أخلاق العلماء
الجامعات إحدى قطاعات التربية ، بل هي أهم القطاعات وأخطرها ، لما لها من تأثير كبير في تنشئة الأجيال الذين يمثلون البنية الأساس في الدولة ، والقائمون عايها يفترض أن يكونوا خيرة شعوبهم ، وأن تصطبغ أخلاقهم بالصبغة الإسلامية ليكونوا قدوة حسنة لمن معهم زملاء كانوا أم طلابا .
وإذا كانت المهن الأخرى تتعامل مع المادة فإن مهنة التعليم يتعامل ذووها من العقول والقلوب ، ولهذا ربط المولى تعالى بين العلم والعقل والقلب في قوله " هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ، إنما يتذكر أولو الألباب" .، ولذلك فإن من سمات العالم أن يتعالى على الدنيا ومغرياتها ، وأن يكون هدفه توعية الأجيال ، والسمو بها نحو تحقيق أهدافها الرفيعة ، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى إلى الناس ليرشدهم ، ويتحمل السفر والمشقات ليدعوهم ، وكثيرا ما كان يلقى منهم الأذى فيصبر عليهم ليواصل مسيرته ومواعظه ، ورحلته إلى الطائف خير دليل على ذلك .
لقد جاء المعلم إلى المؤسسة التربوية ليعلم لا ليشهر ، وقد يكون تشهيره افتراء وزورا ، ليحصل على منفعة دنيوية ، ومغريات لاتسمن ولا تغني ، إن ذلك ليس من أخلاق العلماء ، لأن العالم من جمع إلى العلم المكين سمو النفس ، ورقي الفعال ، وصحة السريرة والنيه ، وليس من حصل على شهادة عالية فاغتنم بها دنيا ، إن التعليم رسالة سامية ، وخشية من الله سبحانه خشية تصده عما لايليق ، قال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ، وإذا كان المولى سبحانه قد فطر النفوس على حب المال والسعي في مناكب الأرض فإنما كان ذلك ليعمر بجهوده الكون طبقا لما أراده مولاه الذي سخر له ما في السماوات وما في الأرض ، ولقد سن له الطريق المستقيم حين حذره من التكالب على الدنيا فقال جل وعلا " إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " ولذا فإن على العالم أن يترفع عن التراب ، وألا يجعل دنياه في يده بل في قلبه ، لئلا تتملكه فتسير تصرفاته وسلوكياته ، وأن يهذب فعاله لتكون طبقا لما يرضي الله لا طبقا لما تريده أهواؤه ، وأن يحد من طغيان نفسه الأمارة بالسوء ، وأن يتدبر آيات الله الرقيب الحسيب الذي ندد بالتكالب على الدنيا بقوله " كلا بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين ، وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا جما ، كلا إذا دكَّت الأرض دكّاً دكّاً ، وجاء ربك والملك صفّاً صفّاً ، وجيء يومئذ بجهنم ، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ، يقول يا ليتني قدَّمت لحياتي " ، ويومئذ سيأتي كل ذي حق ليأخذ حقه ولو كان كلمة تجريح تعرض لها أو انتقاصا من شأن أو000
إن العالم من اهتدى بهدي ربه ، وسعى لمرضاة خالقه ،وعمارة كونه بما يرضيه ، وعمل على هداية الإنسان إلى رشده ، ولقد سخر الله سبحانه له كل ما يحتاجه لتحقيق مهمته الجليلة ، رسالته في حياته بإخلاص وتفان ، وكفل له رزقه ، ويسره له ، وما من نسمة تموت حتى تستوفي رزقها ، حتى من نسمات الهواء ، " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ، ولهذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتقللون من الدنيا ويقنعون باليسير ، ويدعون المغريات من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، فإن جاءتهم ، وهي رزقهم اتخذوها سبيلا إلى شكر المنعم عليهم ، وقد يتنافسون في الخير ،والطريق أمامهم مفتوح ، ولكنه التنافس البريء الخالي من الإيذاء والتعريض ، والمسخر لصالح الأمة لا لإشباع الأنانية .
إن العفة والتعفف من أخلاق العلماء ، و"من لم يشكر الناس لم يشكر الله " كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ، ولقد نفذ السلف الصالح وصاياه ، قال الحسن " كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه ، وهديه ولسانه ، وبصره ويده " ، وإن أقل ما يطلب من العالم أن يدرك حقارة الدنيا إلى جانب عظمة الآخرة ، وأن يعنى بتحصيل علمه لا ليزداد رفاهية ، مطعما ومسكنا ، لأن هذه أخلاق الجهلاء لا العلماء ، قال الحطيئة في هجاء له :
دع المكارم لاترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الكطاعم الكاسي
فالمطعم والمشرب هم من لاهم له إلا الدنيا وزينتها ، وحينئذ لا يكون أهلا لأن يرتفع إلى مصاف العلماء من عباد الله لأنه ارتضى أن يكون في صنف الجهلاء ، قال تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون " .
وما أعظم العز بن عبد السلام يوم جاء إلى سلطانه ليعظه ، فأعطاه السلطان ألف دينار فردها وقال " هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا " :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
واذكروا قوله تعالى " إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم "
وسوم: العدد 630