تواصل عُمان الحضاري مع العالم

(من كلمة في ندوة "تواصل عمان الحضاري مع العالم"، صلالة، سلطنة عمان

بمناسبة الاحتفاء بمدينة نزوى عاصمة الثقافة الإسلامية،  3 سبتمبر 2015) 

... في معرض إعادة تواصلنا الحضاري، سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا، وفي سائر مجالات التعاطي  بين الدول في العالم المعاصر، عبر القنوات الدبلوماسية الحديثة، كنا ندرك أننا دولة لمّا تُعرف تماما لدى معظم دول العالم: دولة عريقة لكنها ناهضة حديثا من ركود مديد، لذا دولة بعدُ محدودة في موردها الاقتصادي، رصيدها المعرفي، مراسها في عموم نشاطات العصر الحديث، ووفور الكفاءات الوطنية اللازمة للنهوض بمهمة تنموية وطنية، نشطة وشاملة. 

إزأء هذا الواقع، في حواراتنا مع النظراء الدبلوماسيين في الخارج، كما أيضا من خلال مشاركاتنا في ندوات عامة، عندما كان يشار هكذا إلى محدودية وضعنا الوطني، كنا نرد التشكيك، مؤكدين بثقة أنه رغم محدودية واقعنا الراهن، طموح شعبنا غير محدود، ورغم تحديات عديدة، همة شعبنا، مقرونة بانطلاقة روح الإقدام الحبيسة طويلا بين جنبيه، كفيلة بدفع مجهود وطني زاخم ودائب لأجل إحراز التقدم من خلال تنمية شاملة في جميع الميادين. 

كنا نؤكد أيضا أن في خلفيتنا الحضارية، وما كان لنا من حراك برا وبحرا على المسرح الدولي، تحديدا ما كان لنا من تواصل حضاري مع بلدان إقليمية، وأخرى إفريقية وآسيوية وأروبية وأمريكية، قبل أن يقعدنا التخلف ويشلنا الركود... أن في تلك الخبرات المخزونة في وعينا الوطني ما يعزز ثقتنا بأنفسنا من حيث اقتدارنا على النهوض من جديد، وتعويض ما وقعنا فيه من قصور وتقصير. أيضا، لعظيم تثميننا لهذه الفرصة التي واتتنا بها النهضة المباركة في بلادنا منذ صيف 1970، أننا بذلك وعينا تماما المهمة الملقاة على عاتقنا، وأن من اعتبار أنفسنا مؤتمنين على انجاز تلك المهمة، جاء عزمنا على أن نفي باستحقاقاتها التنموية بأعلى ما نمتلك من همة وبأقصى ما نستطيع.

من منظومة المفاهيم والمنطلقات والغايات الأساسية التي ارتفقت ببزوغ العهد الجديد ما اتصل بتعريف هويتنا الوطنية، ببعديها الثقافي والحضاري، أي العربي والإسلامي. منها ما اتصل بأولوياتنا الداخلية، ومنها ما اتصل بتوجهنا  الخارجي.  في الداخل تركز اهتمامنا – كما أسلفت - على توطيد الوحدة الوطنية معضدة بالاستقرار السياسي، ترسيخ الوئام الاجتماعي، والدفع بالمجهود التنموي بهمة وحماس.  في الخارج تركز اهتمامنا على أرساء علائق تعاونية منتجة مع سائر دول العالم.  على أن العمل السياسي الدبلوماسي على مسار إعادة تواصلنا الحضاري مع العالم المعاصر كان في وعينا أبدا موصولا بأولويات الداخل.  بمعنى آخر، علاقاتنا الخارجية في وعينا كانت دائما وصميما مشدودة إلى المقاصد الوطنية العليا، كأمر أساس.

أيضا في الحديث في محافل الخارج، حيثما تناسب مع المقام، كنا نحرص على أن نبدي ما يودع فهما صحيحا بنا كدولة ناهضة، دولة ساعية نحو التحقق الوطني في سائر استحقاقات العصر الحديث. على وجه التحديد، كنا نؤكد أننا مجتمع تقوم وحدته الوطنية على مواطنة متساوية متآخية، يقوم مجهوده التنموي على تنمية إنسانية بشقيها الحداثي والحضاري، ويقوم تعامله مع العالم على أساس السلم والسلام. 

وفي الواقع مسالمتنا مع جميع الدول، إقليمية وعالمية، سرعان ما ظهر في حرصنا على تجنب الخصام مع أيما دولة، بل وحيثما وجدت لنا مع دولة ما مشكلة عالقة أو طارئة بادرنا إلى تسويتها سلميا، بل ووديا، وهذا هو النهج الذي انتهجناه تحديدا في ترسيم الحدود الجغرافية وتثبيتها مع الدول المتاخمة والمجاورة.  أيضا حيثما ألفينا مجالا  لتبادل نافع مع أيما دولة، أكان في التجارة أو الاقتصاد أو التعليم أو الصحة أو الأمن أو سوى ذلك، أقبلنا  عليه بسعة صدر، وبادرنا إلى تفعيل فرص التعاون المتاحة ضمنه على أساس مصالح مشتركة، واحترام متبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير. 

في العلاقات بين الدول، كنا نمايز بين مجرد المسالمة والتعاون البناء، وبذلك كنا نمايز بين السلم والسلام. السلم يعني مجرد غياب الاحتراب، حتى مع استمرار الخصومة، بل وبأشد من ذلك، حتى مع بقاء حالة عداء متبادل. أما السلام فيعني تجاوز رواسب الخصومة والعداء، ومن ثم البناء على حالة السلم لعلاقات سلام: أي العلاقات القائمة على  الصداقة والتعاون، والمراعية مصالحَ جميع الأطراف. 

السلام في واقع الأمر، كما تدل عليه العبر المستخلصة من مجريات التاريخ،  يصعب استتبابه ما بين الدول أو الأمم، أو حتى ما بين الجماعات أو الأشخاص، ما لم يُرسَ على القاعدة المأثورة في موروثنا العربي الإسلامي، قاعدة "لا ضرر ولا ضرار": ومفادها: لكي يكون أيما تعامل بين طرفين أو أكثر مجديا ومستدام النفع وجب أن يخلو من الغبن والاستغلال الضائر: بتعبير آخر، أن لا يُبنى على الإضرار بمصلحة أي طرف مشارك في التعامل. 

سياستنا الخارجية انبنت من بعد السلم على السلام وفق هذا النسق الحميد، وسارت في السياق الذي يعبر عنه في المصطلح المعاصر بسياق الحلول المربحة المربحة، أي المربحة لجميع الأطراف.  في هذا السياق، كشرط أساس، لا ضير أن تأتي المرابحة بدرجات متفاوتة بحكم تفاوت الإسهامات والأدوار، لكن في المؤدى الأخير يجب أن لا ينتهي الأمر مطلقا إلى الإضرار بمصلحة أي طرف مشارك. 

لألخص الآن، معيدا ما عرضته إجمالا في قالب تفصيلي: قالب يشخص المفاهيم  والمنطلقات والغايات الأساسية التي شكلت المنظور الذي أحسب أنه كان وراء نهج التواصل الحضاري للسلطنة مع العالم المعاصر، منذ مطلع النهضة. 

أولا: المفاهيم الأساسية:

المفاهيم الأساسية المعرفة لهوية الدولة العمانية، والتي ارتسى عليها مع بدء النهضة، ولا يزال، نهجُ التواصل الحضاري لبلادنا مع العالم المعاصر هي أربعة:

1: أننا من حيث انتمائنا العربي نشكل مكونا أصيلا من مكونات الثقافة العربية

2: أننا من حيث انتمائنا الإسلامي نشكل مكونا زاخرا من مكونات الحضارة الإسلامية

3: أننا كدولة معاصرة نشكل عضوا فاعلا في مجموعة الدول المعاصرة، المتعاونة تضامنيا على حسن تنظيم وتسيير الشأن الإنساني عالميا

4: أننا كدولة عصرية نسعى حثيثا لاستكمال استحقاقات الدولة العصرية، الحداثية والحضارية معا،  في ترافد واتساق

ثانيا: المنطلقات الأساسية:

المنطلقات الأساسية التي انطلق منها مع بدء النهضة، ولا يزال، نهجُ التواصل الحضاري لبلادنا مع العالم المعاصر، هي أيضا أربعة:

1: أن نتعايش سلميا مع كافة دول العالم

2: أن نتعايش بسلام مع جميع الدول والأمم والشعوب               

3: أن ننمي التعاون بيننا وكافة دول العالم بناء على مصالح مشتركة واحترام متبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير 

4: أن نسهم تضامنيا في دعم جميع القضايا الإنسانية المشتركة، بالأخص ما يتصل منها برعاية الإنسان والحيوان، وبسلامة البيئة الطبيعية الحاضنة للحياة فوق اليابسة، وفي  المحيطات والأنهار، وعبر الفضاء الخارجي.

ثالثا: الغايات الأساسية:

الغايات الأساسية التي شُخصت مع بدء النهضة ولا تزال فاعلة في  صياغة نهج التواصل الحضاري لبلادنا مع العالم المعاصر، هي أيضا أربعة: 

1: تجنب العداء مع أية دولة في العالم

2: تكثيف التعاون مع الدول الصديقة في كل ما يعطي  دفعا لمجهودنا التنموي الوطني

3: الإسهام في الجهود الدولية لتوطيد الأمن ونشر اليسر وتعزيز الوئام بين الدول والأمم عبر العالم

4: تشجيع التنمية الإنسانية عالميا على مساريها الحداثي  والحضاري

أخيرا ملاحظتان أراهما جديرتين بالالتفات:

الملاحظة الأولى هي حول التنمية الإنسانية بشقيها الحداثي والحضاري، وطنيا وعالميا، كغاية أساسية في منظومة عناصر التواصل الحضاري للسلطنة مع العالم المعاصر. بهذا الصدد ألاحظ أننا لم نوف بعد باستحقاقات الشق الحضاري للتنمية الإنسانية داخل بلدنا كما ينبغي لنا كدولة عصرية لها تميز حضاري مشهود في الحراك الخارجي.  بنظري التميز الحضاري في الخارج يستدعي تميزا حضاريا مماثلا في الداخل، إذ بدونه تبقى الشعوب متراوحة عند بناء غير متكامل، ومتأرجحة على مسار تطور غير متوازن. 

  

الملاحظة الثانية: ألاحظ أننا نستعمل عبارة "الثقافة الإسلامية". بنظري لا يستقيم القول بالثقافة الإسلامية، إذ أن الإسلام أعم من أية ثقافة بعينها.  إنه دين وحضارة معا، تنضوي تحته مئات الثقافات القومية مدار الأرض، وهو بذلك يشكل أحد أعظم الروافد الحضارية التي رشدت خبرة الإنسان بتنظيم قوانينه وأعرافه ومنظومته الأخلاقية في عديد من ثقافاته.

لا جدال أن الثقافة العربية هي الثقافة المركزية في الإسلام، وأنها المصدر الأصلي والمستودع الرئيسي للمعطى الإسلامي في جميع أصوله وفروعه، لكن كأمر منهجي، علينا أن نمايز بين الثقافة العربية والحضارة الإسلامية.  للعرب، مسلمين وغير مسلمين،  انتماء ثقافي للعروبة المشتركة بينهم لغة وأدبا وأعرافا اجتماعية وسياقا تاريخيا عبر الوطن العربي الكبير.  في المقابل، للمسلمين، عربا وغير عرب، انتماء حضاري للإسلام، كيفما تنوعت ثقافاتهم، وأينما تواجدوا عبر العالم.  بتعبير آخر، الانتماء الإسلامي أعم من خصائص الثقافات المنضوية تحت وارفه الحضاري. بذلك أرى الأصح تعريف ثقافتنا عربيا، وتعريف حضارتنا بالإسلام.  

إلى جانب الانتماء ثقافيا للعروبة، وحضاريا للإسلام، لوطننا العماني سمة دولة عصرية من حيث تنظيم كيانه، إدارة شأنه، وبناء نهضته الحديثة بمعارف العصر ونظمه وابتكاراته  المتطورة جميعها باجتهاد معرفي عالمي مستدام.  بذلك تتكامل دائرة تعريف هويتنا الوطنية بأبعادها الثلاثة: البعد الثقافي عربيا، البعد الحضاري إسلاميا، والبعد العصري ممثلا في مواكبتنا التقدم الإنساني العالمي في جميع مجالاته، مقرونا باهتمامنا الصميم والمستدام بإعلاء الشأن الإنساني وطنيا وعبر العالم.

أخيرا، أرجو أن تنحو العلاقات الدولية في عصرنا أكثر فأكثر ذات المنحى الذي نحوناه،  القائم على السلم والسلام، وعلى مبدأ "لاضرر ولا ضرار"، وبذلك يُجنب العالم كثيرا من ممارسات ظالمة لا تزال تشوه الحراك الدولي وتجر إلى انفجارات عنفية لحسم منازعات  ممكن ومتاح تسويتها سلميا بتحاور موضوعي مثابر وأمين. 

كما أرجو أن تستمر سياستنا الخارجية مع دبلوماسيتها المصاحبة، في إطار تواصلنا الحضاري مع العالم المعاصر... أن تستمر هكذا في موقع الريادة في انتهاج نهج التعارف والتعاون والعمل بمبدأ المرابحة في جميع مجالات التعامل ... وأن تقدم بذلك نموذجا راقيا في العلاقات الدولية: نموذجا نابذا للعنف، حاضنا للسلم والسلام، وصائنا لمبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان في جميع الأحوال وفي كل مكان.

------------ 

*صادق جواد سليمان: سفير عُماني سابق في واشنطن وطهران

وسوم: 636