخصومة.

2- الإيهام بالتفرد :

الناظر للحملة المناوئة لابن تيمية يظن أنه الوحيد الذي نطق بالتكفير, وكأن تراث المذاهب والأفكار الأخرى يخلو من التكفير, وعند النظر في خصوم الشيخ نجد أمثلة صارخة لانفلات تكفيري لا يمتّ لهذه الصورة الوردية التي يحاولون رسمها عن أنفسهم, فمثلا نجد في تراث المعتزلة حشدًا من النقول الصارخة في تكفير القريب والبعيد؛

" ومن نماذج التكفير المسبب عند المعتزلة: تكفير هشام الفوطي مَن يقول بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن, وكفر الصميري المجتمع, أو ما يعبر عنه قديمًا بالدار, إذا أثبت أهلها الصفات ,يقول القاضي عبدالجبار عن الصميري: كان مذهبه في الدار...أنه إذا غلب الجبر والتشبيه, فهي دار كفر" 4,

وقد كانت الفوضى التكفيرية عند المعتزلة صفة لازمة, والتكفير طال حتى مقدمي مذهبهم؛ فقد كفر أبو علي الجبّائي أبا الهذيل العلاف, وكفر أبو الهذيل بدوره النظّام, ثم أتى أبو هاشم الجبّائي ليكفر والده أبا علي, وذلك في سلسلة تكفيرية فوضوية, يشهدها تاريخ المدرسة التي يصنفها الحداثيون العرب بأنها شامة التراث ومفخرته !.

(ومن الطوائف : الأشعرية , فإن لبعضهم مقالات ونصوصا عديدة تمثل غلوا ظاهرا وكبيرا في التكفير, ومن ذلك : قول الشيرازي - وهو من أئمة المذهب الأشعري- , حين قال :

"فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الاشعري رضي الله عنه فهو كافر. ومن نسب إليهم غير ذلك فقد كفرهم فيكون كافرا بتكفيره لهم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما كفر رجل رجلا إلا باء به أحدهما...)

ومن ذلك ما نقله القرطبي في تفسيره عن بعضهم فقال :"ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر؛ فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه.

وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار. أو كما قال)

ومن ذلك : ما ذكره الغزالي عن غلو بعض المتكلمين , فقال :"من أشد الناس غلواً وإسرافاً، طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها، فهو كافر. فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده.. أولاً. وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة.. ثانيا"ً

ومن ذلك غلو بعضهم في تكفير ابن تيمية والحكم عليه بالزندقة والكفر , حيث يقول الحامدي معلقا على قول السنوسي ": قوله :"ابن تيمية " أي : الحنبلي المشهور , زنديق , وبغضه للدين وأهله لا يخفي"  وقال ابن جماعة للأمير متحدثا عن ابن تيمية :"هذا يجب عليه التضييق إذا لم يقتل , وإلا فقد ثبت كفره ". ومن ذلك وصف السبكي لابن القيم بأنه ملحد ولعنه إياه , حيث يقول :" انتهى كلام هذا الملحد , تبا له وقطع الله دابر كلامه " السيف الصقيل 53 ) 5

ومن ظن أن هذه الموجة التكفيرية عند الأشاعرة قد انتهت, فلينظر ما قاله حسن السقاف – وهو حي يشتم- عن ابن تيمية "كافر لا يستحق دخول الجنة "6  .

والحديث عن التكفير عند الرافضة أوضح من أن يتكلف المرء له جهدًا, والمقصود من هذه الوقفة إثبات وجود التكفير في كافة الطوائف المناوئة لابن تيمية, وأن تقنية الإيهام بالتفرد تحاول نفي هذا الوجود.

3- الخلط القرائي:

خرجت أصوات مع بدايات الربيع العربي تستنكر الخنوع, وتهاجم الفقه السلطاني الذي يكاد يؤله الحاكم, وفي موجة عبثية كانت هذه الأصوات تجعل ابن تيمية من روافد الفقه الخانع, وتطالب بتجاوزه؛ لأن شيوخ المستبد يستشهدون بنقولات تيمية, فصاروا عند هؤلاء الوكلاء الحصريين لفهم تراث الإمام, وأصبح ابن تيمية من متفقهة السلطان لهذا الاعتبار ! .

وفي مشهد آخر –بعد سنوات- خرج القرن الداعشي ينتطح الأمة, ويمزقها, ويسيل أنهار الدماء بالأبرياء؛ ثم عادت تلك الأصوات لتقول أنّ هذا التهوّر صنيعة تيمية أخرى, فقط لأن هؤلاء أيضًا استشهدوا بنقولات تيمية, وكأنّ من المنطق أن يكون الإمام مسؤولًا عن الفكرة ونقيضها !

الخلل هنا يكمن في الخلط بين التراث التيمي وقراءاته؛ فكل مدرسة تتخذ زاوية أمام الفكرة فتنظر منها, وتحسب أن التراث مقتصر عليها, ولو طافت عقولهم لوجدوا أن خصومهم يتخذون الزاوية المقابلة لنفس التراث, ويظنون أن الإمام يُقرأ من زاويتهم فقط.

حتى لو رفعنا المستوى قليلًا؛ يشهد التاريخ أن أضلّ الضلالات أقبلت متشحة بنصوص قرآنية, فهل الإشكال في النبع أم في السواقي الموجهة له !

ثم إني أرى بعض الخصوم ممن أصمّ آذاننا بالداعشية التيمية؛ لا يرتضي أن نحسب التوحش الأمريكي الآثم على فكرته الليبرالية, ولا يرتضي العروبي الآخر أن نعد تجربة صدام أو الأسد نموذجًا مقبولًا للفكرة العروبية, فهل من العدل أن نحسب القراءة الداعشية للتراث التيمية ملزمة للإمام ومدرسته !

4 - إهمال السياقات:

من أبرز تقنيات التشويه انتزاع الكلام وبتر سياقاته من خلاف, حتى إذا شُوهت تسوّل الخصم بها الشتائم, وجعل يدلّ الناس قائلًا "انظروا لهذه الفكرة ما أشد بشاعتها" !.

لقد كان ابن تيمية يقول الكلمة في سياق فكرة معينة, في ظرف زمني معين, ثم تنتزع الكلمة لتوظف في سياق آخر, وتوضع صورة كلمته بجانب صورة تفجير لتسرّب إلى الذهن علاقة الارتباط الآثمة.

وقد كان ابن تيمية نفسه يطبق منهج النظر للسياق لتحديد المعنى, فقد قال : 

"ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه, وما يتبين معناه من القرائن والدلالات؛ فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة"7

بل يجعل إهمال السياقات من أصول المغالطات بقوله :

"وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه؛ فهذا منشأ الغلط من الغالطين"8

وقد أكثر أئمة الإسلام على أن المعنى مختبئ في تضاعيف السياق؛  :

"فالسياق يرشد إلى تبيين المجملات, وترجيح المحتملات" كما يقول العز بن عبدالسلام,

وفي لفتة أكثر وضوحًا يقرر ابن دقيق العيد أن تقنية إهمال السياقات تحيل المعنى الذي أراده المتكلم إذ قال:

"أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه"9 .

إذن فالحديث عن معنى لا يخدمه السياق سقطة أخلاقية كبرى, وعلامة على أن هذا البنيان النقدي قام على أساس رخو, وبسخرية لاذعة يقرر الشاطبي هذا المعنى بقوله:

" كلام العرب على الإطلاق لابدّ فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ؛ وإلا صار ضحكةً وهزءًا"10

والسياق عند الشاطبي ليس فقط مسألة لغوية، فالسياق الاجتماعي والتاريخي والزمني تدخل في تشكيل المعنى, وفهم مراد المتكلّم, وفي حديثه عن الضابط المعول عليه في مأخذ الفهم قال:

"المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان ; فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره ، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها ، لا ينظر في أولها دون آخرها ، ولا في آخرها دون أولها ، فإن القضية وإن اشتملت على جمل ; فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد ، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله ، وأوله على آخره ، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف ، فإن فرق النظر في أجزائه ; فلا يتوصل به إلى مراده ، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض ، إلا في موطن واحد ، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه ، لا بحسب مقصود المتكلم ، فإذا صح له الظاهر على العربية; رجع إلى نفس الكلام ، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد"11

5- التغاضي الكمي:

في يوم السبت الرابع من يوليو الماضي نشرت CNN تقريرًا يؤكد أن العدد الأكبر من المنضمين لتنظيم الدولة يحملون الجنسية التونسية, وفي هذا الخبر دلالات تستحق الوقوف؛ فتونس عاشت تحت نير حكم استبدادي علماني, وكانت مناهجه الدراسية شديدة الاقصاء للمعاني الإسلامية, ومع ذا تصدر شبابهم –الذي رضع العلمانية من صغره عبر المناهج- قائمة المقاتلين في هذا التنظيم, أين ابن تيمية شماعة الجرائم في حياة هؤلاء؛ ماذا لو اطردنا مع منهجهم في التحليل وقلنا أن المناهج العلمانية سبب تفريخ الغلو والتفجيرات !

هذه الفرية التي تضمحل عند هذه الظاهرة ولا تجد مكانا للحديث عن ابن تيمية حين تفتح ملفات الدواعش الغربيين والتونسيين , وتتلفع بصمت مطبق؛ يكشف أن الظواهر المركبة لا تفسر بهذه الأدوات الأحادية.

6- الرمز المصلوب :

يطوف بذهني سؤال كلما رأيت هذه الحملة "إذا كان التكفير موجودًا في تراث جميع الطوائف؛ ما الذي يجعل ابن تيمية يصلب وحيدًا"؟ .

وهذ السؤال لا يجاب عنه إلا بمعرفة خصوم الشيخ ومستوى الخصومة؛ فمنهم من له موقف سيء من التراث بأكلمه, وإنما حمل على ابن تيمية لرمزيته, ومنهم من مشكلته الحقيقية مع الإسلام نفسه, ويعلب خصومته بغشاء لطيف, ومنهم من مشكلته مع السلفية, ويرى ابن تيمية ممثلها الأقوى, ومنهم من لديه تساؤلات موضوعية تستحق النظر, وبهذا التقسيم يتضح لنا سبب تواطؤ التيارات والأفكار المتباينة على بغض ابن تيمية,

فالعداء تارة يكون لابن تيمية المسلم من قبل أعداء الإسلام, وتارة لابن تيمية السلفي من قبل أعداء السلفية, وتارة لابن تيمية التراثي من قبل أعداء التراث, وذلك شكل خطوط هجوم متوازية تفسر كثافة النصال التي كسرت على الجسد التيمي.

7- الاستباحة بعدم العصمة:

وهذه التقنية التشويهية شديدة الحضور في الأوساط المعاصرة؛ فكلما أتت تهمة باطلة, وانتصبت لتبرئة من تدين الله ببراءته؛ أتى دور هذه التقنية, حيث يقول محاورك " وهل ابن تيمية معصوم حتى تدافع عنه بهذه الضراوة"! .

وبرغم تهافت هذه التقنية إلا أنها تزداد انتشارًا, وهل من شرط عدم العصمة أن تكون كل التهم صحيحة !

ماذا لو أتيت لأحد من هؤلاء واتهتمه بأنه سبب سقوط الدولة العباسية, وحين ينبس بالدفاع عن نفسه أصادمه بنفس التقنية " وهل أنت معصوم"!,  لو اتبعنا هذه التقنية لإثبات التهم لصار بوسعنا اتهام أي أحد بأي تهمة لأنه غير معصوم, فعلى ذات المسار سيكون عدم العصمة مسوغًا لاستباحة كل حق في الدفاع عن مظلوم؛ لك أن تتخيل آثار هذه التقنية وتشويهها للحقيقة ثم تحكم !!

8- الاتهام باللازم:

ومن أعجب ما رأيت في هذه التقنية؛ أن خصوم الشيخ يعيبون على الدواعش التكفير باللازم, والتكفير بالمآل؛ وهم يستخدمون ذات التقنية مع الشيخ, والحديث هنا عن اللوازم الباطلة,

وبهدوء العالم المتبصر يقول ابن تيمية في إنكار هذا المسلك :

" ولو كان لازم المذهب مذهبًا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات إنه مجاز ليس بحقيقة؛ فإن لازم هذا القوم يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة"12

, وحتى تقترب صورة هذه التقنية نضرب مثالًا:

ماذا لو قلتَ على منبر أن يد السارق تقطع, كلام لا غبار عليه, ثم يأتي رجل بعد قرن من الزمان ليتهم أخاه بالسرقة دون برهان مقبول, فتقطع يده ظلمًا, ثم يأتي ناس تلك الحقبة ليقولوا أنك سبب الظلم الذي وقع بقطع يده دون برهان!

فمنشأ الغلط هنا أن القول بقطع يد السارق ليس منسوبا لعين من أعيان فقهاء الإسلام حتى يؤاخذ به, بل هو حكم شرعي ثابت بالقرآن والسنة , يتضافر معه الغلط في إسقاط هذا الحكم الشرعي على بريء , لينسب غلط الظلم في عدم إقامة البينة اللازمة على من اتبع الحكم الملزم بقطع يد السارق , لتكتمل فصول التشويه المركبة 

9- التقويل:

وهذه التقنية أخرتها لسبب, وهو أنها سهلة البناء والكشف, تقوم على فكرة التشويه المباشر, والاعتماد على جهل القارئ؛ فعندما يعجز الخصم في بحثه عن نص يخدم فكرته, يقوم بإيجاد هذا النص عبر الكذب الصراح, وإنشاء كلام من ذهن الخصوم وإلصاقه بابن تيمية.

وفي تغريدة منتشرة على وسائل التواصل قام خصم باستخدام هذه التقنية على أعقاب التفجير الذي حصل بالكويت, وعندما أعياه البحث والتنقيب قام بتأليف كلام لا يخلو من الظرافة حيث قال : اقتلوههم ولو كانوا في المساجد صائمين "صحيح ابن تيمية" ..

والمثقف البسيط يعلم أن ابن تيمية لم يقل هذا الكلام, ولا شبهه, بل لا يوجد في الدنيا كتاب اسمه "صحيح ابن تيمية"!

****

السياق الأخلاقي التيمي والسياق الأخلاقي الداعشي :

إن تعجب فعجبٌ أن يُجعَل سياق داعش في البطش بالمخالفين امتدادا لسياق شيخ الإسلام في قفز صريح على نقطتين جوهريتين وهي :

أ-تعامل ابن تيمية مع المخالفين عامة وإن شطوا عن المدرسة السلفية بمراحل.

ب- وتعامل ابن تيمية مع خصومه الذين بطشوا به بعد القدرة عليهم .

يقابلها عند الدواعش نقيضان وهما :

أ- انقلابهم على كل مخالف لهم ولو كان من داخل المدرسة السلفية الجهادية بضراوة .

ب- فتكهم بخصومهم حين القدرة عليهم بوسائل التقتيل المعروفة عنهم.

والمواقف كثيرة تترا  غير أني مكتف بنموذجين لتعامل شيخ الإسلام مع خصومه لنكشف من خلالهما المفارقة الأخلاقية التي عميت عنها عيون خصوم شيخ الإسلام ,

جاء في العقود الدرية  :

"فلما كان في رابع شهر رجب من سنة إحدى عشرة وسبعمائة جاء فيما بلغني رجل إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل !

وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا .

فقال لهم الشيخ:  لأي شيء ؟

قالوا :  لأجلك !

فقال لهم : هذا ما يحق! ,

فقالوا : نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس ,

فقال لهم :  هذا ما يحل !

قالوا : فهذا الذي قد فعلوه معك يحل ؟!!

هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا !!

والشيخ ينهاهم ويزجرهم فلما أكثروا في القول قال لهم :

إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء

قالوا : فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم ؟

قال : هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه !

قالوا : فتكون أنت على الباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم

فقال لهم : ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر !"

فانظر كيف جعل بغي هؤلاء المتعصبة عليه مما قد يثابون عليه , في استعلاء تام على حظ النفس وقارنه بالبغي الداعشي في رمي كل مخالف خالفهم ولو بالقول لا أكثر, ينكشف لك تهاوي مروءة الخصوم وتهافتهم

ثم تعال معي لنرى موقفا أعجب, ليس في عفوه فحسب عن خصومه من القضاة الذين أفتوا للسلطان بقتله,بل تجاوز هذا للشهادة بفضلهم وعلمهم ومطالبة السلطان باستبقائهم في مناصبهم لنفع الناس,

جاء في نفس المصدر :

" قال بعض أصحاب شيخ الإسلام: "وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلسا(يعني السلطان وشيخ الإسلام) بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم قال ففهمت مقصوده وأن عنده حنقا شديدا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم قال فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك : ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا"

******

مثال تطبيقي :

نشر علي الجفري تغريدة تضمنت صورة لكلام ابن تيمية في المجموع ( 14 / 478 ) :

"فإن الوالد إذا دعا الولد على الشرك ليس له أن يطيعه, بل له أن يأمره وينهاه, وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه, وإذا كان مشركًا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء"

وجعل يمارس تقنيات تشويهية مختلفة لإلصاق قتل الدواعش لأقاربهم بهذه الفتوى, ونحن إذا تأملنا النص التيمي بتجرد وجدنا أن الجفري أهمل السياق؛ فالحديث هنا عن المشرك بعد ثبوت صفة الشرك عليه, وليس كما يوهم الجفري متابعيه بأنه في المشرك الذي لم تثبت الصفة عليه كما في تخرصات الدواعش واتهاماتهم لأهل القبلة بالردة ,

ثم إنه استخدم تقنية الإيهام بالتفرد مع أن مسألة قتل الوالد المشرك –حقًا- مبثوثة في كتب المذاهب كلها, وخلافهم في كراهة أن يباشر الولد قتل والده أو إباحته, ولم يكن الحديث عن وحشية القول كما يمارس الجفري خلطه القرائي هنا,

فعند الأحناف قال الكاساني في ترتيب الشرائع ( 7 / 101 ) :" ويكره للمسلم أن يبتدئ أباه الكافر الحربي بالقتل..."

وعند المالكية يقول القرافي في الذخيرة ( 12 / 8 )–بعد ذكر آية "وصاحبهما في الدنيا معروفًا"

:" فدل على أن الكافر اندرج في الموصى ببره؛ لأنه لا يأمر بالشرك إلا كافر, وقال أصبغ : يقتل أباه وأخاه ",

وعند الشافعية يقول النووي في المجموع ( 19 / 295) " ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم",

وعند الحنابلة يقول ابن قدامة في المغنى ( 8 / 536) :" ذكر القاضي –وهو أبو يعلى الفراء- أنه لا يكره للعادل قتل ذي رحمه الباغي؛ لأنه قتل بحق, فأشبه إقامة الحد عليه" 13 

والمقصود هنا ليس تحرير الأقوال, ومعرفة الفروق؛ لكني أردت كشف المغالطات الجفرية, وكشف مخبآت خطابه الإنشائي الشعاراتي.

ختامًا:

الحديث عن سبب أحادي في تحليل ظاهرة مركبة أوّل دركات الخلل, إذ الظاهرة الداعشية معقدة المكونات, فالخطاب الهوياتي الأممي يجتذب قطاعًا واسعًا ممن حرم هذه السعة، لحساب الخطاب القطري الضيق,

ثم إن الدواعش يزعمون لأنفسهم مظالم تسرّع نمو نبتتهم الخبيثة, خصوصًا إذا علمنا أن كثيرًا ممن اجتالته شياطين الغلو كانت لهم أو لأقاربهم تجارب مع ضغوطات سياسية من عديد من الأنظمة بالاعتقال وغيره ,

وفي إطار التفسير لا التسويغ لا يمكن أن تحلل هذه الظاهرة دون النظر للمكونات النفسية والاجتماعية التي أدت لنشوء هذا التيار .

باستحضار المكون الغربي الأوروبي الواسع في صفوف داعش, الذي يخالف في نشأته المكون الشبابي المغالي من عمق البلاد العربية .

إذن؛ نحن نتحدث عن ظاهرة مركبة ونحاول أن نربطها بسبب أحادي, وإذا أردنا أن ننتقل من مرحلة تصفية الحسابات إلى مرحلة إيجاد الحلول علينا النظر للصورة الكاملة دون أن تستغرقنا الأجزاء, عندها نكون قد وضعنا قدمنا على طريق يخرجنا من هذه الأزمة.

---------

وسوم: العدد 628