لبنان الأخضر الحلو
مادونا عسكر
إلى لبنان الأخضر الحلو، ألف تحيّة محبّة وسلام، ما دام في قلب السّماء نجم أصفر يبثّ دفء النّور في حنايا الكون ويبعث الحياة في جذور الأرض لتتفجّر من عمقها ينابيع تلهث لمعانقة البحر، وليقوم من بين حبيبات ترابها عشبٌ يُلبس السّهول ثوباً أخضر ريّان، يغازل سرباً من السّنونو العائد مع إطلالات الرّبيع الأولى، ويسامر نسيمات اللّيل المبشّر بضياء قمر جديد. إلى لبنان الأخضر الحلو الّذي يُغني العين عن ألف لوحة ولوحة، ألف تحيّة حبّ واشتياق وسلام.
إلى لبنان الحلم، في عقول المبدعين والشّعراء والعباقرة المنتشرين في أصقاع الأرض، أو السّاكنين في دار الخلود ينعمون برؤى لبنان، ألف نغمة محبّة وسلام. حروفهم الذّهبيّة المطبوعة في نفوسنا، تمسك بنبض القلب فتنبسط شرايينه تعبّ هواء لبنان من حنين الأوراق ورائحة الكتب. ألحانهم العذبة تفرد أجنحتها وسع الكون فنتفيّأ في ظلالها من قيظ أيادٍ شوّهت قطعة من السّماء، وقبّحت هيبة جبال غابت ملامحها واندثر شموخها، ومسخت بحراً كان ملتقى الشّرق والغرب لتجعله بوابة من الإسمنت الصّلب يحجب عن شواطئها تغاريد الأمواج ليحوّلها إلى مياه راكدة تئنّ من الملل والضّجر.
إلى لبنان الحقيقي الّذي نبحث عنه منذ سنين طويلة، في روحانيّة "جبران" وحكمة "نعيمة" وتراتيل "عاصي ومنصور"، وابتهال " فيروز" وشدو "سعيد عقل"، ولا نجد إلّا بنات رؤى تسبح في خيال بات صريع الواقع المرير والمستقبل المظلم، ألف صلاة تتصاعد من شذا الأرز تبارك الرّبّ وتستغيث.
لبنان اليوم، ليس لبنان. إنّه شبح يحوم حول هذه الأرض الطّيّبة، يحمل بيديه لعنات التّفرقة والحقد، وويلات الحروب ووباء المذهبيّات الّذي ينفذ إلى خلايا العقول حتّى ينهكها، وسينهك الأجيال القادمة ويسحقها ويتحطّم تاريخها عند أقدام الجهل الفاحش. إنّه دويلات طائفيّة تتنازع على ما تبقّى من تراب لم يرتوِ بعد من الدّم، وقبائل تتصارع على أحقّيّة البقاء في بضعة كيلومترات، وحكّام رموا بأنفسهم في أحضان أسيادهم. أفواههم تعظنا بأهمّيّة الشّراكة الوطنيّة، وقلوبهم تضمر لنا الشّرّ. وشعب أبى إلّا أن يعيش في أمّة كثرت فيها طوائفها وقلّ فيها الدّين، تشرب ممّا لا تعصر، وتأكل ممّا لا تزرع، وتلبس ممّا لا تصنع، فاحتضر في ويلاتها، وهلك في شرّها.
... وأمّا لبنان، فهو ذاك الخطّ الفاصل بين البحر والسّماء، وألوان الرّبيع البهيّة المترامية على مدّ العين والنّظر، وابتهاج الصّنوبر ونشوة السّرو، وصمت الأودية حيث تنطوي أسرار الكون.
لبنان، جبل الطّيوب، الحاضن لبرج العاج (جبل حرمون)، والمانح الحياة لنهر الأردن من سفوح جبل الشّيخ، والمتباهي بصنّين الملتحف بالثّلج النّقيّ، فيه ترى نقاء القرويّين وصفائهم، وسكينة الفلّاحين وطيبتهم، وهدوء الرّهبان وقداستهم. لبنان، لوحة فنّان لم يولد بعد، وإبداع كاتب لم يدخل التّاريخ، وسمفونيّة ملحّن، نغماتها تعزفها الملائكة في هياكل بعلبك وقلاع صور وصيدا وطرابلس.
ذاك هو لبنان الّذي يجب أن نخبّر عنه، حتّى وإن كان ضرباً من الخيال، أو وهم حالمين ما زالوا يعيشون في ماض سحيق غاب وانتهى. وحتّى لو اتّهمنا بالمرض العقليّ والجنون، وتناسينا الواقع القبيح وتوهّمنا بوجود جبال ما زالت شامخة ولا يمكن لأحد أن يطالها ورزانة شعب لا يركع ولا يسمح لسياسات مريبة أن تنال من تماسكه وشراكته. وحتّى لو أنّ البرابرة صحوا فجأة من غفوة التّاريخ وقرّروا أن يغزوا لبناننا، ويحوّلونه إلى مدينة أشباح، ويبشّروننا بالسّراط المستقيم، سنظلّ نرى لبنان الحلم، الأخضر الحلو. وحتّى لو أنّ ثقافتنا الأصيلة تمّحي شيئاً فشيئاً وملامح فينيقيا باتت حروفاً على ورق، وحتّى لو تعدّدت الرّايات وما عدنا كلّنا للوطن، لا بدّ أنّ نجمع أبناءنا وبناتنا لينسجوا علم لبنان في أذهانهم ويحفظوه في بصائرهم، لا بدّ أن ننتظر لبنان الحقيقيّ القادم مع أوّل فينيقيّ على مركب من خشب الأرز ليقتحم العالم بحروف من نور.
لبنان الحلم حقيقة، لأنّ " لبنان ليس أرضاً، إنّما مساحة روحيّة، والمساحة الرّوحيّة لا يمكن للرّصاص أن يقتلها". ( أنسي الحاج).