قيمة الحفنة المؤمنة في ميزان الله
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام , تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر , هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاما كما يقرر القرآن .
إن هذه الحفنة - وهي ثمرة ذلك العمر الطويل ، والجهد المرير - قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ; وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض ! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك , وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد . .
وهذا أمر خطير . .
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها ; والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة ; كما تعاني الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل . . إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلا أمام هذا الأمر الخطير , وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير !
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى . .
شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعا ; كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد !
لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه , كما قال تعالى : ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون). .
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر : ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر). .
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه : ( مغلوب ) ويدعو ربه أن "ينتصر" هو وقد غُلب رسوله . .
عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب :
( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ). .
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب . . كان الله سبحانه - بذاته العلية - مع عبده المغلوب :
( وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا . . جزاء لمن كان كفر . .).
يا الله ... ( بأعيننا ) ....!!!
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية ; وحين "تغلبها" الجاهلية !
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة . . وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى !
( وما يعلم جنود ربك إلا هو). .
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها ; وتعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ; وتصبر حتى يأتي الله بأمره , وتثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه , إلا فترة الإعداد والابتلاء ; وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء
وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم . .
إنه لا ينبغي لمجاهد صادق على أرض الشام اليوم ، أن يظن للحظة واحدة ، أن الله تاركه للظلم إلى ما لا نهاية ، وهو يدعو إلى الله سبحانه ، ويجاهد في سبيله ، لإحقاق الحق ، ودحر الظلم ، وتحرير المستضعفين في الشام .
كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الظلم ، فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه: ( أني مغلوب فانتصر). .
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة . . إن الصفوية والصهيونية والصليبية تحشد على أرض الشام كل قواها . .
ولكن المجاهد في سبيل الله يستند إلى قوة الله التي لا تقهر .
والله قادر على أن يسخر له كل قوى الكون - حينما يشاء ، وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر النصيريين والصفويين والصليبيين والصهاينة ، ويمحوهم من وجه الأرض ...!!!
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله . . ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ; قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله . ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلما . . ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة , والتدمير على البشرية الضالة جميعا , وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة ، تعمرها ، وتُستخلف فيها ، من جديد . .
إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة الله الطليقة - ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى , تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها . وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها ; ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائما , ويلمسون آثارها المبدعة .
والمجاهدون في سبيل الله اليوم ، ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا , بكل ما في طاقتهم من جهد ; ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة .
وعندما يُغلبون عليهم أن يلجؤوا إلى الناصر المعين ، وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح : ( فدعا ربه أني مغلوب , فانتصر ). .
ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة ; فهم على هذا الانتظار مأجورون ، وإنهم لمنتصرون بإذن الله .
(وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين )