المزبلة اللبنانية
خلال حرب «عاصفة الصحراء» عام 1991، قامت مجموعة من طلبة الجامعات في لبنان بالتظاهر ضد الغزو الأمريكي للعراق. في ذلك الزمن كان لبنان تحت الوصاية السورية، وكان جيش حافظ الأسد يشترك مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في الحرب على العراق. رد فعل أجهزة الأمن السورية على الطلبة كان صاعقا وغير متوقع. فبعد اعتقال الطلاب ليلاً ووضعهم في أقبية مظلمة وباردة، (حصل هذا في شهر كانون الثاني – يناير)، وكان عددهم حوالي ثلاثين طالباً، قام رجال المخابرات بإفراغ مجموعة من البراميل على الطلبة الذين كانوا يرتجفون من البرد. فاحت الرائحة الكريهة، لكن وبسبب العتمة لم يستطع أحد أن يتبين ماذا جرى بالضبط، سوى اكتشافهم عبر تلمس اجسامهم مواد لزجة ذات رائحة كريهة تشبه رائحة الخراء. وبعد حوالي ساعة عاشها الطلاب في الرعب والذعر، أنير القاووش الذي كانوا يقيمون فيه بأضواء كاشفة، فاكتشف الجميع أن رجال المخابرات أفرغوا مجموعة من براميل البراز عليهم. من الصعب وصف حالة الرعب والغثيان والتقيوء التي أصابت الجميع. روى لي أحد شهود حفلة التعذيب الوحشية تلك، أن الساعات الثلاث التي قضاها مع رفاقه قبل الإفراج عنهم، كانت الأكثر رعباً وقرفاً في حياته.
في الصباح الباكر أُفرج عن الطلبة المعتقلين، وسُمح لهم بالعودة إلى بيوتهم، فكان عليهم أن يمشوا في صباح بيروت حاملين رائحة الاستبداد، لأن لا أحد منهم جرؤ على إيقاف سيارة تاكسي بسبب منظره ورائحته.
لم ير الطلبة أي محقق، ولم يقم أحد باستجوابهم و/أو تعذيبهم بالأساليب المعروفة التي تبدأ بالفلقة وتنتهي بالشبح، تُركوا في قاووش مظلم، وحدهم، قبل ان تلقي عليهم البراميل أكوام البراز البشري.
بالطبع سوف يستنبط الأسد الصغير وسائل جديدة لاستخدام البراميل في حربه على الشعب السوري، وتلك حكاية أخرى.
الحكاية التي أود روايتها هنا لم تبدأ ببراميل الخراء إلا لتصل إلى اللحظة الراهنة، حيث يعيش لبنان واللبنانيون تحت أكوام الزبالة، التي صارت عنوان انهيار دولتهم ومؤسساتهم وفقدان الإحساس بالمسؤولية لدى جميع أفراد طبقة أمراء الحرب والمال الذين رسكلوا الاستبداد السابق وحولوه إلى استبداد من نوع جديد.
المخابرات في أزمنة غازي كنعان ورستم غزالة كانت تُغطي النهب بالقمع، فتمت استباحة لبنان باقتصاده وشعبه ومؤسساته عبر أداة قمع رهيبة تجسدت في مكانين رمزيين هما عنجر وفندق البوريفاج. في المكانين كان رجال الطبقة الحاكمة يلحسون أحذية ضباط المخابرات السورية كي يتسنى لهم ان يجدوا لأنفسهم مكاناً في جنة النهب والسمسرة. أما نظام المحاصصة الذي ورث الهيمنة السورية فإنه يُغطي القمع بالنهب. انه نظام نهب مُعلن، لا أحد يخجل من ذلك، كلهم يقولون انهم مارسوا النهب، وان لم يقولوا فإن آثار النعمة واضحة. وهم فخورون بذلك، فحاضنتهم الشعبية اعتقدت ان الفتات الذي يأتيها من نظام الزبائنية يكفيها. بالطبع فإن هذا الفتات يتضمن أيضاً المال السياسي الذي يُضخ عبر قناتين كبريين هما القناة الإيرانية والقناة السعودية – الخليجية.
في هذا النظام يتحول النهب إلى قمع شامل، عندما تنهار مؤسسات الدولة وتصبح البلاد بأسرها مزبلة. انه قمع الزبالة والانفلات الأمني وزعران الشوارع.
وفي هذا السياق تم نهب المال العام، وتحويل الدين العام إلى أداة تراكم دائمة بأيدي المصارف، وتم القضاء على التعليم العام، وتحطيم الجامعة اللبنانية لمصلحة دكاكين التعليم الجامعي الخاصة التي تنتشر كالفطر، وجرى تجاهل جميع المشكلات الاجتماعية وترحيلها إلى التأجيل المزمن، والتركيز على الصراع بين أرباب الطوائف على بلد تريده كل طائفة رهينة بأيدي أسيادها.
رغم بريق شعارات الاستقلال والديمقراطية والمقاومة والممانعة، فإن لبنان تحوّل إلى جنة للصوص، وساحة لتجار السياسة والرئاسة، ومسخرة للآيديولوجيات المتهافتة.
كل أعضاء الحكومة كانوا يعلمون أننا مقبلون على أزمة نفايات في عزّ الصيف، أي في موسم السياحة والاصطياف، وكلهم يعلمون ان إقرار سلسلة الرتب والرواتب بات أمرا لا يحتمل التأجيل، وأن التلوث البيئي يفترسنا، وأن الكهرباء صارت أضحوكة، لكنهم قرروا تجاهل المسألة، أو رفضوا حلها أو هم عاجزون عن ذلك، أو لا أدري.
لم نقرأ حتى الآن تقريراً رسمياً واحداً مُقنعاً يشرح لنا لماذا انفجرت مستوعبات النفايات بالطبقة السياسية الحاكمة ووصلت الزبالة إلى اعناقنا، ومن هو المسؤول عن ذلك؟ لم نسمع عن وزير واحد قرر ان يتحمل المسؤولية ويستقيل. كل ما نسمعه هو نمائم واتهامات وصراعات على سرقة النفايات.
نعم أيها السيدات والسادة، وصل الأمر بطبقة النهابين اللبنانية إلى حدود الصراع على الزبالة، وعلى من هو الزبّال الأفضل من بينهم. ومع تفاقم عجزهم قرروا تصدير الزبالة بدل تصدير التفاح اللبناني! تخيلوا إلى أين وصلت بهم عبقرية الانحطاط!
المهم اننا لن نعثر على مستورد واحد، وستبقى الزبالة في وجوهنا. وأمس تحدثت مع دبلوماسي لبناني سابق فاجأني باقتراح رفع الموضوع إلى مجلس الأمن، إذ ان الحل الوحيد قد يكون في تكليف قوات اليونفيل بحمايتنا من الزبالة، بعدما انتفت الحاجة إليها لحمايتنا من العدو الإسرائيلي، بسبب انشغال مقاومتنا باحتلال سورية!
يا عيني!
من زمان كان شباب أحياء بيروت عندما يقولون يا عيني، يكملون جملتهم بالقول بوظة العويني. يومها كانت بوظة العويني هي إحدى علامات بيروت، وكان لبنان محكوماً بطبقة أَكَلة الجبنة بحسب فؤاد شهاب. لكن أكلة الجبنة من رجال الإقطاع السياسي القدماء كانوا حريصين وهم يسرقون حليب البقرة اللبنانية على حياة البقرة وصحتها، كي يستمروا في استغلالها. اما أمراء هذا الزمن فقد سرقوا كل الحليب وهم اليوم يتناتشون لحم البقرة.
كل شيء بدأ في أقبية المخابرات، هناك اكتشف المستبد انه يستطيع رمي البراز على الطلاب، ممهدا الطريق لإغراقنا بالنفايات ورمي الزبالة على رؤوسنا.
وسوم: العدد 628