لماذا حصل لقاء جدة؟

الحياة

تأخرت السعودية في إعلان روايتها عن اللقاء الذي جمعمسؤول الجهاز الأمني للنظام السوري، علي المملوك، معمسؤولين سعوديين في مدينة جدة. لكنها حسناً فعلت عندماقررت أخيراً إعلان هذه الرواية كما جاء في صحيفة«الحياة» أمس. السؤال: لماذا تأخرت السعودية؟ ولماذاسارع النظام السوري بتسريب خبر اللقاء إلى صحيفةلبنانية قبل أكثر من أسبوع؟ يعكس التأخير من ناحية،والمسارعة من ناحية أخرى، حقيقة الخلفية السياسية لموقفطرفي اللقاء. على الجانب السعودي كانت الرياض قبل لقاءجدة، ولا تزال بعده على قناعتها بأنه لا حل في سورية معبقاء الأسد. ومهما قيل عن اعتبارات هذا الموقف، يبقى أنمأساة سورية أثبتت أن الأسد يفتقد أدنى حد من مسؤوليةالقائد أمام شعبه. فهو من دفع الأمور في سورية إلى ماهي عليه الآن، وارتبط اسمه وحكمه بآلة قتل جهنمية ضدشعبه تسببت بقتل أكثر من ربع مليون سوري، وتهجير أكثرمن نصف السكان بين منافي الداخل والخارج، فضلاً عندمار طاول الشجر والحجر في كل أنحاء سورية. وكل ذلكلهدف واحد، هو بقاؤه في الحكم. ولا يمكن للسعودية فيهذه الحالة، وبعد كل ما حصل، تسويق تغيّر في موقفها،خصوصاً أمام الشعب السوري، من مسألة بقاء الأسدكجزء من مستقبل سورية في حل سياسي بات الجميع علىقناعة بأنه المخرج الوحيد للمأساة.

يتمثل الفارق الرئيس بين التأخر السعودي والمسارعةالسورية في فكرة أنه كانت هناك مبادرة حصل علىأساسها اللقاء، كما تقول الرواية السعودية. حضور هذهالمبادرة في الرواية السعودية وغيابها عن رواية التسريبالسوري هو ما يعكس جوهر موقف كل منهما. تقولالسعودية إن الفكرة الرئيسة للمبادرة تمحورت حول تركتقرير مصير الرئيس السوري للشعب السوري من خلالانتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة.ولضمان هذه الصيغة اقترحت السعودية خروج كل الأطرافالأجنبية من المشهد السوري، بما فيها الميليشيات التيتتبناها وتسلحها إيران، لجعل الحل السياسي المنشودسورياً خالصاً. انطلاقاً من ذلك، قال السعوديون للروسأثناء التحضير للقاء جدة إنهم يقبلون بالنتيجة التي سيسفرعنها هذا الحل مهما تكن، شريطة أن يقبل الإيرانيون بهاأيضاً. في هذه الحالة، ليس من مصلحة الرياض تسريبخبر اللقاء قبل التوصل إلى اتفاق نهائي بضمانة روسية،ودولية، يضع الحل السياسي عملياً على المسار. وحقيقة أنالسعودية هي صاحبة المبادرة، تؤكد أن السعوديين يشتركونمع الجميع - طبعاً عدا «محور الممانعة» - في أن الدعمالإيراني هو الذي يبقي على الأسد، وأن ترك مصيره للشعبالسوري في إطار مرحلة انتقالية بضمانات دولية هو الخيارالسياسي الوحيد المتاح الآن، فضلاً عن أنه التزام قانونيبحق هذا الشعب في اختيار من يحكمه بعد كل المآسيالتي مرّ بها تحت مظلة نظام الأسد نفسه وليس سواه.

على الجانب الآخر، قناعة رئيس النظام السوري بأن الأمر،كما يردد دائماً، على العكس من ذلك تماماً. الأولوية الوحيدةبالنسبة إليه تتمثل في ما يسميه «محاربة الإرهاب»، أومحاربة المعارضة التي تسعى إلى إسقاطه. بعبارة أخرى،وافق الرئيس السوري على لقاء جدة أملاً في أن يوسع المظلةالتي يحتمي بها بحيث لا تقتصر على إيران. هل وافقالأسد على إرسال من يمثله إلى جدة أملاً في إقناعالسعودية بأن تكون جزءاً من هذه المظلة، أو على الأقل أنتتخذ موقفاً محايداً من الأحداث؟ هذا يعتمد على ما قاله لهالروس أثناء التحضير للقاء. اللافت في هذا السياق أنالتسريب السوري لخبر اللقاء لم يذهب أبعد من ذلك. لم يأتِعلى ذكر أن اللقاء تناول أي مقترحات أو مبادرات. فيالوقت نفسه نفتقد الرواية الروسية لما حدث قبل وأثناء اللقاء.وحتى كتابة هذه المقالة، لم يصدر أي تعليق روسي علىالرواية السعودية، وقبل ذلك على الرواية السورية.

لكن حقيقة أن التسريب السوري لم يأتِ على ذكر أيمقترحات يعني واحداً من اثنين: إما أن اللقاء لم يتناولبالفعل أي مقترح أو مبادرة محددة، وهذا غير ممكن، وإلالماذا أقدمت السعودية على هذه المغامرة الكبيرة؟ فقط لتبادلحديث لا معنى له مع مندوب نظام فقد شرعيته محلياً ودولياً،وبات الجميع يتحدثون عن اليوم التالي لسقوطه؟ هذهمغامرة مجانية لا يقدم عليها أحد. الاحتمال الثاني، وهوالأقرب للصحة أن اللقاء تناول مبادرة معينة، وأن هذهالمبادرة كانت المبرر الوحيد لقبول الرياض باستقبال المندوبالسوري، بناء على تفاهم مسبق مع الروس. هذا على الأقلما أكده الإعلان السعودي. على الجانب الآخر، ترافقتجاهل التسريب السوري لموضوع المبادرة ولما دار فياللقاء، مع عدم نفي أن هذا ما حصل بالفعل. الأمر الذييشير بوضوح إلى أن هدف التسريب بهذه الصيغة المبهمةهو رفض غير مباشر للمبادرة السعودية، وتفادٍ للدخول فيموضوعها جملة وتفصيلاً. وهذا متوقع لأن رفض النظامالسوري علناً لمبادرة تدعو لجعل السوريين يقررون مصيرهممن دون تدخلات خارجية سيتسبب بحرج كبير له، فضلاً عنأنه يكشف حقيقة ادعائه بأنه يستند في بقائه إلى قبولالشعب له. وقبولها، من ناحية أخرى، سيضع مصير الرئيسفي مهب الريح. المخرج الوحيد للرئيس في هذه الحالة هوتجاهل المبادرة تماماً، وأخذ الاهتمام إلى موضوع آخرمختلف تماماً.

هذا ما يفسر الحملة التي انطلقت بعد التسريب مباشرة،خصوصاً من قبل ما يعرف في لبنان بإعلام محور«الممانعة». فحوى هذه الحملة أن لقاء جدة لم يكن أكثر مناعتراف سعودي غير معلن بانتصار هذا المحور بعد توصلإيران إلى الاتفاق النووي مع الدول الكبرى. لكن لماذاالتسرع، والحال كذلك، في تسريب خبر عن موضوع لا يزالقيد البحث والتفاوض، ولم ينتهِ إلى شيء محدد، ومتفقعليه؟ المنتصر عادة ليس في حاجة لمثل هذه التسرع، وبمثلهذه المعطيات. الأمر الذي يشير إلى أن التسريب، بجانبأنه يمثل رسالة برفض المبادرة السعودية، يحمل رسالة أخرىمفادها رفض ما يتردد عن تغير في الموقف الروسي من بقاءالأسد، وتلميح للإيرانيين بعدم جدوى الانجرار وراء مثل هذهالطروحات. والأرجح أن مضمون تصريحات الرئيسالأميركي باراك أوباما يوم الجمعة الماضي بأنه لاحظ تغيراًفي الموقفين الروسي والإيراني حيال مستقبل الأسد بما قديسهل التوصل إلى حل في سورية، قد وصل إلى القيادةالسورية قبل الإعلان عنه أميركياً. ربما وصل من خلال قناةروسية أو أوروبية، وربما من خلال دي ميستورا، المبعوثالخاص للأمم المتحدة في سورية. يكفي من هذه الناحيةملاحظة قبول روسيا بأن يتمحور لقاء جدة بحضورها حولمبادرة تتعلق بترك مستقبل الأسد للشعب السوري في إطارعملية انتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة، وبعد انسحابالأطراف الأجنبية بما فيها الميليشيات التابعة لإيران.

قصة لقاء جدة لم تنتهِ بعد لا بالتسريب السوري، ولابانتصار «محور الممانعة»، ولا بالإعلان السعودي. تكفيالإشارة هنا إلى أن اجتماع الدوحة الثلاثي بين وزراءخارجية السعودية وأميركا وروسيا الأسبوع الماضي حصلبعد التسريب السوري. وأن وزير الخارجية السعودي سيزورموسكو هذا الأسبوع بعد الإعلان السعودي. من هنا يبدوالتسريب والإعلان معاً جزءاً من الصراع، ومن مفاوضات لاتزال مستمرة حول الحل السياسي المنشود في سورية،وتحديداً موقع الأسد من هذا الحل. لم يعد بإمكان الرئيسالسوري منع الآخرين من التباحث حول ما إذا كان بقاؤهفي مصلحة مستقبل سورية. والحديث عن انتصار لـ«الممانعة» والحال كذلك، خارج السياق، ولا معنى له إلا أنهنوع من رفض ما لا يمكن رفضه، أو التهيئة لما هو قادم لامحالة.

***************************

 

وسوم: العدد 628