المشروع الإسلامي بين عدوله وغلاته، الفوالق الشرعية الكبرى 1
أولاً - الظاهرية
لم يتضرر أحد من تخبطات أهل الغلو والتطرف كما تضرر مشروع الرسالة التي بعث الله بها رسوله رحمة للعالمين . نؤكد بكل جزم : أن الضرر الأكبر من سلوك هؤلاء الغلاة ، و من مشروعهم ، إن كان من الممكن أن نسمي ما بأيديهم مشروعا، قد وقع ،بالدرجة الأولى ، على الإسلام مشروعه ودعاته وأبنائه ، وقد استطاعت هذه المجموعة الناشزة عن جماعة المسلمين ، على اختلاف مدارسها ومشاربها أن تشوه من وجه الإسلام الجميل ما عجزت عن بعضه كل أجهزة الإعلام المعادية ،بما فيها أجهزة المستبدين الفاسدين . فأي إساءة أكبر للإسلام من إساءة تتم باسم الإسلام عقيدته وشريعته ومناهجه ووسائله على السواء ؟!
كتبنا مرارا أن خلافنا مع هذه المجموعات ليست خلافات شعاراتية ، ولا شعائرية، ولاهي مرتبطة بخلافاتهم مع قوى ودول يطيب لهم أن يفرزوها أصدقاء أو أعداء ، وإن كنا في كثير من الأحيان لا نوافق على أسس هذا الفرز ، ولا نقبل بمقدمات معاركهم الدون كيشوتية ولا بمخرجاتها الكارثية ، التي تجلب على الإسلام والمسلمين أكثر مما تدفع عنه وعنهم . وربما نجد فرصة للعودة إلى فضاء هذه الاختلافات الاستراتيجية ، بينما سنفرد هذا البحث للوقوف على الفوالق الشرعية المنهجية التي كان لها على عمق التاريخ الفقهي والدعوي الإسلامي تردداتها وصداها ...
الفالق الأول : الظاهرية في الفهم والرسم ...
وكانت لهذه المدرسة المباشرة في فهم النصوص الشرعية والتعامل معها، ورسم الأحكام على مؤدى ظاهر دلالتها تجلياتها العلمية التاريخية ، تجسدت أولا بفقه داود الأصبهاني الظاهري ( القرن الثالث الهجري ) ، ثم بشكل أوضح في فقه ابن حزم الأندلسي ( القرن الخامس الهجري ) ، ولكنها وجدت أنفاسها الحقيقية فيما سمي تلطيفا بمدرسة أهل الحديث أو الأثر التي أقامها أتباع الإمام أحمد رحمه الله تعالى من منهج في الفهم قارب المنهج الظاهري حتى الإغراق ، وجانبه في مواضع لضرورات كانت تفرضها طبيعة النصوص الشرعية في سياقاتها اللغوية والعقلية. علما أن الإمام أحمد كان مجانبا لداود الظاهري معاصره ، ولم يقبل وساطة ولده في مقابلته . ولم يؤت داود الظاهري من ورع ودين وإنما أوتي وسائر أتباع هذه المدرسة من عقل وفهم . ومع ذلك فقد ظلت هذه المدرسة متنحية مرجوحة لم تجد لمنهجها رواجا بين المسلمين ، ولا سلطانا على حياتهم .
ذلك أن أئمة المسلمين بمدارسهم المتعددة ، مع إقرارهم بدلالة ظاهر النص في سياقاتها المعتبرة، قد وضعوا قواعد لتفسير النصوص ، قائمة على معطيات العربية ، ومفهومات الشريعة ، ومقاصدها العامة ، ومتغيرات الحياة ، وأعراف المجتمعات ؛ فسلكوا في فقه الاستنباط ( أصول الفقه ) الطريق الأقوم . تحدثوا عن ظاهر النص ، وعن دلالة النص ( الفحوى ) ، وتوقفوا عند مفهوم المخالفة فأطلقوه وقيدوه ، وتحدثوا عن الشرط ودلالته ، وعن الواضح والمبهم والمجمل والمفصل والخاص والعام . وكانت مناهج الاستنباط والتفسير علما قائما بذاته نشأ نتيجة جهود وثمرة قرائح وكانت الأساس الذي قام عليه البناء الإسلامي التشريعي العظيم .
وحتى مدرسة الحديث والأثر في صيغتها الحنبلية الفقهية التاريخية ،كانت لها قواعدها وضوابطها في الفهم والتفسير والاستنباط ؛ ولم يكن حالها أبدا وحاشا فقهاءها ،أن يقتنص أحدهم النص الشرعي من سياقه اقتناصا ، فيوقعه حيثما اتفق ، ويضرب به في وجه الكبار والصغار ، ويقيم عليه حكما ، ويستحل به دما وعرضا وظهرا ومالا ، ويحمل الأمة من خلال فهمه المسطح المحدود على الصعب والذلول ، ويحمّلها من الجرائر ما لا قِبل لها به ، ولا قدرة لها عليها ...
يفهم أحدهم من قوله تعالى (( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ....)) أنه لو وجد مسلم واحد في مجتمع لوجب عليه أن يحمل السلاح مقاتلا عسى الله ، ويقول إن عسى من الله تفيد التحقيق . ويهوم في دوامات الفهم المسطح متغافلا عن حقائق كلية في معطيات الحياة ، وتطور المجتمعات ، وتوفر حرية الدعوة للدعاة . ويزج بمثل هذه الآية مجتمعا في حرب ، وشعبا في أتون ...
إن هذا الفهم الظاهري المباشر للنص الشرعي ظل طوال قرون الإسلام مرجوحا أو متنحيا . حتى قال سلفنا الصالحون ( ليس من الحزم الأخذ بمذهب ابن حزم ) على ما في محلى ابن حزم رحمه الله تعالى من علم وفقه .
لقد أمرنا القرآن الكريم بتدبر القرآن ، أي النظر في مآلات معاني الآيات ، وحدد لنا مرجعية الفهم في طبقة (( الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ )) من العلماء الأثبات (( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ )) .
والذين يستنبطونه من هذه الأمة قد وضعوا قواعد ونهجوا مناهج لا يمكن لكل من حفظ من القرآن آية ، أو روى من الحديث نصا أن يرفع بأحدهما السيف أو السوط على الناس ...
بين العدول من دعاة هذه الأمة وبين أهل الغلو والتطرف وإن تعددت الرايات والأسماء فالق منهجي أولي ، ولا نقول فارق منهجي . لايمكن أن يجسر إلا بحملات مبرمجة واعية من التعليم ثم الترشيد ثم التوعية الدائبة المستمرة .
إن ما عجزت عنه الأنظمة الفاسدة المستبدة على مدى قرن من الزمان من تنفير الناس من دين الله ، ومن حسن وعد الله ، ومن جمال لحياة وفق منهج الله السمح اليسر الرخي قد نجح فيه هؤلاء وإلى حد كبير ..
ومن هنا واجب على أهل العلم الأثبات وحملة المشروع الرحمة للعالمين أن يؤكدوا على هذا الفالق المنهجي الأساسي بين منهج العدول من حملة مشروع الرحمة للعالمين وبين منهج المنفرين المعسرين الفتانين من أهل الغلو والتطرف الذين ادعوا يوما أنهم يعلمون الإمام علي رضي الله عنه بدينه ، ويحملونه على حق ألبسوه كلمة الله ، ويصرخون في وجهه ( لا حكم إلا لله ..)
يتبع : الفالق الثاني ( الشكلية ...)
وسوم: العدد 631