فتح سمرقند ( تركستان حاليا )

… وأسدلت صفحة من صفحات الكفر والإلحاد على مناطق سمرقند بفضل جهود الدولة الأموية ، ومحاولاتها المستمرة لأسلمة هذه البلاد ، ونشر اسم الله عاليا في أرجاء المعمورة ..

وكم من مرة أعلنت فيها سمرقند انصياعها للمسلمين ثم نقضت العهد ، ولكن معركة " نصر بن سيار " القائد الأموي كانت آخر معركة في المنطقة ، وبها كسرت شوكة أبنائها الملاحدة ، ورفرف الإسلام عاليا في ربوعها ، ولم يزل يرفرف بعدله ورحمته فوق ربوعها حتى احتل الروس أرجاءها .

ولقد كانت مناطقها في حقبة من الزمن مصدرًا لهجرات الترك إلى مشرق الأرض ، وسببا لنشر الإسلام في ربوع أوربا … وهاهي ذي اليوم تنتفض انتفاضتها الكبرى ضد العدو الروسي لتعيد إليها المجد الإسلامي … ولعلها تنطلق انطلاقة ثانية لتحرير الشعوب الإسلامية من ربقة العدو الصليبي والإسرائيلي كما انطلق الترك العثمانيون في يوم من الأيام .

                                     المؤلفة

الشخصيات

1 – نصر بن سيار : قائد أموي  فاتح في بلاد الترك

2 – محمد بن أبي سبرة ، وواثلة : مجاهدان مسلمان فارسان

3        – كورصول : الملك التركي الوثني في سمرقند

4        – صول : ملك تركي في إحدى المناطق التركية في سمرقند .

5        – فيروز بن قول ، وطورخان : تركيان أسلما

6        - مسلمون مستشارون وجنود من الطرفين لم تذكر أسماؤهم.

                                الفصل الأول

الهدف الأسمى

كان نصر بن سيار القائد الأموي لفتح بلاد الترك يجلس تحت شجرة ، وإلى جواره بعض قواده ومستشاريه في استراحة لهم من وعثاء الحرب والسفر، وكانوا يفكرون في أمر الفتح وقد طال عليهم أمده .

وسكت نصر قليلاً ، وكأنما أراد أن يعيش مع أفكاره بعض الوقت ، فأحس بضعف الإنسان ، وبضرورة اللجوء إلى الله سبحانه في مثل هذه المواقف العصيبة ، فانطلق قلبه يناجي بارئه ، ثم نطقت شفتاه  بشعر ينم عن أحاسيسه :

أصبحت والله في مضيق          فهل سبيل إلى الطريق

أف لكفر عتا وفارق

وانتبه مستشار له إلى تمتمته فقال له :

-         مالك يا أمير الجند ؟

-         لا شيء بي سوى ألمي من تأخر الفتح مع اتخاذ الوسائل لذلك .

-         الترك قوم أولو بأس وقوة .

-         لم أكن أتوقع أن يكونوا كذلك ، كنت أحسب أن فتح سمرقند ليس أصعب من فتح باب الأبواب.

فأجابه محدثه :

-         لن نيأس بإذن الله ، فالله معنا ما دمنا قد جئنا لهدف سام .

-         هذا حق إن شاء الله ، وسننتصر عليهم بإذن الله مادام فينا عرق ينبض ، وما دام هدفنا تحرير هذه العقول من خرافات الجاهلية وأوهامها .

وسكت نصر قليلاً ثم قال :

-         وماذا سمعت من أخبار القوم .

-    قالوا إنهم يعتقدون أن المرأة في هذه البلاد لا دين لها ، ولا جنة ولا نار ، وأنهم لا يعرفون إن كان لها روح بشرية أم أنها ذات روح حيوانية ؟

-         أيمكن أن يصل غباؤهم إلى هذا الحد ؟ ! …

-         لا تعجب يا أخي فالإسلام هو الذي حرر العقول، وأعطى المرأة حقها ، كما ساوى بين الناس جميعاً .

-         ولهذا باتت مهمتنا لازمة ، وذلك حتى تدين البشرية كلها لشرع الله بارئها ، وتتفتح العقول والقلوب لهدي قرآنه العظيم .

-         هذا صحيح .

وسكت القائد قليلاً ثم قال :

- ولا تضجرن من ضيق ما قد لقيته 

   عسى فرج يأتيك من خالق الخلق

-         جند الله لا يحصون ، وإن مع العسر يسرا .

-         ليت عسكرةَ " كورصول " على طرف النهر تكون سببا للفتح .

-         كورصول عسكر على طرف النهر ؟

-         نعم ، هذا ما أبلغته منذ قليل ، ولذلك كنت أفكر ، وقد رأيت أن تشاركوني في الرأي .

-         هذا واجبنا يا أمير الجند .

-         علينا أن نكون شديدي الحذر ، ولا سيما في أوقات الصلوات .

-         مر الناس بصلاة الخوف عند الظهر .

…              …               …

ويؤذن أحد المسلمين :"  الله أكبر … الله أكبر …"  فيقول نصر :

-         الله أكبر على من بغى وتجبر ، الله أكبر على كل من عتا ونفر ، الله أكبر على كل من أنكر يوم المحشر …

ونهض لوضوئه …

وكان كورصول يترصد له ، وقد عرف أن سماع هذا الأذان يعني أن يتخلى المسلمون عن كل شيء إلا الصلاة ، وتحينها فرصة للانقضاض عليهم والفتك بهم …

وكان إلى جواره مستشاره فسأله :

-         ما رأيك أن نهجم عليهم الآن هجمة شرسة وهم يصلون ؟

-         ولكنهم ، كما علمنا ، يحذرون في صلواتهم في الحرب ، فسلاحهم إلى جنوبهم يشهرونه في كل آن .

-         فما العمل إذاً ؟

-         ترصد لقائدهم نصر ، وارمه في غفلة من أمره ، وحينذاك يولون أدبارهم .

-         الرأي ما أشرت .

…        …        …

وكان نصر بن سيار يتوضأ وإلى جواره غلام له فما أحس القائد الأموي إلا بسهم يتوجه نحوه ، فانزاح عن مكانه ، وصاح بغلامه ، ولكن السهم أصاب الفتى بجرح أليم ، فقال نصر :

-         يا للغدر والخيانة !!…

وعزم على الانتقام مباشرة مهما كان الثمن ، فالعدو قريب منه ، وتحديد جهته أمر لن يكون عسيراً بعد هذا الهجوم …

ونادى في الجيش :

-         يا خيل الله اركبي وأبشري …

وتوجه المسلمون صوب العدو وحملوا عليه حملة قاضية … وتراشقوا بالسهام وتطاعنوا بالرماح ثم تضاربوا بالسيوف جسدا لجسد …

وخيم الليل على الكون بظلامه الرهيب ، وما نال أحد من صاحبه ، ثم رأى كورصول أن يتظاهر بالهرب في هذه العتمة السائدة ، وولى دبره … ولكن نصرا قال لجنده :

-         لاتلحقوا به ، فالبلاد وعرة ، وهم يعرفون شعابها ووديانها ، ونحن لانعرف منها إلا القليل ، والليل قد يأتي بالويل …

وهدأ الكون كله وما هدأت عيون نصر ومستشاريه ، فقد راحوا يخططون لمعركة الغد ، وهم يأملون أن تكون الحاسمة في مصير هذه الأمة العصية ، ثم جلس نصر يستغفر ربه ويتضرع إليه وقد عزم على أمر …

ومع أوائل خيوط الفجر كان منادي الجهاد يهيب بالمسلمين لينفروا نفرة رجل واحد، وكان جيش العدو يغط في سبات عميق …

وتسللت الفئة الاستشهادية المجاهدة ، وراحت تعمل سيوفها بأبناء الكفر ، فما استجمعوا قواهم حتى أطبق عليهم الجند المسلم كالليل الأدهم ، واشتعل أوار المعركة ، وحمي وطيسها ، وما جاء الزوال حتى كان العدو بين منكوب بجراحه ، او مفارق لحياته ، أو مصفد في أغلاله .

وكان  " محمد بن أبي سبرة " من المجاهدين الفرسان يجول بسيفه هكذا وهكذا ، فلما طعن فرسه ترجل ، وأتم انقضاضه على العدو كالصقر الجارح ، ثم حمل على تركي قد صد الناس عنه لبطولته ، فاختلفا ضربتين ، فقدّ التركي سيف ابن أبي سبرة فثبت في بيضة محمد دون أن يقد رأسه ، فكرَّ عليه ابن أبي سبرة فقتله ، ثم أقبل يمشي وسيفه يقطر دماً ، وسيف عدوه يلتمع في بيضته .

ونظر الناس إلى أحسن منظر رأوه من فارس ، ونظر نصر إلى السيفين  هذا يأتلق على رأسه ، وذاك يقطر من دم عدوه فقال له :

-         من أنت أيها الفارس ؟ لله درك من بطل ! !…

-         أنا ابن أبي سبرة .

-         أي رجل أنت !!… ترصد إذاً لقائد الترك .

-         لا فرس معي .

-         وأين فرسك ؟

-         طعن في الحرب

-         لك الله من فارس مقدام ! …

-         من يعطيني فرسه وله سلبه إن أمكنني الله من عدوه ؟

قال واثلة أحد الجنود الجرحى :

-         خذ فرسي يا أخا الإسلام واقتل بسيفي عدو الله .

-         لا حاجة لي بالسيف ، فسيوفي قوية قاطعة .

-         وحمل ابن أبي سبرة على قائد الترك … وتكسرت في يده ثلاثة سيوف …

وطال أمد المعركة، واستشار نصر صحبه، فأشار كل برأي …

وأراد الله لهذه الفئة المؤمنة النصر فهيأ لها " فيروز بن قول "… وجاء يخب بفرسه رافعاً يده كمن يريد التسليم، وهو يقول " الله أكبر".

قال أحد القواد :

-         اقتلوا الفارس المخادع .

فأجاب نصر :

-         لا ، وأحسبه رسول حرب ، أو رجلاً جاء يعلن إسلامه ، والله سبحانه يطلب منا أن نتعرف أمره ، ونحذر منه .

ووصل إلى نصر ، فقال له :

-         من أميركم ؟

نصر:  أنا . فمن أنت ؟ أرسول حرب أم …؟

وقاطعه فيروز :

-         لا ، ولكني مسلم جئت أعلن إسلامي أمامكم ، وأنضوي تحت رايتكم .

نصر (( بتعجب )):

-         متى أسلمت ؟

-         منذ أيام .

-         وكيف ؟

-         أعجبتني صلاتكم ودعاؤكم في جوف الليل …

-         ومتى سمعته ؟

-    كنت  فيمن يحرس كورصول ومعسكره  ، فسمعت في جوف الليل تلاوة ودعاء ، فنفذ ذلك إلى شغاف قلبي ، كان دوي عبادتكم يملأ الأفق ، فأحسست أنكم على حق فيما تقولون وتدعون ، لقد كانت أصواتكم أصوات الخاشعين المتبتلين إلى خالقهم ، ورحت أفكر فرأيت حلماً في ليلتي هذه ..

-         يا سبحان الله , إنه  يهدي من يشاء .

وتابع الرجل :

-         رأيت أني أخرج من الظلام والنور يشع حولي وأنا أنظر ، ثم سرت إليه …

كان الرجل يتكلم كالمبهور من شيء يراه ، ولكنه كان سعيداً  مطمئناً، ثم تابع :

-         وهأنذا أسير إليكم .

قال قائد من المسلمين :

-         الحمد لله الذي هداك إلى الإسلام ، وأنقذك من ظلمات الجاهلية .

قال الرجل :

-         علموني مما علمكم الله ، ومروني أفعل ما تشاؤون.

نصر :  ما اسمك يارجل ؟

-         فيروز بن قول .

نصر :  إن كنت صادقا فيما تقول فإني أطلب منك، وأنت العليم بمكان ملكك وببلادك أن تصرف عنا عدو الله جهدك .

-         و ما الحيلة لذلك وقد صرت مسلماً ؟

-         اكتم إسلامك عن قومك ، والحرب خدعة .

-         سيفتقدني كورصول ولئن رآني فلن يفارقني ، ولكن أشير عليكم بحيلة .

-         وما هي ؟

-         إن استطعتم أن تحملوه على اللجوء إلى البحيرة تمكنتم منه هناك ، فاحتل له ، يا أمير الجند  ، حيلة لذلك . 

-         وما الحيلة برأيك ؟

-         أرى أن ترسل إلى صهره " صول " وتتظاهر بمسالمته ، فلعله يقتنع بالمسير إلى البحيرة .

-         دعني أفكر ملياً ، واذهب أنت في رعاية الله .

وقبل أن يهم الفارس التركي بالانصراف استدرك نصر :

-         ولكن يافيروز ..

-         ماذا يا أمير المسلمين ؟ 

-         حذار أن يعلم أحد بإسلامك ، فالأمر جد خطير.

-         سمعاً وطاعة يا أمير .

وخلا نصر بمستشاريه ، فقال أحدهم :

-         أتظن أن الرجل مخلص فيما يقول ؟

نصر : أحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً ، ولا بد من الحذر.

-         وكيف يكون الحذر برأيك ؟

-         نطلب من صول  خلاف ما قال لنا ، فلعله لا يثق بنا فيتحقق مرادنا .

وسكت قليلا ثم قال :

-         والحرب خدعة ، وما قصة نعيم بن مسعود في يوم الأحزاب بخافية عليكم .

-         الرأي ما تراه يا أمير الجند ، فلأنت أبصر منا بالأمور .

وكتب نصر إلى صول متظاهراً بالمودة والمسالمة ، وأوغر صدره على كورصول ، وطلب منه أن يمنعه من المسيرة إلى البحيرة ، وله على ذلك مكافأة ثمينة .

وكان لنصر ما أراده الله من نصر لعباده

                             clip_image001.pngالفصل الثاني

إخلاص لله سبحانه جلس صول في قصره يحف به مستشاروه وكبار قواده، وبيده كتاب يقرؤه ويعيد قراءته ، والقوم واجمون ساكتون ، قد بدت عليهم علائم الحيرة والقلق، ثم قطع وجومه وشروده بقوله :

-    إن نصرا عدو لنا ، ولئن تظاهر اليوم بالمودة والمسالمة فإن له ولغيره من المسلمين من الأهداف ما يجعلهم لا يتوقفون عن الحرب مهما كان الثمن.

وسكت قليلا ثم قال :

إذا رأيت نيوب الليث بارزة      فلا تظنن أن الليث يبتسم

وأردف :

-         وكيف نسالم من يقول إن الأرض كلها لله ، وإننا لن نتوقف حتى يدين أهل المعمورة كلها بالإسلام ؟

فقال مستشار له :

-    المسلمون يا مولاي المعظم يدافعون عن هدف ديني ، ومحال أن يتراجع أمثال هؤلاء عن تحقيق أهدافهم مادام ذلك مرتبطاً بدينهم وبكسب مرضاة ربهم ورسوله .

-         يا ويحهم … لقد كنا في مأمن من العيش قبل أن يقدموا إلينا .

قال مستشار آخر :

-         يزعمون أنهم يريدون المساواة بين البشر ، فلا فضل لعربي على أعجمي عندهم إلا بالتقوى حسب مفهومهم .

قال أحد الحاضرين :  وما التقوى ؟

-         هي برأيهم أن يكون المسلم مخلصاً لربه في أعماله، مطيعاً له ، مجتنباً ما يحذره منه ، ساعياً لإعلاء دينه في الأرض .

قال آخر :  وهل يساوون العبد بالسيد ؟

-         أجل ، ولا يعتقدون بالدم المقدس للحاكم .

-         صول : تباً لهم من بلهاء .

ثمَّ أردف :  ولكنهم يدافعون عن مذهبهم بكل حمية وحماس .

-         ويطلبون الموت كما يطلب جنودنا الحياة .

-         وهذا هو سر انتصارهم ووصولهم إلى بلادنا ، وهم بعيدون  عنا .

-         والموت عندهم شهادة .

-         والشهادة عندهم تعني دخول الجنة .

-         وما الجنة ؟

-         دار نعيم أعدها الله للشهداء عرضها السموات والأرض ، فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين .

-         وهل صدقتم هذا يا بلهاء ؟

-         على أي حال فإن الحرب مع هؤلاء قاسية مريرة.

-         هل يلتزمون العهود ؟

-         يقولون الحرب خدعة .

قال آخر :  ولكنهم يلتزمون العهود والمواثيق التزاماً قوياً .

صول : أخاف أن يطبقوا مبدأ " الحرب خدعة "  فنكون فرائسهم .

وتأوه قليلاً ثم قال :

-         لابد من محاربة هؤلاء ، ولنخالفن ما طلبوه منا لأنهم أعداء ، وإن تظاهروا بالمسالمة والمودة .

-         وعلينا ألا نثق بهم ، فهم يتربصون بنا الدوائر .

آخر : وما جوابنا لهم وهم ينتظرون الجواب ؟

صول: لا جواب لهم إلا السلاح .

-         هو الرأي يا مولاي .

-         ولنكتب إلى كورصول ليعزم على المسير إلى البحيرة خلافاً لما أرادوا .

-         أرى يا مولاي أن ترسل كتاب القائد الأموي إلى كورصول مرفقاً بكتابكم ليتأكد من حسن نواياكم .

-         ونكون بذلك قد ضربنا عصفورين بحجر ، صداقة كورصول والأمن منه ، والإيقاع بالمسلمين عن طريقه .

-         وهذا عين الصواب يا مولاي .

…        …        …

ولم يتوقف نصر عن الاستعداد لمعركة البحيرة ، بل راح يجمع قوات المدد الذي جاءه من كل حدب وصوب  من أراضي المسلمين  ليبث فيهم روح الإيمان والحماس لعلهم يتحملون الصعاب من أجل إعلاء دين الله ، وقد خطب فيهم قائلا : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " . وأردف : الأيام صحائف أعمالكم ، فخلدوها بأحسن أعمالكم ، وإن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها ، والجهاد في سبيل الله .

ثم أنشد لهم من الأشعار ما يزيدهم قوة إلى قوتهم ، ويرغبهم في الشهادة في سبيل الله ، وختم خطبته بقوله :

هب الدنيا تواتيكا                أليس الموت يأتيكا

ألا يا طالب الدنيا               دع الدنيا لشانيكا

إلى كم تطلب الدنيا               وظل الميل يكفيكا

وكان نصر يتوقع أن تجمع العقيدة الوثنية بين العدوين اللدودين كورصول وصول ، ولهذا قدر أن يذهب كورصول بجيشه إلى البحيرة ليدخلها قبل أن يصل إليها المسلمون ، وكان فيروز يمني القائد الأموي بالنصر إن سارع كورصول إلى البحيرة ، ولهذا تباطأ نصر لعل عدوه يسبقه إليها ويتحصن بحصنها المنيع .

وكان له ما أراد …

ووصل نصر ليضرب حصاره بعد أن أحكم خطته واستعداده … وبدأت المناوشات تترى في كل يوم .

وكانت تخرج فئة من جند الترك فتقاتل المسلمين ، ثم ترجع إلى حصنها بعد أن تخسر بعض أفرادها ، أو تنكب المسلمين  ببعض أبنائهم .

ولكنهم على أي حال لم يصطدموا في حرب فاصلة.

وكان المسلمون في أرض ممرعة يكثر فيها الطعام والشراب والظل الظليل ، وكان أولئكم المشركون في بنيانهم المنيع ، وهم يحسبون أن تجمعهم فيه يؤويهم من لظى النيران ، وخطر المسلمين .

ولكن أمد الحصار طال … وضاق الترك ذرعا بمأواهم ، وأصابهم الطاعون ، ووقع فيهم الموت ، وإن المرض جند من جند الله يدفع الله به أعداءه ، وينصر به عباده المخلصين .

وكثرت شكاوى الترك ، وجاء كبير مستشاري كورصول ليقول له:         

-    إن جنودنا يسَّاقطون هلكى ، ولا نجاة لنا من هذا الحصار ، فقد أقام المسلمون وزرعوا وحصدوا وأكلوا، وانتشر فينا الطاعون، وللموت تحت ظلال السيوف أحب إلينا من الهلاك تحت وطأة الطاعون .

-         إذا لقد وافقت على الحرب ، وقد كنت أريدها من قبل .

-         لا حيلة لنا بغيرها ، فنحن اليوم …

وقاطعه كورصول :

-         أسرى أو شبه أسرى ، أليس كذلك ؟

-         أجل يا مولاي .

-         ألم أقل لكم هذا من قبل ؟

-         أنتم أبصر عيناً وأسد رأياً …

وأردف :- إن حتوفنا تساق إلينا .

-         ولقد خدعنا اللعين صول .

-         أتراه متآمراً مع المسلمين ؟

-         أحسبه كذلك .

وتابع :

-         يا ويله إن ظفرت به …

وسكت قليلا ثم قال :

- ناد بالجيش ليستعد للحرب الشعواء ، ولأذيقن المسلمين الوبال العظيم ، ثم  أكر بعدها على صول لممالأته لهم  .

-         تباً له من خائن غادر ..

-         وإن كانت له قرابة ، لقد أعماه الجشع وحب السلطة …

وسكت قليلاً ثم قال :

-         أسرع وناد بالجيش ، ولألبس دروعي ولأمتي .

…             …              …

ودوت في الآفاق صيحتهم الكبرى … وسمع نصر النداء … وأحس بتحركاتهم … فنادى بالمسلمين :

-         الله أكبر ، الله أكبر ، يا خيل الله اركبي وأبشري .

وشهد التاريخ حربا شعواء قل نظيرها ، وأبدى ابن أبي سبرة بطولة خارقة … وأسر عظيماً من عظمائهم ، وهو لايدري أنه كبيرهم .

وتكشفت الحرب عن دماء جارية ، وطيور محلقة في السماء تبغي رزقها ، ووحوش توافدت من البراري تطلب قوتها …

وجيء بالأسرى …

ونظر القائد الأموي إلى القائد التركي وهو لا يعرفه.

كان كورصول شيخاً عجوزاً يكاد يختفي بين دروعه وبيضته لا يبين منه إلا بؤبؤ عينيه الجسورتين، وكان يسحب درعه شبراً ، وقد ارتدى لأمة مزينة بالديباج والريش.

وقال نصر له :

-         أأنت قائدهم ؟

-         بل ملكهم كورصول المطاع .

قالها بحدة و تحد ، فضحك نصر وقال :

-         أحضروا فيروز ليتعرف إليه .

-         وهل فيروز عندكم ؟

-         أجل … لقد أعلن إسلامه .

-         خسئ من وغد خائن .

-         بل قل عظم من إنسان رشيد .

-         لقد تفقدته كثيرا فلم أجده .

-         ولم يخطر في بالك أنه أسلم؟

-         لا

وسكت هنيهة ثم تابع :

-         وكيف يخطر في بالي هذا وهو من كبار حراسي !!؟  

-         وماذا خطر في بالك إذا ؟

-         قلت : ربما أسر أو قتل دون أن يدري به أحد .

وجاء فيروز … ونظر إلى كورصول نظرة إكبار وإشفاق معا ، وقال بلهجته الرطينة :

-         أسلم يا كورصول فلأنت ذا عقل وبصر ، وما أظن عقلك إلا هادياً لك إلى الطريق المستقيم .

-         أأنت تقول لي هذا وقد كنت تسجد لي من قبل ؟

-    كنت جاهلاً أعيش في ظلمات الكفر ، ولكني الآن عرفت أن الله وحده هو خالق السموات والأرضين ، لاولد له ولا شريك ، وليس للبشر دم إلهي مقدس كما كنا نزعم من قبل .

-         لو لم أكن في مقامي هذا لقطعت جسدك إرباً إرباً .

-         ياعظيم القوم ، سأحكي لك قصة فرعون ، فلا تكن مثله في عناده …

وراح يرطن بلغة قومه ، وكورصول يزداد حدة ، وحماقة وكبرياء ، ثم التفت فيروز إلى نصر وقال بلهجة الغاضب :

-         هذا هو كورصول اللعين ، قاتله الله … لقد أبى إلا الكفر .

-         إن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

وسكت نصر هنيهة ، وقال لكورصول :

-         أسلم تسلم ، ويؤتك الله أجرك مرتين ، وتبقى على ديار قومك عزيزاً مكرماً ، و تحكمهم بالإسلام وشريعته العادلة .

ولكن كورصول أصر على إلحاده وغوايته .

وقال نصر له :

-         لقد مكننا الله منك ياعظيم القوم .

-         اسمع ياقائد المسلمين ..

-         وماذا أسمع ؟

-         أنا أعطيكم ألف بعير من إبل الترك ، وألف برذون تقوي به جندك مقابل أن تخلي سبيلي .

وسكت قليلاً ثمَّ قال : فما تصنع بعجوز قارب سن الموت ؟

-         آلآن وقد كنت قبل …

وقاطعه كورصول :

-         كنت ولا زلت محارباً .

-         أتقولها بكل وقاحة !!؟

والتفت نصر إلى من كان معه ، وقال:   

-         ما تقولون في رجل يعرض أمراً وهو يتحدى ؟

-         أيتحدانا ونتركه ؟

قال آخر : هو عجوز لاقدرة له على الحرب ثانية ، ولعل الله يلين قلبه بالعفو .

نصر :  كم عمرك ؟

-         لاأدري .

-         كم معركة شاركت فيها ؟ ؟

-         شاركت في اثنتين وسبعين معركة  .

-         أشهدت يوم العطش ؟

-         نعم .

-         ولم حرمت المسلمين الماء ؟

-         نحن في حرب ، والحرب خدعة ، ولها أساليبها .

-         أهكذا تفعلون ؟

-         للحرب أساليبها كما قلت لك .

-    ولكن ديننا يأمرنا ألا نتعرض لامرأة، ولا لشيخ عجوز غير محارب، ولا نقطع شجرة … هكذا تكون الرحمة، ولكنكم بطشتم بطشتكم الكبرى، ثم أتبعتموها بحرمان المسلمين من الماء.

-         وتأوه نصر من الأعماق وقال :

-         والله لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي أيها المجرم السفاك .

ثم التفت إلى غلام له وقال :

-         قم إلى سلبه فخذه .

وأيقن كورصول بالقتل فقال :

-         نحن بنو الموت ، وللموت خلقنا ، ولكن من أسرني ؟

قال نصر وهو يضحك :

-         قد يكون فيروز

-         فيروز لايستطيع ذلك فأنا أدرى به وإن كان الرجل شجاعاً .

وكرر سؤاله : من أسرني فإني أهل أن أقتل سبع قتلات .

فأشاروا إلى واحد ساخرين وقالوا :

-         أو هذا .

ونظر إليه غير مصدق ، ثم قال :

-         لست أجد مس القتل إن كان الذي أسرني هذا .

-         أسرك ابن أبي سبرة .

-         أين هو ؟ أرونيه .

وجاء ابن أبي سبرة يحمل سهمه، كان رجلا شهما حاد النظرات، مضيء الوجه ، تبدو عليه أمارات الفروسية والعزة الإسلامية .

وتأمله كورصول مليا ، ثم قال متعجبا :

-         أهذا ؟

-         نعم .

-         لقد رأيته في حرب سابقة .

-         أجل ، وكسر سيف أحد جنودك في خوذته .

-         ذاك إذا قاتل أخي … وإنه أهل لذلك … إنه شاب جلد صبور.

وتمتم كلمات غير مبينات …

والتفت نصر إلى الجند فقال :

- اقتلوه . 

وتهاوت السيوف على جسده … فخر على الأرض صريعا كأنه جذع شجرة هوى ، وإن له لجأرات كجأرات الثور … ثم لفظ أنفاسه الأخيرة …

وقال نصر :

-         اصلبوه على جذع شجرة على شاطئ النهر الذي قتل عليه أسرى المسلمين في يوم العطش .

وضج الترك ضجيجا لم ير مثله … وقطعوا آذانهم،  وجزوا شعورهم ، وطفقوا يبكون عليه بكاء حاراً ،وأرادوا أن يحملوه ، فقال فيروز :

-         يا أمير الجند ، أحرق جثته لئلا يعبدوه ويقدسوا عظامه .

وجيء بقارورة نفط فصبت عليه أمامهم ، وأضرمت النار ، وكثر اللغط والنواح ، وعزموا على الانتقام .

…        …        …

وحمل ابن أبي سبرة إلى واثلة غنائمه ، وقال :

-         خذ غنائمك كما وعدتك يوم أعطيتني فرسك .

-         ابق عليك مالك .

-         بل خذه ، فأنا لم آت إلى المعركة طمعا بغنيمة أو بمال.

-    وأنا لم أعطك فرسي لأقبض منك مالك ، بارك الله لك به، ووالله ما حملتك عليه إلا ابتغاء وجهه الكريم , ولقد رجوت الله أن تكون بطولتك الفذة نصراً للمسلمين .

كان نصر يشهد حديث الرجلين ، فقال لمن يجاوره :

_ إن جيشاً فيه مثل هذين لجيش منصور بإذن الله ، فإن الله سبحانه ينصر المجاهدين بإخلاصهم له .

               الفصل الثالث

الانتقام

كان صول يرقب أمر المعارك في منطقة البحيرة ، ويلتقط أخبارها ، فلما جاءه نعي كورصول أدرك أن الدائرة ستدور عليه لا محالة ، وأن المسلمين لا بد أن ينتقموا منه جزاء غدره وخيانته ، ومحاولته الإيقاع بالجند الإسلامي … ولذلك عزم على أن يبدأ الحرب قبل أن يبدؤوا ،فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، وجهز لذلك جيشا قوامه ثلاثون ألفا أو يزيدون ، وترصد للمسلمين في الشعاب والأودية لينقض عليهم انقضاض الوحش الجائع على فريسته .

…            …           …

كان المقرر أن يكون مقدم الجيش الإسلامي إلى المعسكر ليلا ، وقد جاؤوه بعد جهد جهيد ، ولفت انتباههم مشاهد نيران متفرقة هنا وهناك ، فقال قائلهم:

-         إن الترك يكمنون لنا في أماكن متفرقة .

وسمع نهيق حمار ، فقال واحد :

- إن الترك قريبون منا . 

فقال آخر: أما علمت أن الترك لا حمير عندهم .

-         أصابوها في حروبهم معنا .

فقال نصر : أرسلوا العيون ندرك من أخبارهم ما يحمينا من الوقوع في شركهم .

قال واثلة : أنا لها يا أمير الجند .

وقال ابن أبي سبرة :

-         وسأرافقه حماية له .

نصر : بارك الله فيكما ، اذهبا في رعاية الله وحفظه .

وسار الجنديان المخلصان بحذر شديد … ورأيا … وعادا ليخبرا بما رأيا وعرفا ، وقال واثلة :

-         إن الترك قريبون منا ، وقد نصبوا عرّاداتهم ، ومعهم من القوة ما لم يكن في الحسبان .

-         إذا فلنأخذ حذرنا وأسلحتنا حتى في صلواتنا ، فلعلهم عرفوا من أمرنا ما عرفنا منهم .

وأعاد نصر ترتيبات جنده ، وحدد لهم مواقع القتال، وأمر بأن تتقدم الأثقال ، وبات الجند المسلمون يصلون ويتضرعون ، والجيش الوثني يغط في سبات عميق …

واستشار نصر أصحابه في طلب المدد ، فأشير عليه بذلك .

-إذا ، من رسولنا إلى الأمير ؟

قال أحدهم : أنا لها يا أمير الجند .

-         احذر كثيراً ، فإن المهمة قاسية ، والناجي منها مولود جديد .

-         لا تخف يا أمير ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .

-         ستمر في أراضي الترك ، أو قريبا منها ، وقد يعرفون أمرك .

-         إن العمر بيد الله ، وهو يدافع عن الذين آمنوا .

وسكت واثلة قليلا وقال :

-         ولكن …

-         ماذا يا واثلة ؟

-         أريد فرسك الكميت .

-         لعمري لئن جدت بدمك ، وبخلت عليك بفرسي ؛ إني إذا للئيم .

ودفعه إليه وودعه وهو يدعو له .

ركب الرسول الفرس، وراح يخب به في الظلام يريد أقرب منطقة إسلامية من سمرقند ، ينجد أميرها أخاه في هذا المأزق الحرج، ويبلغه فيها نصر الله للمسلمين، وقتلهم كورصول اللعين …

ومر في طريقه بأراضي الترك فعرفه أحدهم من هيئته، وقدر أن يكون رسولاً يحمل أمراً، فلحقه ، ولكن واثلة غذ السير على فرس نصر الأصيل ، فلم يستطع التركي لحاقه ، فلما وصلا إلى شعب من الشعاب التفت واثلة فجأة ورمى سهمه إلى التركي فأصابه في مقتله ، فهوى عن دابته .

وتابع واثلة مسيرته … وأدى مهمته … وعاد يخب بفرسه ، ولكنه ضل الطريق، ورأته طلائع المعسكر التركي فعرفت مكان المسلمين، فأشرف صول على تل قريب منهم وجعل ينظر إلى معسكر عدوه من علٍ عله يرى ثغرة يستطيع النفاذ منها إلى المعسكر، فرأى من خلفه جزيرة دونها مخاضة، فدعا بعض قواده، وأمرهم أن يصعدوا التل، وحدد لهم المكان الذي يدخلون منه إلى المعسكر الإسلامي، وأمرهم أن ينفذوا جريمة نكراء تحت جنح الليل  وقبيل الفجر …

وكان لهم ما أرادوا قبل أن يصل المدد …

وصحا المسلمون على قعقعة السيوف ، وأصوات الجرحى ، وروائح الدخان ، فما تداركوا الأمر إلا بعد مقتل الكثيرين ، ثم اشتبك الجيشان …

وبينما كان المسلمون في ضيق شديد ، إذ برهج كثيف قد ارتفع في السماء ، فقال نصر :

-         نصرنا ورب الكعبة، هاهو المدد قد وصل، أبشروا يا عباد الله، فإن الله مخذل كيد الكافرين.

وكأنما حركت هذه الكلمة جذوة الجهاد في النفوس، فاتقدت حمية … وكانت معركة حامية الوطيس علا فيها صوت نصر :

-    استنصروا الله ينصركم ، ولن يضركم كثرتهم وقلتكم ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وإن الجنة تحت ظلال السيوف ، ومن استشهد فله الجنة .

-         وتفانى المسلمون في الدفاع ، واستبسل المشركون الترك في المقاومة . وقال نصر لجنده :

-         ليخرج منكم خمسون ، وليتتبعوا خطى قائدهم صول، لايقصدون غيره، فلعل صول يلحق بكورصول .

وما هي إلا برهة وجيزة حتى كان ابن سبرة يتقدم الصفوف لينال شرف قتل الطاغية كما ناله من قبل عندما أسر كورصول، وقتل أخاه، وشد مع رجال آخرين شدة رجل واحد ، وهاجت ريح الحرب … وتلامعت السيوف، وتقاطرت الدماء بل سالت، وتعالى في الأفق المغبر نداء الله أكبر… وأحس صول بالخطر فولى دبره …

وقال فيروز للقائد الأموي :

-         إني لأعلم منكم ببلادي وطرقها فاتبعوني .

ولحقه جند كثيرون … وأشرف فيروز على مناطق صول فعرف مكامن الجيش الهارب فهبط إليه … فلما أحس صول بالخطر الداهم ترك المنطقة وولى هاربا ، ولحقه بعض قومه .

وأسر المسلمون نساء ورجالا … وكان فيهم امرأة خاقانهم صول، وأراد واثلة أن يحملها فأعجله تركي وطعنها لئلا تقع في الأسر …وأنقذت نساء مسلمات وعدن مع الأسرى العائدين إلى مناطق المسلمين ، وابتهج الجند النصر المبين ، وسجدوا شكرا لله ناصر عباده المؤمنين، ووزعت الغنائم … وكان فيها تاج مرصع بالجواهر، فقال نصر :

-         أترون أحدا يزهد في هذا التاج ؟

-         لا .

-         نادوا محمد بن أبي سبرة .

وجاء ابن ابي سبرة ، فأعطاه نصر التاج ، فرده إليه قائلا :

-         لا حاجة لي به .

-         عزمت عليك أن تأخذه .

-         لم آت للغنائم ، ويكفيني قوت يومي وسلاحي .

-         بل ستأخذه .

تناوله محمد بن أبي سبرة وهو به زاهد ، ثم نادى واثلة، وأعطاه إياه وهو يقول له :

- نرتضي الموت ونأبى أن نهون      في سبيل الله ما أحلى المنون

وأردف :

-         لقد كنت نويت الجهاد في سبيل الله ، وأن أقتل ههنا ، كما فعل الأعرابي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

واحد :  وما فعل الأعرابي ؟

-    لما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم الغنيمة قال : إني لم أسلم لآخذ غنيمة ، ولكن لأقتل ههنا، وأشار إلى عنقه ، وقتل كما تمنى بعد أن أصيب في المكان الذي أشار إليه ، فقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : " صدق الله فصدقه ".

واثلة :  لاحق لي بالتاج ، ولن آخذه .

وتابع :

إن الجهاد حصانة ومتانة        وصيانة في عزة وإباء

ابن أبي سبرة :  عزمت عليك أن تأخذه .

أخذه واثلة ثم تقدم به إلى نصر قائلا :

-         أيها الأمير ، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .

-    كان نصر وكبار مستشاريه يشهدون ما حدث من أمر التاج ، فلما قدمه واثلة إليه أكبر فيه مروءته ومروءة ابن أبي سبرة ، وإخلاصهما لله سبحانه ، كما أكبر من قبل تفانيهما في سبيل مرضاة الله وإعلاء دينه، وقال :

-         إن هذين الرجلين ضربا مثلا للمجاهدين الصادقين المخلَصين .

عاد صول إلى بلاده شديد الحنق على المسلمين ، حتى ليكاد الغيظ يأكل كبده ، وفكر في طريقة ينتقم بها من المسلمين ، فما وجد إلا أن يحرض ملك " الإصبهبذ " عليهم ، فكتب إليه :

"اقتل من عندك من أسرى المسلمين في ليلة واحدة "

ونفذ اللعين الجريمة …وسالت الدما الزكية تروي الأراضي العطاش … ولكنها أذكت في النفوس جذوة الحقد على الكفرة الملاحدة، وشجعت على المضي في الجهاد في سبيل الله لإنقاذ العباد من هؤلاء الوثنيين .

وتمكن أحد المسلمين من الهرب، وكانوا يظنونه في القتلى، وجاء إلى القائد المسلم يروي له القصة وقال :

-         أدرك – يا أمير الجند – المسلمين الموحدين .

-         ما الخبر ؟

-         إن صولا أمر بقتل أسرى المسلمين في بلاد الإصبهبذ.

-         وكم كان عددهم ؟

-         أربعة آلاف ، قتلهم في يوم واحد .

-         ومن أعلمك النبأ؟

-         كنت معهم ، ولكني تظاهرت بالموت ، ثم تمكنت من الهرب .

-         وكيف ؟ لله درك !!…

-    تظاهرت بأني كنت في عداد الأموات ، ولطخت وجهي وثيابي بالدماء،  فلما عادوا ثانية ليذبحوا من كان به رمق من الجرحى حسبوني ميتا فنجاني الله .

-         قاتلهم الله … قاتلهم الله … والله لأطحنَنَّ بدمائهم ، ولأجريَنَّ الدم نهرا كما أساله خالد بن الوليد في حرب فارس .

واجتمع نصر بقواده ومستشاريه ، وكان فيهم فيروز ، واتفقوا على رأي …

ومع الفجر كان فيروز يمتطي خيله في طريقه إلى بلاد الإصبهبذ … ووصل إليه بعد عناء ، فلما دخل على صول قال له :

-    قد علمتم أني من بني جلدتكم ، وأني ، وإن أعلنت إسلامي، إلا أن أهلي وأقاربي في دياركم ، وقد رأيت أن من حقكم وحقهم علي أن أحذركم من عدوكم ، وقد علم المسلمون بما كان للأسرى ، فأقسم قائدهم ليجريَنَّ النهر دماً ، إنه غاضب غضبة لم ير مثلها ، وقد طلب مدداً كبيراً من الخليفة الأموي لاطاقة لكم به ، ولقد جئت إليكم في غفلة منهم ، ولو علم أمري لبطش بي ، فصالحوه ، أو اخرجوا من دياركم ، ولا تبقوا فيها أحدا ، فإني لا آمن عليكم ولا على أهلي شره .

فأجابه صول :

-         وإنا لا نأمن من شرك أيضا ، فلقد صرت مع عدونا ، وأطلعته على عوراتنا .

-         ولكني جئت الآن ناصحاً لكم لأن أهلي وقرابتي بين أظهركم .

-         لستَ بالناصح الأمين ، بل أنت صابئ مخادع .

-    هل تسمحون لي إذاً بأن أحمل أهلي وقرابتي ، فإني أخاف أن يقتلوهم ، وإني نصحتكم ، فلعلهم حين تصالحونهم ينشرون الإسلام في ربوع الترك سلماً لا حرباً كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة سلماً ، وعفا عن أهلها رغبة في إسلامهم ، وفي حقن دمائهم .

ضحك صول ضحكة مرة ، وقال بلهجة الساخط المغتاظ :

-         أجئت لتنصحنا أم لتمدح أهل دينك ؟

-    جئت لكم ناصحا كما قلت لكم ، وإنكم إن لم تصالحوهم،  وتسلموا إليهم قبل أن يأتيهم المدد فلَيُقَتّلُنّكم شر قتلة كما قتلتم أسراهم، وقد أعذر من أنذر .

-         لن نؤمن لك ، وسنجهز أنفسنا حتى يأتي الشتاء بالثلج والبرَد والصقيع ، ولا طاقة لنصر على الحرب في الشتاء القارس .

-         لكم ما تشاؤون .

وسكت قليلا وقال :

-         أتسمحون لي بزيارة أهلي .

-         لا نسمح لك ، وأنت رسول حرب ، ولست فيروز الذي نعرفه .

وعاد فيروز ليخبر نصرا بما سمع ورأى … وعزم نصر على الهجوم قبل أن يحين موعد الشتاء .

…       …            …

وبينما كان نصر وكبار قواده ومستشاريه يتداولون الرأي حول الحرب المقبلة التي قدروا لها أن تكون أعتى حرب في بلاد الترك لمح نصر جنديا مقبلا نحوه بسرعة، وقد بدت عليه أمارات التعب ، وسيما الجد فلما وصل حياه بتحية الإسلام وهو يلهث :

-         السلام عليك يا أمير المسلمين .

-         وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، ما وراءك يا رجل ؟

-         ورائي العدو وقد تجهز بأعتى العتاد ، وأقوى العدة، إنه قريب منا يا أمير الجند .

-         ماذا ؟ أنحن مهددون بالخطر ؟

-         أجل ، وعلينا أن نأخذ أهبتنا بأسرع وقت ممكن .

التفت نصر إلى حرسي له وقال :

-         ناد فيروز .

وجاء فيروز فقال له نصر غاضبا :

-         أحننت يا فيروز إلى أهلك وديارك فأخبرتنا بغير الحقيقة ؟

-         لم تقول لي هذا يا أميري ؟

-         أميرك ؟ !!…

وأردف :

-         ألم تقل إن صول لن يحاربنا حتى يجيء الشتاء ؟

-         أجل … هذا ما قاله .

-         أأنت صادق فيما رويته ؟

-         لم أكن لأبتغي بديلا عن مرضاة ربي .

-         إذا فلم عسكر صول على مقربة منا، وهو أقوى ما يكون قوة وعتادا ؟ قل لي كيف تم هذا بهذه السرعة ؟

-         ومن قال لك هذا ؟

-         هذا الجندي .

وأشار إلى القادم المخبر .

-         ولقد جئتك بخبر آخر سمعته الآن ، وكنت على وشك المجيء إليك لولا أنك سبقت وطلبتني .

-         ماهو ؟

-         أتذكر الرجل التركي الذي حدثتك عنه يوم كنا في حرب البحيرة؟

-         أجل ، ما شأنه ؟

-         ألم أقل لك يومها أن صول ضربه ضرباً أليماً كان سبباً في إسلامه ؟

-         أجل

-         ولقد أسلم الرجل كما قلت وأخبرني  

وقاطعه نصر قائلا : بم أخبرك ؟

-         قال : إنه ذهب للصيد فرأى وعلا رقي الجبل ، فتبعه فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم .

-         وكيف عرف أنه عسكرهم ؟

-         قال : إن ملابسهم كملابسهم ، فالريشة الحمراء التي يضعونها على رؤوسهم هي الريشة التي يضعها جند صول وكورصول .

وأردف : أتسمح لي يا أمير أن أنادي طورخان ليحدثكم حديثه ؟

- ناده .

والتفت إلى مستشاريه وقال :

-         علينا أن نسرع بالتجهز وبجمع الأخبار أيضا .

-         وجاء طورخان … وأتم حديث صاحبه ، وقال له نصر :

-         وماذا فعلت عندما عرفت أنهم جند العدو ؟

-         رجعت أريد عسكرنا ، وخفت ألا أهتدي إلى الطريق ثانية فجعلت أمزق قميصي ، وأعقد على الشجر علامات حتى وصلت إليكم .

-         يالها من خطة لم تخطر على بال أحد . بارك الله بك .

-         إن الله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم .

-         سبحان الله ، المؤمن يعمل بنور الله .

آخر :

- كن مع الله وابتغ الله وحده            ليس إلاه في العوالم عدة

فأجابه نصر :

- هي الطريق طريق الله واحدة    وأشقياء غرور العقل في طرق

وتابع :

-    أرسل معك من يتأكد من الخبر ، فليست الهجمة في هذه المرة كغيرها من الهجمات ، فلقد استشهد منا كثيرون ، والمدد لم يصل ، والجيش قد أنهكته الحروب .

وسكت قليلا ثم قال لطورخان :

-         متى تصل إليهم ؟

-         غدا إن شاء الله عند صلاة الظهر .

فقال نصر لابنه :

-    تجهز يا بني لتكون عندهم وقت صلاة الظهيرة ، وإياك أن أراك منهزماً أو خواراً ، وخذ معك واثلة ، وابن أبي سبرة ، فإنهما مخلصان لله سبحانه ، وإن الله ينصر عباده المخلصين .

-         وضم إليه عشرة آلاف من الجند ، وكان فيهم فرسان كثيرون ، ولما أرادوا الانطلاق ودعهم قائلا :

-    امضوا على بركة الله ، وليكن هدفكم في حروبكم إعلاء كلمة الله وشرعه في هذه المعمورة، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ولينصرَنَّ اللهُ من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، ولقد جئنا نبتغي إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة …

وسكت قليلا ثم قال :

- امضوا على بركة الله ، وفي رعاية الله .

…            …               …

ومضى الجيش إلى مراده

وقال نصر لمن بقي معه :

-         اجمعوا حطبا كثيرا .

وجمع حطب كثير حتى غدا كالتلال ، ولما قارب انتصاف اليوم الثاني أمر نصر بإشعال النار ، فأضرمت النيران ، وتحول نهار المعسكر إلى ليل ، وليله إلى نهار …

وقال قائل وهو يشهد هذا الموقف المهيب :

ضوء من النار والظلماء عاكفة    وظلمة من دخان في ضحى شحب

ونظر العدو، وكان على مقربة من المسلمين  فهاله ما رأى، وظن أن المدد قد جاء المسلمين ، فقال قائدهم لمستشاره :

-         ما رأيك أن نؤجل المعركة حتى يكون الشتاء إذ لا طاقة لنا أمام هذا المدد ؟ 

-         هو الرأي يا كبير القوم ، ولا رأي سواه .

-         إذا فلْنلجأْ إلى الحصن لنرى ما سيكون من أمرنا وأمرهم ، ونستشير الملك صول في ذلك .

-         أرى أن تسرع في استشارته .

…                  …                     …

وبينما كانوا منهمكين في عملية الفرار إلى الحصن إذا الجيش الإسلامي يطبق عليهم ، فحاولوا الإسراع ما استطاعوا ، ولحق نصر بجند المسلمين فاشتعل أوار المعركة ، وأسفرت الحرب بعد لأواء شديدة عن أسارى كثيرين .

وجيء بالأسرى إلى نصر ، فقال :

-         اقتلوهم واصلبوهم على يمين الطريق ويساره …

واقتيد اثنا عشر ألفاً منهم إلى واد قريب ، وقتّل الكثيرون منهم ، وبينما كان المسلمون يبتهجون بالخلاص من فئة الكفر إذا بجيش صول ينقض عليهم انقضاض الأسد على فريسته …

واشتبك الجيشان … وسفكت الدماء حتى خاضت أقدام الفرسان في دماء الفريقين … واستمرت المعركة بضعة أيام حامية الوطيس ، وشاء الله أن ينصر عباده المؤمنين بوصول المدد إليهم ، وإن ربك لبالمرصاد .

وأسر صول وكان يحاول الهرب في زي عجوز … وتعرف عليه فيروز وطورخان ، ونشر الخبر بأسرع من الريح ، فخارت قوى العدو … وبدأ يتراجع …

وقال ابن أبي سبرة :

-         ليتني كنت آسره ، إذاً لجمعت شرف أسر صول إلى كورصول  في يوم القيامة .

فأجابه واثلة :

-         لقد شهد الله بلاءك .

وقال نصر لمن معه :

-         اطلبوا ثأركم ، وليقتل كل منكم من يشاء .

وذبح الكفرة ذبح النعاج … وقتل أربعون ألفا ، وأجريت الماء في الوادي على الدماء وعليها الرحى ليطحن نصر بدمائهم فيبر قسمه .

وجيء بكبيرهم صول فقيل له :

-         ما حملك على الغدر بنا في يوم البحيرة ؟

-         الحرب خدعة .

وسكت قليلا ثم قال :

-         وهل كنتم تظنون أنني أصادق عدوي ، وأخذل بني جلدتي وعقيدتي ؟

-         لقد كنتَ معارضاً لكورصول .

-         كنت معه على خلاف ، ولكن عداوتكم وحدت بيننا .

قال نصر : الكفر ملة واحدة .

وقال ابن أبي سبرة لواثلة :

-         جاهلية جهلاء أعمت بصائرهم .

نصر : ألا تؤمن بالله فيبقى لك ملكك ، وتحكم بشريعة ربك ؟

-         لو كنت أومن بدينكم لصرت معكم كما صار فيروز معكم .

-         وأردف : أنا لا أحيد عن دين آبائي وأجدادي.

-         حتى وإن كان آباؤك وأجدادك على باطل ؟

- هذه عقيدتي .

نصر : اقطعوا رأسه … اقتلوه واصلبوه ، ثم أرسلوا رأسه إلى الخليفة الأموي .       

وتهاوت السيوف فوق رأسه … فجأر جأرة الأسد الهصور ، ثم خمد صوته إلى الأبد بعد أن ارتجفت أضلاعه … ولفظ أنفاسه الأخيرة …

وقطع رأس عظيم الترك ، وأرسل إلى أمير المؤمنين في دمشق يحمله ابن أبي سبرة وواثلة .

وكتب نصر رسالة أرسلها مع الرأس ، وكان فيها: إن الله فتح للمسلمين فتحا مبينا ، فله الحمد على نعمائه وإحسانه ، وللخليفة ، إن شاء الله ، ثواب المجاهدين لنشر دين الله وإعلاء كلمته …

ثم حكى له الكمين الذي تعرض المسلمون له ، ثم قال :

وإذا العبد لاذ بالله نجّا    ه ، فولى الشيطان عنه وأبلس

فأجابه الخليفة :

-         بارك الله بكم من مجاهدين صادقين ، فلقد أخلصتم قلوبكم فأيدكم الله بنصره وآزركم ، فأنتم كما قال الشاعر :

هي أمة جعلت لتن     شر في البرايا ظلها

و:

وطريق النصر ليست ظللاً من ياسمين

جنة الرضوان في ظل سيوف الفاتحين

…     ….       …

وسجل التاريخ لنصر بن سيار آخر القواد الأمويين فتح سمرقند ، وشهدت السماوات والأرضون أياديه البيضاء على الترك ما عاش الترك على وجه المعمورة …

وكان هؤلاء الترك المسلمون أجداداً للترك العثمانيين الذين فتحوا القسطنطينية معقل الكفر آنذاك ، ونشروا السلام في أوربا ، ووحدوا الدولة الإسلامية لتقف أمام أعدائها من الصهاينة والصليبيين .

وسوم: العدد 629