الجهل نعمة والعسكر قوة!
أ.د. حلمي محمد القاعود
في ساعة الأصيل أنزل من البيت متوكئا على عصاي ، وأجلس على المصطبة ، أستقبل فيها بعض النسائم الملطفة لحرارة الجو الصيفي القائظ ، وفي الوقت نفسه يأتي إلي بعض من أحب فيجلسون قليلا أو كثيرا وفق ظروفهم ، فأسمع منهم ، وأحاول مشاركتهم ما يعيشونه .
ذات أصيل شاهدت شابا يركب حمارا فوق طعام البهائم من الخضرة ، ويعلق في كتفه بندقية قديمة ، ويجر بإحدى يديه جاموسة يمشي وراءها خروف . سألت جليسي مستفسرا عنه ، فقال لي : إنه ابن فلان . ولما استفسرت : لماذا يعلق بندقية في كتفه؟ أخبرني أنه خفير نظامي . عرفت أن الفتي يحمل دبلوما متوسطا وبسبب البطالة المتفشية وجد أن وظيفة الخفير توفر له مرتبا محترما بالنسبة لزملائه الذين يعملون في الخرسانة أو أعمال اليومية في الحقول أو المباني أو غيرها . أضاف محدثي إلى معلوماتي أن قريتنا بها خمسة من نوعية هذا الفتى يحملون دبلومات متوسطة وكلهم خفراء نظاميون . وزاد في الأمر إدهاشا أن هناك من يحمل ليسانس حقوق ، في قرية مجاورة ويعمل خفيرا نظاميا أيضا .
كررت سؤالي مستفسرا من محدثي : ليسانس حقوق ويعمل خفيرا ؟ فأكد لي الأمر ، بل أشار إلى أنه في الطابور الأسبوعي الذي يجمع خفراء المنطقة في باحة مركز الشرطة، نهره أحد الضباط ، وقال له كلاما غير لائق ، فما كان منه إلا أن احتج وتحدث مع الضابط منفعلا : لا تشتمني ، أنا معي ليسانس حقوق ! وهنا أسقط في يد الضابط ، الذي احتوى الموقف ثم استدعاه إلى مكتبه بعد الطابور وطيب خاطره ، وفي الوقت نفسه عمل على نقله إلى وظيفة كاتب في مركز الشرطة ليرتدي القميص والبنطلون ويجلس على مكتب بدلا من حمل البندقية والتجول بها في الدرك ليلا !
أحسست أنني غائب عما يجري في مجتمع القرية التي لم أبرحها على مدى سبعين عاما إلا إلى علم أو عمل أو زيارة أو طبيب ، وأن تحولاته العميقة غريبة علىّ، وشعرت ان مثقفي مصر الذين يتصدرون الساحة الثقافية والفكرية من العاصمة لا يعرفون شيئا يتجاوز مقاهيها وباراتها فيما يعرف بوسط البلد ، وأنهم غائبون أو مغيبون عما يجري في أم الدنيا .
قبل عام مضى أو أكثر جاءني بعض الزملاء القدامى يشكون أن أبناءهم الحاصلين على تقدير فائق في الحقوق رفضت الوزارة المختصة تعيينهم في السلك القضائي بينما تم تعيين من هم أقل منهم في التقدير ، وبعضهم نجح بتقدير مقبول في الدور الثاني ( نوفمبر ) بعد أن رسب في بعض المواد في الدور الأول ( مايو) ؛ لأن آباءهم وأقاربهم لهم نفوذ وسطوة في الوزارة المعنية أو الحكومة !
قال أحدهم : ليتني أدخلت ابني معهد أمناء الشرطة أو ألحقته بمن يسمونهم مندوبي الشرطة ( مرحلة بين الخفير والعسكري ) ، بدلا من التفوق والجلوس على رصيف المسجد وانتظار المجهول .
حين أبديت استغرابي شرح لي الرجل : مندوب الشرطة يشبه المخبر في عملة ويتقاضى نحو ألف وخمسمائة جنية شهريا ، أما أمين الشرطة وهو عادة يحمل دبلوم صناعة أو زراعة أو تجارة ومستواه الثقافة متدن للغاية ، أي يشبه الأمي، ومع ذلك يتقاضى من 3 إلى 4 آلاف جنيه (قبل الزيادات الأخيرة ). وأضاف الرجل بحرقة : الذين عينوا في النيابة بتقدير أقل مما حصل عليه ابني مرتب الواحد منهم يتجاوز 12 ألف جنيه شهريا ، غير المكافآت في الانتخابات والمناسبات الاجتماعية . تصور – يضيف الرجل : في رمضان هذا العام صرفوا لكل عضو في النيابة والسلك القضائي ستمائة جنيه منحة ، أما الانتخابات الرئاسية الأخيرة فقد حصل كل عضو على ما يزيد على ثلاثين ألف جنية في الأيام الثلاثة التي خصصت للتصويت!
ارتفعت حدة الغضب بين الجالسين ، وأحسست أن بعضهم يوجه إلى نوعا من اللوم ، مع أني لست مسئولا ، ولم أتول منصبا تنفيذيا في حياتي ، وبعضهم متأكد أني لا أملك غير قلمي ، والمحاضرة التي ألقيها على طلابي ، كما يعلم أني في مغرب العمر لم يعد بيدي شيء على الإطلاق!
في مثل هذه المواقف تتداخل الأمور وتختلط المشاعر ، وكان لا بد من تهدئة الخواطر ، والدعوة إلى الصبر وانتظار الفرج ، ولكن الإحساس بالغبن أو فقدان العدالة أو الظلم الفادح يدفع الناس إلى الصراخ وتفسير ما يحدث تفسيرات مليئة بالإدانة والاتهام وربما السباب .
قال آخر : أتعلم أن فلانا أدخل ابنه كلية عسكرية أو شرطية ليتخرج منها ضابطا ؛ كم يأخذ ؟ قلت له : كم ؟ قال : أكثر من عشرة آلاف ! قلت له : ولماذا لم تدخل ابنك هذه الكلية ؟ صرخ الرجل في وجهي : من أين آتي بالواسطة ؟ هات لي واسطة وأنا أبيع ربع فدان ! ولما رأى أنه تجاوز في التعبير والكلام تدارك الأمر واعتذر آسفا وقال :
البلد ليست بلد علم ولا بلد عدل . البلد بلد عسكر وضباط وأمناء شرطة . كل من يرتدي الأصفر هو سيد البلد ، هو الأقوى ، هو صاحب الراتب الأعلى ، هو صاحب الكلمة المسموعة ولو كان شبه أمي أو يخطئ في كتابة الإملاء. اعذرني أنا صريح في كلامي . أنت رجل طيب ولا تعرف ما يحدث في المجتمع . مخبر أمن الدولة يرهب البلد ومن فيها . أمين الشرطة قادر أن يضع أكبر رأس في البلد في التراب لو أراد . فاكر فلان وفلان وما فعلوه ليلحقوا أولادهم بكليات الشرطة والحربية ؟
استطرد الرجل : ابن فلان تخرج في كلية الطب . تعلم كم أنفق أبوه في الدروس الخصوصية حتى نجح بمجموع يتجاوز 100% ، ثم دخل كلية الطب وقضى فيها سبع سنوات ، وأظنك تعرف كم يتكلف الطالب في كل سنة من هذه السنوات سواء في الدروس الخصوصية أو المعيشة في المدينة والملابس التي يرتديها ليكون مظهره لائقا وسط زملائه ، تصور كم يتقاضى شهريا ؟ إنه يحصل على ستمائة جنيه بالبدلات والسلطة أصمت آذنها عن المطالبات بتحسين أجور الأطباء ، ولم تعبأ بالإضرابات أو الاعتصامات وأقصى ما فعلته هو إطلاق الوعود التي لا تتحقق ، في الوقت التي تتوالى فيها الزيادات لمرتبات العسكر ومعاشات العسكر وخدمات العسكر ، وبالطبع فأهل القضاء في رغد مقيم !
حين صعدت إلى غرفتي كان التلفزيون يتحدث عن الحد الأقصى للأجور ( وليس الدخل) ، وكانت القناة التي تعرض الموضوع تشير إلى أن جهة ما تتوعد من يقترب من أجورها أو يمسها بالنقصان . وهذه الجهة من الجهات التي تغرق في النعيم الحكومي بالمرتبات العالية والامتيازات النادرة !
بالطبع لم أقل لمن جلسوا معي وغضبوا من التفاوت الكبير في حظوظ الناس ، والغبن الذي يلحق بالفائقين منهم نتيجة الخلل الشنيع ، إن أهل العلم والبحث والمعرفة يعيشون على الكفاف ، ولم تتحسن أمورهم نسبيا إلا بعد اهتمام الرئيس محمد مرسي – فك الله أسره –ثم إن فرعون العسكري يملك مصر والأنهار تجري من تحته ويعتقد أنه خير من موسى !