الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 6-12

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (6)

المقدسيون غرباءٌ في مدينتهم مشبوهون فيها

كان الفلسطينيون في القدس قبل انتفاضتهم الثانية يعانون في مدينتهم، يشعرون فيها بغربةٍ وعزلةٍ، وإقصاءٍ وحرمانٍ، ومعاناةٍ وكربٍ، وكأنهم ليسوا سكانها الأصليين، ولا ملاكها الشرعيين، فكانوا فيها كالأجانب غير المرغوب في وجودهم، أو كالسود في معازلهم في جنوب أفريقيا، يحرم عليهم دخول مناطق كثيرة في وطنهم، ويضيق عليهم بقصدٍ، وتتشدد الحكومة وبلدية القدس في التعامل معهم عن سابق تخطيطٍ وسوء نية، فتفرض عليهم الضرائب العالية، وتسحب هوياتهم المقدسية، وتطردهم إلى مدن الضفة الغربية، وتمنع عودتهم إلى مدينتهم المقدسة، وإلى بيوتهم العتيقة فيها، وتهدم بيوتهم الباقية، وتمنع تعميرها وصيانتها، وتحول دون توسعتها أو ترميمها، وتصادر أرضهم وممتلكاتهم، وتعتدي على أملاك الغائبين وتضع يدها عليها، ولا تفرق في استيلائها على أراض المسلمين والمسيحيين معاً، وأراضي الوقف الإسلامي والكنسي.

اليوم زادت غربتهم فيها، إذ أغلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بوابات مدينة القدس الشرقية، وكلفت جيش الاحتلال ضبط الأمن وحفظ النظام فيها، ونصبت الحواجز العسكرية على مداخلها، وهي حواجزٌ كثيرةٌ وعديدة، فما أبقت مدخلاً صغيراً ولا زقاقاً ضيقاً إلا وأغلقته، وبدأت تدقق في هويات المواطنين المقدسيين، وتفتش سياراتهم، ومعها سجلاتٌ تدقق فيها، وتطابق بين الأسماء، وتعيد بعضهم من حيث أتوا، ولا تسمح لهم بالمرور ولو إلى بيوتهم في أحياء القدس الشرقية، بينما تعتقل من شاءت من المارين أمامها والعابرين للحواجز التي وضعتها، وقد ناهز عدد المعتقلين خلال الأيام الماضية ألف معتقل.

أما مداخل البلدات العربية المقدسية فقد باتت مغلقة بمكعبات الإسمنت الضخمة، التي تعيق الحركة، وتمنع تدفق حركة السير من وإلى البلدات العربية، إلا بعد المرور على الحواجز العسكرية، أو بعد تحويل مسار السير إلى مساراتٍ متعرجة، أو طرقٍ فرعية، أو شوارع بعيدة، تزدحم فيها السيارات، وتمتد طوابيرها مسافاتٍ طويلة، مما يضيق على المواطنين أنفاسهم، ويذهب بصبرهم.

عيون الإسرائيليين تراقب الفلسطينيين الماشين على أقدامهم، أو العابرين بسياراتهم، أو الراكبين في الحافلات، لكنهم جبناء إذ يهاجمون في وجود الشرطة، ويعتدون بحماية الجيش وعناصر الأجهزة الأمنية، يستفزون الفلسطينيين ويشتمونهم، ويتهكمون عليهم ويستهزؤون بهم، ويسمعونهم كلماتٍ بذيئة، ومفرداتٍ نابية، تطال أمهاتهم وشرفهم، وعرضهم ونسبهم، ودينهم ورسولهم، ومنهم من يرشقهم بالحجارة، أو يصرخ فيهم طالباً منهم الرحيل والمغادرة، محذراً إياهم من القتل الذي ينتظرهم، ويتوعدهم بالموت، مدعين أن هذه المدينة ليست لهم، ولا يحق لهم العيش فيها.

أما الدوريات العسكرية التي تجوب الشوارع والطرقات، فهي توقف كل فلسطيني وتشتبه فيه، فما عادت حقيبة الظهر آمنة، ولا حقيبة الطلاب التي يحملون فيها كتبهم المدرسية أو الجامعية محل ثقةٍ وأمان، وبات الفلسطيني لا يستطيع أن يأتي بحركةٍ اعتيادية في الشارع، فلا يقوى على حمل شئٍ في يده، أو حقيبةٍ على ظهره، وإلا فإنهم يشتبهون فيه ويطلقون عليه النار، ويقتلونه أو يصيبونه قبل أن يتبين لهم أن ما يحمله ليس إلا خبزاً أو فاكهة، وأن الذي بأيديهم هواتفهم النقالة أو مفاتيح بيوتهم وسياراتهم.

أما السيارات العربية في مدينة القدس، فقد باتت كلها محل شبهةٍ وموضع شك، فلا يسمح لأصحابها بالمرور أو الاجتياز، وإن حاول بعض السائقين زيادة السرعة أو التجاوز، أو التوقف المفاجئ أو الاعتيادي ببطء، فإن الإسرائيليين، شرطةً ومستوطنين، يمطرونه بالطلقات النارية، ولو ترجل السائق من سيارته، ومشى أمامهم رافعاً يديه، ولو كان من يسوق السيارة سيدة، فإنهم يتعاملون معها بالمثل، ويطلقون عليها النار وكأنها كانت تنوي دهسهم أو صدمهم.

العربي في القدس أجنبيٌ غريبٌ، فصاحب الكوفية مشبوه، والشاب الملتحي أكثر شبهةً، والفتاة المحجبة تثير الريبة وتبعث على الخوف، والمرأة الفلسطينية التي تلبس الثوب الوطني الفلسطيني تثير الجزع، وتقلق من تقترب منهم، والصبي الفلسطيني المرافق لأبيه أو الماضي وحده، يثير الخوف أكثر، فهو ينتمي إلى جيلٍ لا يعرف الخوف، ولا يخشى قوة العدو، ولا يحسب لوجوده حساباً، ويقدم ولا يتردد ولو كان في إقدامه منيته، وفي مواجهته لهم مقتله، أما المفردات العربية فهي تشنف الآذان، وتحفز الأبدان، وينتفض لسماعها اليهود من الرجال والنساء، وكأن قائلها شبح، سيطلع عليهم من حيث لا يتوقعون أو يعرفون، أو كأنه نسرٌ سينزل عليهم ويحط فوق رؤوسهم، أو صقرٌ سينقض عليهم وسينهش أجسادهم.

لأن أعجب هذا الحال ورضي بهذا الواقع جيلٌ فلسطيني سبق، فإن جيل اليوم، الناهض الفتي، القوي الأبي، يرفض أن يتساوق أو أن يتعايش معه، ويأبى أن تتأقلم حياته اليومية على أساسه، فثار وانتفض، وخرج إلى شوارع مدينته حاملاً سكينه يدافع عن شرفه ووجوده، وعن قدسه وبقائه، وهو يعلم أنه يثور لشعبه ولصالح الأجيال من بعده.

وهم إن ضحوا اليوم في مدينتهم ومن أجلها، فذلك حتى يعيش من بعدهم بعزةٍ وكرامةٍ، وحتى تكون لهم هيبة ومنعة، وحتى لا يستفرد العدو بهم مرةً أخرى، ويظن أنهم ضعافٌ لا يقوون، وفرادى لا يجتمعون، ووحدهم لا ينصرون، فكان رد الفلسطينيين عموماً والمقدسيين خصوصاً، ما ترى عيون العدو لا ما تسمع آذنهم، شبابٌ وشاباتٌ في كل مكانٍ ينهضون، مردةً يقاتلون، وأشداء يواجهون، لا تقعدهم الجراح، ولا تمنع الطلقات الحاقدة من قيامهم، بل ينهضون ويطعنون، وإن كانوا يترنحون ويسقطون، فإن السكين تبقى في أيديهم، يحملونها والدم يقطر من أجسادهم من أثر الرصاص الذي اخترقه ولكنهم لا يسلمون الروح إلا مقاتلين مهاجمين، والصورة على شجاعتهم تشهد، وعلى إقدامهم تتحدث.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (7)

انتفاضة المدية والخنجر والسكين

لكل انتفاضةٍ ما يميزها وما يمنحها هويتها الخاصة وطابعها المميز، ولكلٍ منها سلاحها وأدواتها، ومفرداتها وأساليبها، وأهدافها وغاياتها، كما لها أبطالها ورجالها، ورموزها وقادتها، ولو أنها تقاطعت في بعض الأحيان في الشكل والأسلوب، وفي الأداة والوسيلة، نظراً لقلة الخيارات، وانحصار الأدوات ومحدوديتها نتيجة الإجراءات الأمنية المشددة، والمتابعة والملاحقة الدقيقة، التي كانت تحول دون التنوع والتبديل، والابتكار والاختراع، فضلاً عن عمليات الاعتقال الواسعة جداً، والقمع الشديد المتواصل بقصد وقف الانتفاضة وإنهاء فعالياتها، إلا أن الفلسطينيين في انتفاضاتهم السابقة والجديدة الثالثة، لا يعدمون وسيلةً، ولا يعلنون اليأس والاستسلام، بل كانوا دائماً يبتكرون الجديد، ويتواءمون مع الواقع، ويختلقون وسائل تتناسب والظروف، وتصمد في وجه التحديات، وتعجز سلطات الاحتلال عن محاربتها والتصدي لها.

فإن كان الحجر هو سلاح الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي سميت باسمه واشتهرت به، وعرفت في العالم كله بانتفاضة أطفال الحجارة، وفيها كان الحجر هو الرمز والشارة، وهو الصورة والحقيقة، وإن كان قد تطور بعد ذلك قليلاً، ودخل المقلاع "الشُدِّيدة" في المعركة، وأحسن الشبان الفلسطينيون استخدامه وتصويبه، فكانوا يصيبون به بدقة، وكان مداه أبعد من الحجر الملقى باليد.

هدم الفلسطينيون بيوتهم ليتخذوا من حجارتها سلاحاً، يقذفون بها الجنود وآلياتهم، ويعيقون حركة سياراتهم ودورياتهم، ويشجون بها وجوههم، ويرضخون رؤوسهم، ويدمون أجسادهم، وبعض الحجارة أصابت عيونهم وأعمتها، وكانت تؤذي وتجرح، وتعطب وتعيق.

كان الحجر متوفراً بكثرة، فلا يشكو الفلسطينيون من قلته، ولا يخافون من منع استيراده، والحيلولة دون وصوله إلى أيديهم، فهو سلاحهم الوطني، المصنوع من تراب الوطن وطينه، وإن كانت سلطات الاحتلال في بداية الانتفاضة الأولى قد عمدت إلى جمع الحجارة ودفنها، وكانت تجبر الفلسطينيين على جمعها من الشوارع والأزقة ودفنها في جوف الأرض، ظناً منهم أنهم بذلك يجردون الفلسطينيين من سلاحهم، وينزعون من أيديهم عامل القوة وعنصر التفوق.

أما الانتفاضة الثانية فقد تميزت بعملياتها الاستشهادية، والمتفجرات المتنقلة بين القدس والعفولة، وتل أبيب والخضيرة، وأسدود وعسقلان وكل المدن والبلدات الفلسطينية، التي فجر فيها الاستشهاديون الفلسطينيون الحافلات ومحطاتها، وتجمعات الجنود والمقاهي، والسيارات الصغيرة والشاحنات الكبيرة، وفيها سقط المئات من الإسرائيليين قتلى، وسكن الرعب في قلوبهم جراء سلسلة التفجيرات المتنقلة، وامتنعوا عن ركوب الحافلات والجلوس في المقاهي والتجمع أمام المحطات أو الأماكن العامة، مخافة أن يقوم فلسطيني بتفجير نفسه بينهم، وتوزيع الموت عليهم، وقد تسببت العمليات الاستشهادية إلى جانب الذعر الذي بثته في الأوساط الإسرائيلية، إلى سقوط أعدادٍ كبيرة من القتلى في صفوفهم، الذين كانوا يسقطون فرادى وبالجملة أحياناً.

أما الانتفاضة الثالثة التي نعيش فصولها هذه الأيام، ونقلب صفحاتها كل ساعة، ونترقب جديدها ونتابع تطوراتها، فإنه يغلب على سلاح الفلسطينيين فيها السكين والمدية والخنجر، إذ لا شئ يملكونه اليوم إلى جانب الحجر غير السلاح الأبيض القديم، فقد تعرضت المقاومة في الضفة الغربية إلى حصارٍ خانقٍ وملاحقةٍ قاسية من المخابرات الإسرائيلية ومن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فلم يعد بين أيدي الفلسطينيين أسلحةً ناريةً يقاومون بها، وقد لا يريدون استخدامها في هذه الانتفاضة، أو في هذا الوقت بالتحديد.

إن كان الفلسطينيون لا يريدون استخدام الأسلحة النارية في الانتفاضة الجديدة، فإنهم جميعاً يملكون في مطابخهم سكاكين حادة، وعندهم خناجر ومعاول ومِدَى حادة، وغير ذلك مما حد نصله ودق طرفه، فيه يقاومون ويقاتلون، وبه يواجهون ويصدون، ورغم أن القتال بهذه الأسلحة البيضاء يلزمه إرادة وشجاعة كبيرة، لأن القتال به يلزمه مواجهة مع العدو وجهاً لوجه، أو طعنه من مسافة صفر، ومع ذلك فإنهم يقدمون على المواجهة والتحدي، بل ويتنافسون في أن يكونوا أوائل وسباقين، ولو كلفهم ذلك حياتهم، وهو غالباً ما يحدث، إذ يقوم الإسرائيليون في مكان الحادثة بإطلاق النار على المهاجم ويقتلونه، ولو كان مصاباً فإنهم يجهزون عليه، رغم أنه أحياناً لا يشكل خطراً عليهم، ولا يتسبب في أذى، إلا أنهم يصرون على قتله، بل على إعدامه ميدانياً، أو يتركونه إن لم يقتلوه فوراً ينزف حتى الموت، أو يمتنعون عن تقديم المساعدة الطبية له، ويتأخرون في نقله إلى المستشفى، أو ينقلونه بطريقةٍ سيئة تعجل في مقتله.

تحاول وسائل الإعلام الإسرائيلية تصوير الفلسطينيين بأنهم إرهابيين، وتصفهم بأنهم داعش، يقتلون بوحشية، ويطعنون بهمجية، ويبطشون بالضحية، ولا يفرقون في عملياتهم بين مستوطنٍ وعسكري، وطالبٍ ورجل دين، وأنهم يتباهون بالسكاكين والأدوات الحادة التي يحملونها، ويفاخرون بعملياتهم، ويحضون الشباب على القيام بمثلها، والتنافس فيها، ويرفعون صور منفذيها، ويحتفلون بالشهداء منهم.

ينسى الإسرائيليون أنهم والسلطة الفلسطينية ما أبقوا في أيدي الفلسطينيين سلاحاً يقاتلون به، في الوقت الذي يستفزونهم ويعتدون عليهم، ويدنسون مسجدهم، ويحاولون اقتسام أقصاهم أو السيطرة على بعض الزوايا فيه، كما أنهم يعتدون قتلاً وضرباً وإساءة للرجال والنساء على السواء، ويقتلون الفلسطينيين على الشبهة والهيئة والشكل واللسان وما يحمل، ثم يستغربون مقاومة الفلسطينيين ويستنكرون غضبتهم، ويرفضون انتفاضتهم، ويعترضون على أسلحتهم، ويرفضون ابتكاراتهم، ويشكون من نجاحهم وتفوقهم، وكأنهم يريدونهم نعاجاً يستسلمون للذبح، ونوقاً تستنيخ بذلٍ، وما علموا أن الفلسطيني حرٌ ولو كان سجيناً، وثائرٌ ولو كان طفلاً صغيراً، ومقاومٌ ولو لم يكن يملك في يده غير سكينٍ تجرح، وشوكةٍ توخزُ، وعصاً تضرب وتؤلم.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (8)

  صورٌ معيبة وتصرفاتٌ مشينة

الصورة الفلسطينية ليست كلها ناصعة البياض مـتألقة، وليست كلها مشرقة مبهجة، وموضع فخرٍ واعتزاز، ومحل تيهٍ ورضا، رغم أن الصورة الغالبة هي كذلك، فهي صورةٌ بمجموعها مشرفة، وتبعث على الفخر، وتعيد الألق إلى القضية الفلسطينية التي عرفتها الأمة وضحت في سبيلها، وهي صورةٌ عظيمة أحبتها الأمة وأيدتها، وساندتها وساعدتها، وجعلت منها أيقونة للفخر، وصورةً للزينة، وشعاراً للنصر، وصاغت منها قصيدة ولحنتها أغنية، وغنتها أنشودة، وكانت محل إعجاب الشعوب وموضع تقديرهم، وعنوان تطلعاتهم، وألهمتهم القوة، ومنحتهم الإحساس بالكثير من العزة والكرامة، وتمنى الكثيرون لو كانوا من المرابطين فيها، أو المدافعين عنها، أو المقاومين في صفوف رجالها.

لكن هذا لا يمنع وجود بعض الهنات، وظهور بعض الصور والمشاهد المشينة، وصدور بعض المواقف المعيبة، ووجود من يتعمد تشويه الصورة، وتغيير النمطية العظيمة للشعب والقضية، لمقاصد خاصة أو استجابةً لتعليماتٍ خارجية أو ضغوطٍ دولية، إذ يحرصون بغباءٍ أو بدهاءٍ على رسم صورةٍ أخرى مخالفة ومغايرة، لا تعبر أبداً عن حقيقة هذا الشعب العظيم، الطموح العنيد، الذي يضحي بلا يتردد، ويرفع رأسه رغم القهر بكل كبرياءٍ وشموخ.

اليوم وفي ظل انتفاضة القدس الثانية، التي ما زالت برعماً يتفتح، وغصناً يشتد ويقوى، وأملاً يكبر في النفوس، ورغبةً تكبر مع الأيام، فإن بعض الجهات تأبى إلا أن تشوه الصورة المتألقة التي يحاول الشبان الفلسطينيون الشجعان رسمها، الذين يصحون بأرواحهم وهم في ريعان الصبا وميعة الشباب الواعد، ويحرصون على أن يجدفوا عكس التيار، وأن يقولوا للعالم أن الصورة الفلسطينية التي ترونها صورة زائفة، وأنها لا تعبر عن كل الشعب الفلسطيني، وأنه يوجد من يعارضها ويرفضها، ويبدون اعتراضهم على الانتفاضة، ويصفون فعالياتها بالعنف والتطرف، ويدعون إلى وقفها والإقلاع عنها.

هو ذات الصوت الذي نسمعه من المسؤولين الإسرائيليين، عبر المؤسسات الإعلامية ورجالها، أو الجهات الأمنية وقادتها، ومن السياسيين ورئيس الحكومة أيضاً، الخائفين من الانتفاضة، والجزعين من ظواهرها، والقلقين من استمرارها وانتشارها، وتأصيلها وتنظيمها، إذ يسكنهم خوف عدم السيطرة عليها أو احتوائها، وتمكنها من اكتساب الرأي العام الدولي والتأييد الرسمي، ونيل الاعتراف الدولي بشرعية مطالبها، وعدالة قضيتها.

كما أنهم يخشون من نجاح الانتفاضة الجديدة في تشويه صورة كيانهم، وكشف حقيقته العنصرية من جديدٍ أمام العالم الحر، لهذا فإنهم يحاولون استباق الأحداث والتأثير على الرأي العام ويشكون بأن الأحداث تشكل خطراً على أمنهم وسلامة مستوطنيهم، ويصفونها بالأعمال الإرهابية الفوضوية، التي ترعاها دولٌ وتشجعها تنظيماتٌ، وأنها تضر بالفلسطينيين ومستقبلهم، وتعيق المفاوضات وتعطل مساعي التوصل إلى حلولٍ نهائية، وأنها حالاتٌ شاذة لا تعبر عن الشعب الفلسطيني كله، ولا يقبل بها كل الفلسطينيين، في محاولةٍ منهم ماكرة وخبيثة لعزل المقاومين، وفصل الثائرين عن محيطهم الوطني ووسطهم الاجتماعي، كي ينفردوا بهم، ويسهل عليهم السيطرة عليهم، وتطويق محاولاتهم، وإجهاض انتفاضتهم.

من الصور المقيتة التي يرفضها الشعب الفلسطيني ولا يقبل بها، والتي لا تعبر عن إرادته ولا تتوافق أبداً مع ما يقدمه ويقوم به، والتي لا تدل على استقلالية القرار ووطنية أصحابه، والتي تثير الريبة وتبعث على القلق والخوف معاً، الأوامر الصادرة إلى تلفزيون فلسطين، وهو التلفزيون الرسمي للسلطة الفلسطينية، تطلب منه تقليص بث المواجهات الفلسطينية، وعدم بث موجة مفتوحة من أماكن المواجهات، خشية أن تؤدي إلى زيادة وانتشار الغضب في الشارع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.

لو أن الجهات الرسمية كانت تقصد حقن دماء الشبان الفلسطينيين، وتحرص على ألا يعرف الإسرائيليون أماكن تجمعات المتظاهرين، وتخاف من أن بث الصور وتحديد الأماكن، من شأنه أن يسهل على سلطات الاحتلال مداهمتهم وفض جمعهم، وربما قتل بعضهم، وتدعي بأن لديها شواهد قديمة وسوابق عديدة تبرر فعلها وتجيزه، فلو كان هذا هو قصد المسؤولين فإننا نحمده ونشكرهم عليه، ولكننا نعلم أن قصدهم غير ذلك تماماً، إذ أنهم يريدون تطويق الأحداث، وضبط انتشارها لمنع امتدادها وخروجها دائرة عن السيطرة.

أما المواقف الأشد غرابة والأكثر سوءاً، فهي تلك المواقف الفلسطينية غير المسؤولة، التي دعت الحكومة الإسرائيلية ورئيسها إلى ضبط المستوطنين الإسرائيليين، وتنظيم حركة ونشاط الأحزاب الدينية المتطرفة، ومنع طلاب المدارس الدينية من الاحتكاك بالمصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى، في الوقت الذي تلتزم فيه السلطة الفلسطينية بضبط الأحداث، وتقييد حركة المتظاهرين، ومنع العمليات العسكرية كلها، ويضيفون بأن هذه الإجراءات المتبادلة، فضلاً عن أنها تعزز الثقة بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، فإنه من شأنها أن تهدئ الأجواء، وأن تقلص من ألسنة اللهب المتصاعدة، وتضمن أن تعيد الهدوء إلى كل المناطق.

ونشرت بعض الجهات الفلسطينية تقارير ومستنداتٍ رسمية، صادرة عن جهاتٍ أمنية فلسطينية، تطالب عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالانتشار باللباس المدني في الشوارع العامة ، والانخراط في المظاهرات وسط الجمهور، لمنع تظاهرهم أولاً، أو لحرف مسيرتهم ومنعهم من الوصول إلى مراكز الجيش الإسرائيلي أو طرق مستوطنيه، وإطلاق الأعيرة النارية خلال المظاهرات لتبرير قيام الأجهزة الأمنية باعتقالهم وفض جمعهم.

لعل هؤلاء قد نسوا انتفاضة القدس الأولى، عندما اعتدى الاحتلال على مؤسسات السلطة الفلسطينية، وقتل عناصرها واستهدف رجالها، ولم يفرق بينهم وبين بقية المواطنين، فسقط برصاصهم وقصفهم من المنتسبين إلى الشرطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية مئات الشهداء، في الوقت الذي وقف الكثير من أبناء المؤسسة العسكرية والأمنية الفلسطينية إلى جانب شعبهم، ووضعوا أيديهم بأيدي إخوانهم، واستطاعوا أن يرسموا صورةً فلسطينية رائعة، جسدت ملاحم بطولية لهذا الشعب الأبي.

تلك هي الصورة الرائعة لأبناء شعبنا الفلسطيني، أياً كانت صفاتهم ووظائفهم، وانتماءاتهم وتنظيماتهم، فهم فلسطينيون أولاً، وهذا وطنهم محتلٌ سليب، وهذا عدوهم قاتلٌ مجرم، وهذا هو شعبهم العظيم يقاتل ويقاوم، ويضحي ويقدم، ويرسم بدم شبابه للشعب والأمة أزهى الصور وأعظم اللوحات الخالدة، أفلا ننتمي إليه وندافع عنه، ونكون جزءاً أصيلاً منه.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (9)

قطاع غزة والمساهمة في الانتفاضة

قطاع غزة جزءٌ أصيلٌ وعزيزٌ من أرض الوطن الغالي فلسطين، وهو قطعةٌ صغيرة المساحة عظيمة الأثر من أرض الوطن الكبير، قدر الله له أن يتحرر وأهله، وأن يتطهر وأرضه، وأن يتخلص من الاحتلال وشعبه، وألا يعود فيه محتلٌ أو مستوطنٌ، فقد رحلوا جميعاً عنه في يومٍ مشهودٍ وليلةٍ لا ينساها الفلسطينيون، وتركوا وراءهم مستوطناتٍ بنوها، ومعسكراتٍ شيدوها، وأسلاكٍ شائكةٍ نصبوها، وأسوارٍ عازلة علوها، وأبراجٍ عالية رفعوها، ومشاريع أقاموها، ومساكن ومستشفياتٍ ومدارس وجامعات ومزارع ونوادي خربوها قبل المغادرة، لئلا يبقى منها في غزة أثرٌ أو معلم يستفيد منها الفلسطينيون وينتفعون، فقد أجبروا على الرحيل والمغادرة، فتركوا كل شئٍ كانوا يظنون أنه لهم، وخلفوا وراءهم أحلامهم وخيالاتهم وأساطيرهم وخزعبلاتهم ونبوءاتهم، ولم يلتفتوا إلى شئٍ كانوا يؤمنون به، ويعتقدون أنه جزءٌ من وعد الرب لهم.

من غزة ومن مخيم جباليا لللاجئين انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى، واستعرت نارها واتقدت، حتى عمت فلسطين كلها، وشملت الوطن بكل ألوانه وأشكاله، وأحزابه وتنظيماته، وقدم سكانه خلالها شهداءً عظاماً، وأسرى أبطالاً، وآلاف الجرحى والمصابين.

وفي الانتفاضة الثانية كانوا الغزيون سباقين ومقدامين، فأعطوا وما بخلوا، وسبقوا وما تأخروا، وابتكروا وابتدعوا، وأحسنوا وأبدعوا، وقدموا الجديد واللافت، والقوي والمثير، والموجع والمؤلم، ودفع سكانه ضريبة مقاومتهم، وثمن صمودهم وتحديهم، فدك شارون أرضهم، ودمر بيوتهم، وقسم مناطقهم وجزأها، ولكن أمله خاب، وجهده ضاع، ومخططاته فشلت، إذ رحل بعدها وهرب.

غزة دوماً جزءٌ من المعركة أصيلٌ، وفصيلٌ في الحرب كبيرٌ، وقطاعٌ في الجبهة متقدمٌ، وفيلقٌ في القتال منتصر، ورايةٌ مرفوعةٌ، أعلامها ترفرف، ورجالها يتصدرون المقاتلين، ويشعلون الجبهات، ويخوضون الصعب، ويتحدون المحتل، وينتصرون لأنفسهم ولإخوانهم، ويهبون انتقاماً لأبنائهم وثأراً لشعبهم، لا تقعدهم الخطوب، ولا تفت في عضدهم الصعاب، ولا يخيفهم العدو وإن بطش، ولا يردعهم وإن قتل.

اليوم يسأل كثيرون أين غزة ورجالها، وأين المقاومة وصواريخها، وأين الكتائب والألوية، والجبهات والقوات، وأين قادة الفصائل، ولماذا لا يهبون بسلاحهم نصرةً للقدس والأقصى، وانتصاراً لفلسطين والضفة، فإن لم يتحركوا اليوم نصرةً للقدس فمتى يتحركون.

ليس المطلوب من غزة الباسلة اليوم ومن مقاومتها العتيدة، أن تطلق صواريخها على المدن والبلدات الإسرائيلية، فنحن نعرف تماماً، والعدو يعرف يقيناً أن المقاومة الفلسطينية تستطيع أن تدك بلدات الغلاف كلها، كما أنها قادرة على أن تصل إلى عمق الكيان وقلبه وشماله، وقد باتت صواريخها المحلية الصنع والمهربة دقيقة نسبياً، وكما أنها قادرة على الوصول إلى أغلب أهدافها، فإنها أصبحت قادرة على إلحاق الضرر والأذى في الأرواح والممتلكات، فضلاً عن قدرتها الرهيبة على إثارة الذعر والهلع في صفوف المستوطنين جميعاً.

إلا أننا ندرك أن الإسرائيليين يبحثون عن حرف انتفاضة القدس، وتغيير شكلها ومسارها، وتحويل الأضواء عنها، وإجهاضها بطريقةٍ أخرى، بعد أن بات غير قادرٍ على مواجهة شبابها، الذي يتقد في كل يومٍ حماسةً أكثر، ويزداد عدداً، ويوغل في صفوف العدو أكثر، فلعل المواجهة العسكرية الشاملة، عبر حربٍ وحشية جديدة يشنها على قطاع غزة، تنقذه من مستقبلٍ غامض، وتعفيه من دفع استحقاقاتٍ كبيرة، وتكون كفيلة بوأد الانتفاضة، وإشغال الفلسطينيين في حدثٍ آخر، وحربٍ دمويةٍ جديدة، يطالب العالم كله بوقفها.

إذا كنا لا نطالب قوى المقاومة في قطاع غزة أن تنجر إلى حربٍ جديدة مع الكيان الصهيوني، رغم اعتقادنا أنها آتية قريباً لا محالة، فالعدو يتهيأ لها، ويهدد بها من حينٍ إلى آخر، في محاولاتٍ منه مستميتة للهروب إلى الأمام، للتخلص من مشاكله والهروب من الاستحقاقات المفروضة عليه والمطالب بها دولياً.

فإننا نطالبها وقادة الفصائل في قطاع غزة، بحماية الشباب الفلسطيني والوقوف إلى جانبهم، وعدم دفعهم كل يومٍ لمواجهةٍ غير عاقلةٍ ولا حكيمة، خلف الأسوار العالية والأسلاك الشائكة مع جنود العدو الصهيوني، الذين يقفون بعيداً عنها، ولا يمكن الاقتراب منهم، ولا الاشتباك بالحجارة معهم، ومع ذلك يسقط في قطاع غزة شهداءٌ كل يومٍ، دون أن يتمكنوا من إلحاق أدنى ضرر أو أذى بالجنود الإسرائيليين، الذين يفرحون بقتلهم، وتتشفى صدروهم بسقوطهم، لهذا ينبغي البحث عن شكلٍ آخرٍ من المظاهرات والاحتجاجات، نشارك فيها أهلنا في القدس والضفة الغربية، ونكون معهم وقبلهم، وفي الوقت نفسه نوجع العدو ونؤلمه، ونؤذيه ونلحق بها خسارةً توجعه، ترضي نفوسنا، وتثلج صدرونا، ونروي بها بعض غليلنا.

لكننا لا نريد أن نقدم له المبرر الآن لينحر بها الانتفاضة الغضة ويقضي عليها، فهو يعلم يقيناً أن صوت الحرب أعلى، وقعقعة سلاحها أكبر، ودوي صواريخها وقصف طيرانها ودك مدافعها يغطي على كل صوتٍ آخر، ويدفع المجتمع الدولي كله إلى رفع الصوت عالياً والصراخ دائماً مطالباً بوقف الحرب وإنهاء القتال، وبذا ينهي الانتفاضة التي توجعه باستمرارها وعدالتها وشيوعها وتجذرها.

الحرب قد تشغله أياماً قليلة مهما طالت، ولكن الانتفاضة قد تشغله سنين طويلة، وهي بالتأكيد ستربكه زمناً أطول، والحرب إن كلفت ميزانيته مبالغ كبيرة، فإنها لفترة محدودة وتنتهي، ولكن الانتفاضة تتطلب ميزانياتٍ متجددة، وأموال متدفقة، يدفعها المواطن الإسرائيلي ضريبةً، فضلاً عن أنها ستثقل كاهل الاقتصاد، بعد أن تعطله وتحدث فيه اضطراباتٍ تجمده فترةً طويلة، وتقلص من حجم مدخولاته وكميات إنتاجه.

وهي تحرج بهذا الشكل العدو أكثر، وتربكه ومستوطنيه وحكومته، وتتسبب له في مشاكل دولية، وتحدياتٍ إقليمية، وتسقط محاولاته لاستخدام ترسانته العسكرية، إذ أنها تحيد قطاعاتٍ كبيرة من أسلحته الفتاكة، فلا يستطيع استخدام سلاح الطيران ولا الصواريخ والمدفعية، ويبقى عدوانه –وهو كبير- مقتصراً على البندقية والمسدس، وقنابل الغاز وخراطيم المياه، وغير ذلك مما يقوى الشعب على مواجهتها والصمود أمامها.

إن الحفاظ على شكل الانتفاضة الحالي، دون أن ندخل إليها سلاحاً حربياً جديداً، يمد في عمرها، ويزيد من فرص نجاحها، ويوسع انتشارها، ويعمق جذورها في كل الأرض الفلسطينية، ويعمم المقاومة، ويشرك الشعب بكل فئاته فيها، وينمي ثقافة المقاومة الشعبية الشاملة، ويعيد الشعب والأمة إلى ظاهرة الانتفاضة الأولى النبيلة، التي أحسنت رسم صورة الشعب، وأعادت إخراج قضيته في إطارٍ أفضل، وأكثر جاذبية وعدالةٍ.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (10)

أقوالٌ وتعليقات من الشارع الإسرائيلي

أثرت الانتفاضة الفلسطينية على مجمل الشارع الإسرائيلي بشهادة واعتراف العامة والخاصة، والشعب والحكومة، وباتوا يحملون بعضهم البعض المسؤولية عن تفجير الأوضاع وتوتير الأجواء والتمهيد لاندلاع الانتفاضة، التي ألقت بظلالها عليهم جميعاً، وفرضت نفسها بقوة على يومياتهم، وطغت على إعلامهم، وهيمنت على نشرات أخبارهم، وانبرى المحللون والمختصون، العسكريون والأمنيون والسياسيون وغيرهم، يدرسون ظاهرة الانتفاضة، ويتعرفون على أسبابها، ويفكرون في نتائجها وأبعادها، وإلى أين يمكن أن تصل، وحتى متى ستستمر، وما هي برامجها المستقبلية، وهل ستنتظم وستتطور، وستتغير أهدافها وتتعدد.

ليس بالضرورة أن يكون أصحاب بعض الكلمات من الساسة المخضرمين، أو من الباحثين والدارسين، الذين يدرسون كلماتهم بعناية، ويختارون مفرداتهم بدقةٍ وعقلانية، ويخافون أن تحسب عليهم كلماتهم وتسجل مواقفهم، بل يكفي أن بعضها معبر وله معنى، وإن صدرت عن العامة والدهماء، وفي أوقات الهزل والجد، والأمن والخوف، والسلامة والخطر، لأنها الأصدق والأكثر عفوية، والأقرب إلى حقيقة المجتمع، والخالية من الزخرف والزينة، وليس لها تبعاتٌ أو مسؤوليات، ولا يخاف أصحابها من السؤال والحساب، كقائلٍ وهو من العامة "إذا كانت إسرائيل تريد وقف ثورة السكاكين، فإن عليها أن تسمح بقيام دولةٍ فلسطينية".

ولكن خبيرة اقتصادية إسرائيلية مسؤولة، تعي بقلقٍ ما تقول، وتقصد بكلماتها بدقة، وتتلمس بعلميةٍ وإحصائياتٍ رقميةٍ لا تخطئ، ما أصاب اقتصاد كيانها، وما لحق بأسواقه المالية والتجارية بفعل الانتفاضة فتقول "إن الضرر الذي لحق بالسوق الإسرائيلي نتيجة الأحداث، أكبر بكثيرٍ مما ألحقته حرب غزة".

وينتقد كاتبٌ إسرائيلي رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، ويحمله كامل المسؤولية عن تصاعد أعمال العنف وتأجيج المشاعر، وتحريض الجمهور، عندما أراد أن يستميل المتدينين، ويكسب تعاطف المتشددين اليمينيين، فسمح لهم باستفزاز مشاعر الفلسطينيين، والدخول بصورة مستفزة إلى باحات المسجد الأقصى، فيقول "إن كيد نتنياهو قد ارتد عليه".

أما صحيفة هآرتس فهي تتهم نتيناهو بعدم الحكمة، وأنه أهوج في قرارته، وغير حكيمٍ في سياسته، وأنه يتخبط ويسير خلف قادة اليمين المتشدد وزعماء المستوطنين الكبار، فتقول في وصف إجراءاته "قرارات نتنياهو لن تجلب الأمن لإسرائيل"، وهي بهذا تنتقد سلسلة القرارات العقابية التي اتخذها نتنياهو بحق منفذي عمليات الطعن والدهس وقذف الحجارة، والتي أرادها قراراتٍ ردعية وزجرية لمنع الفلسطينيين من تكرار عملياتهم، أو المضي في انتفاضتهم.

بعض الإسرائيليين يتهمون نتنياهو أنه يهوى تفجير الأزمات، وأنه يتعاقد مع التحديات، فهو لم يكد يخرج من أزمته مع الإدارة الأمريكية، في الوقت الذي فشل فيه في فرض الرؤية الإسرائيلية على الاتفاق الغربي مع إيران حول مشروعها النووي، حتى أدخل البلاد في أزمةٍ جديدة، قد يكون من الصعب عليه أن يجد له أنصاراً ومؤيدين في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا الغربية، وهو ما أكدته القناة العبرية الثانية، من خلال نتائج استطلاعٍ أجرته، بأن "71% من الإسرائيليين ليسوا راضين عن أداء نتنياهو، ويعتبرون أنه فاشل في مواجهة الأزمات، والتعامل مع الأحداث التي تشهدها المناطق، وأنه كان بشكلٍ أو بآخر أحد أهم أسباب انفجار الأزمة".

كما كشفت الهبة المقدسية، التي باتت تؤول يوماً بعد آخر إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ عامة، تشترك فيها غزة والضفة مع القدس، أن "قرابة ثلثي الإسرائيليين باتوا يؤيدون الانسحاب من الأحياء العربية في مدينة القدس، ويوافقون على قيام دولة فلسطينية، تلتزم أمن إسرائيل، وتلاحق وتعاقب كل من يفكر بالاعتداء عليها وعلى مصالحها، وترتبط مع الحكومة الإسرائيلية باتفاقياتٍ ضابطة".

أما عملية بئر السبع فقد أثارت موجة كبيرة من الانتقاد والسخرية والتهكم في أوساط الإسرائيليين أنفسهم، الذين ذكروا أن "جنود جيشهم لا يصلحون للقتال، ولا يحسنون غير الجري والركض والهروب"، فقد فروا جميعاً أمام شابٍ فلسطيني أعزل إلا من سكينٍ، قبل أن يتمكن من أحد الجنود ويسلبه بندقيته، ومن آخرٍ مسدسه، ثم استخدمهما في إطلاق النار على الجنود والمارة، ولم يوقفه عن الهجوم سوى نفاذ الذخيرة، ولو أنه أراد الهروب والتواري عن الأنظار لفعل، لكنه آثر مواصلة هجومه حتى النهاية، التي كانت بالنسبة له محتومة ومعلومة، ولكنه لم يكن يخشاها أو يتردد منها.

ويزيدون في تهكمهم على الجنود ورجال الشرطة الذين لم يجدوا إلا أن يشتبهوا في مواطنٍ إسرائيلي من أصلٍ أرتيري، فأوجعوه ضرباً وركلاً، قبل أن يأتي شرطي ويطلق النار عليه، ثم قاموا بركل جثته ونكلوا بها وداسوها بأقدامهم، ولكن خيبتهم كانت كبيرة عندما علموا أن هذا القتيل "المسكين" لم يكن إلا مهاجراً يهودياً، كان من حظه العاثر أن ملامحه قريبة من ملامح العرب.

ويتهكم معلقٌ عسكري إسرائيلي تعقيباً على عملية بئر السبع "جنودنا جلبوا لنا العار، إنهم يصلحون لتنظيم السير وليس للقتال"، وذلك بعد أن أفرجت الرقابة العسكرية عن عشرات صور كاميرات الرقابة في منطقة العملية، التي بينت أن الجنود كانوا مشغولين في الفرار والاختباء في الزوايا وخلف الجدران، بينما كان الفلسطيني يلاحقهم ويطلق النار عليهم.

ما عاد إسرائيليٌ بمأمنٍ من تداعيات الانتفاضة، ولا بعيداً عن نتائجها، فكلهم سيناله جزءٌ منها، وسيتعرض لبعض لفحاتها الساخنة أو اللاهبة أحياناً، التي قد تلسع البعض، ولكنها قد تحرق وجوه وأيدي وأجساد آخرين، وقد أصابهم فعلاً لهيبها، ومسهم الكثير مما أوجعهم وآلمهم، وأقلقهم وأخافهم، ما جعل الكثير منهم يخرج عن صمته، ويعبر بلسانه، ويظهر بعض ما يخفيه في قلبه، ويعبر جاداً أو هازلاً، بالقدر الذي تمسه الأحداث وتنعكس عليه، وبمجموع التعليقات واختلافها، فإنها تشكل صورةً مختلفة شبه حقيقية عما يدور في الأوساط الإسرائيلية الداخلية، وهي الصورة البعيدة نسبياً عن الإعلام العام، والتي لا قد تصل إليها آذان وأذهان العرب، الذين لا يتابعون المجتمع الإسرائيلي من الداخل.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (11)

خليل الرحمن لعنةٌ على العدوان

الخليل هذه المدينة الموغلة في القدم، والموسومة بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وفيها مسجدٌ حرمٌ باسمه، يتعرض لأبشع حملات التهويد والسيطرة، والتقسيم والهيمنة، بل والمصادرة والتملك، تعاني كثيراً من الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، ففيها مستوطنة كريات ملاخي، وهي المستوطنة الأشد تطرفاً لدى الإسرائيليين، ومنها خرج مئير كاهانا، زعيم حركة كاخ العنصرية، والمجرم باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994، وفي أحيائها تنتشر التجمعات اليهودية، وتكثر بيوت المستوطنين المتشددين، الذين يحتلون الشوارع ويغلقونها، ويضيقون على الفلسطينيين ويطردونهم، ويسيرون في شوارعهم حاملين أسلحتهم يستفزون ويتحرشون، وبألسنتهم يشتمون ويسبون بفاحش القول وبذيء الكلام.

اليوم ... لا أحد يخيف الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية كمدينة الخليل، وإن كان بات يخشى من الفلسطينيين جميعاً، صغاراً وكباراً وأطفالاً، إلا أنه ينظر إلى مدينة الخليل بخوفٍ شديدٍ وحذرٍ أكبر، ويرى أنها القنبلة التي ستنفجر والبركان الذي سيندلع، وهو إذ يعاني منها قديماً ويشكو، فإنه اليوم أشد معاناةً وأعظم شكوى، فهذه المدينة بقراها وبلداتها ثائرة دوماً، ومنتفضة أبداً، ولا تقبل الإهانة، ولا تسكت على الضيم، ولا تنام على الحيف، وتصر على الرد، وتصمم على الانتقام، ولا تبالي بالجراح، ولا تحزن إن أصابتها الآلام طالما أنها من أجل وطنها، وحمايةً لشعبها.

كثيرةٌ هي العمليات العسكرية النوعية التي قام بها الخلايلة والتي يصعب على العدو نسيانها، فهو لا ينسى شبانه الثلاثة الذين اختطفتهم المقاومة، ولا ينسى قناص الخليل الذين أرعب مستوطنيهم، ومنعهم من عبور الشوارع وارتياد الطرقات، ولا عمليات القنص الناجحة التي طالت جنوداً وضباطاً، وتمكن خلالها المنفذون من الفرار والتواري عن الأنظار، دون أن يتركوا وراءهم دليلاً أو شاهداً يدل عليهم، أو يقود إليهم، أما عملية الدبويا فهي أم المعارك الفلسطينية في مدينة الخليل، التي أوجعت الإسرائيليين وأدمتهم، وأبكت جنودهم وضباطهم كما بكت بحرقةٍ فاجعةٍ نساؤهم، وما زالت حتى اليوم محل فخر الفلسطينيين وموضع ألم وحسرة الإسرائيليين.

أما في يوميات انتفاضة القدس الثانية، فلا يكاد يمر يومٌ دون أن تترك الخليل، المدينة والمحافظة، آثارها الوطنية البارزة على الأحداث الجارية، فهي تأبى أن تكون متفرجة، أو شاهدة على الأحداث، تراقب وتتابع، وتندد وتستنكر، وتبكي وتحزن، بل تصر على أن تكون شريكاً أساسياً، ولاعباً مهماً في هذه المعركة، تضرب حيث تجد الضرب ممكناً، وتتظاهر وتغضب في كل مناسبةٍ توجب عليها أن يكون لها كلمة وموقف، يحفظه لها التاريخ ويدونه الوطن في سجلاته.

تعرف سلطات الاحتلال أن الكثير من الاستشهاديين ومنفذي عمليات الطعن الدهس في كل أرجاء فلسطين المحتلة، يخرجون من مدينة الخليل، التي ينتسبون إليها سكناً، أو ينتمون إليها ثقافةً وتدريباً وتأهيلاً، حيث تصفها المخابرات الإسرائيلية بأنها العقل الأيديولوجي للعمليات العسكرية والاستشهادية التي عمت البلاد في الفترة الأخيرة.

ويقول محللون عسكريون إسرائيليون أن الخليل مدينة معروفة بأنها من معاقل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" منذ عشرات السنين، فضلاً عن القوى الفلسطينية التقليدية وعلى رأسها حركة فتح والجبهة الشعبية، ورغم الجهود الأمنية الهائلة التي تبذلها إسرائيل والعمليات الاستخبارية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية من أجل إحباط العمليات المسلحة، بما في ذلك اعتقال المشتبه بهم، فإن هناك في الخليل دائماً من هو مستعد لقتل اليهود.

وقد بات معروفاً أن العديد من منفذي العمليات العسكرية ضد أهدافٍ إسرائيلية، التي تتم بالأسلحة النارية أو بواسطة السلاح الأبيض، أو من خلال عمليات الدهس والصدم، هم من مدينة الخليل، ما جعلهم في انتفاضة القدس سباقين ومقدامين، ومعطاءين ومضحين، ولا يسبقهم إليها أحد، ولا تبزهم مدينةٌ فلسطينيةٌ أخرى.

في الوقت الذي كانت فيه حاضنة خلايا المقاومة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية في كل المراحل، وما يغيظ سلطات الاحتلال أكثر أن العديد من العمليات التي ينفذها الخلايلة كان فيها تحدي وعناد، سواء تلك التي تتم في قلب المدينة وفي محيط الحرم الإبراهيمي، حيث الحراسات المشددة وجنود الجيش المنتشرين في كل مكان، أو عمليات القنص التي تتم في وضح النهار، وينسحب خلالها المنفذون بأيدي نظيفة جداً.

كأن الخلايلة ينتقون أهدافهم، ويبحثون عن عدوهم، فلا يقتلون إلا ضابطاً، ولا يهاجمون إلا النخبة، ولا يقاومون إلا الجيش اللجب، ويصمدون أمام كل التحديات، ويعاندون العدو ويفسدون خططه، ويثبتون على الأرض رسوخاً كالجبل، وشموخاً في السماء كالشمس، الأمر الذي جعل الاحتلال يشكو منهم دوماً، ويخشاهم ويسميهم غزة الضفة الغربية، في إشارةٍ إلى معاناته الشديدة في غزة، وعجزه عن مواجهة رجالها ومقاومتها التي أوجعته وآذته، وأجبرته على الرحيل والمغادرة، مرغماً غير مختاراً.

لا يحب جنود جيش الاحتلال الخدمة في مدينة الخليل، ويتمنون ألا يأتي تكليفهم فيها، إذ يرون فيها حتفهم أو أسرهم، فتراهم منها يهربون، وعنها يصرفون الأنظار خوفاً مما قد ينتظرهم فيها، ولا تخلو بلدةٌ من بلدات الخليل، إلا ولها في المقاومة سابقة، ولها مع الإسرائيليين قصة وحكاية، تسجلها كل يوم المدينة العتيقة كالذهب، وبلداتها الرابضة على الأرض كأسد، يطا والظاهرية، ودورا وبيت عوا، وأدنا وصوريف وبيت أولا وسعير وبيت أمر، التي باتت أسماؤها أعلاماً، وعمليات أبنائها ملاحم وبطولاتٍ، ومعارك شرفٍ خالدات.

شهداء فلسطين الخلايلة أكثر من أن يحفظهم كتاب، أو يذكرهم كاتب، فهم على مدى سنوات الاحتلال سيلٌ جارفٌ من المقاومين، ونهرٌ يجري بدم الأحرار، ونبعٌ يتدفق بالمقاتلين الأخيار، والرجال الأبرار، والأمهات والأخوات الحرائر الطاهرات، وفي انتفاضة القدس ما تأخرت الخليل ولا بدلت من سنتها التي عرفت عنها.

مدينة الخليل صاحبة عملية الدبويا الشهيرة، الأشد وجعاً وألماً للإسرائيليين، والباقية آثارها، والخالدون شهداؤها، لا يبيت أبناؤها قبل أن يطعنوا جندياً إسرائيلياً، أو يقتلوا مستوطناً غازياً، أو يخطفوا متسللاً معتدياً، أو يقوموا بأعمالٍ من شأنها إرباك الاحتلال وإلحاق الأذى في صفوفه، فهذه يوميات الخلايلة وبرامجهم التي اعتادوا عليها، وكأنهم يقولون لا بارك الله لنا في يومٍ لا نجاهد فيه ولا نقاتل، أو لا نقاوم فيه ونقارع العدو، ليعلم أن هذه الأرض ليست له، وأنه ليس إلا محتلٌ عابرٌ، سيمضي كما مضى السابقون، وسيرحل كما رحل من قبله بقوة الفلسطينيين وبأس العرب والمسلمين، والتاريخ على هذا شاهدٌ، والزمان لن يخلد للمحتل، ولن يجمد على هذا الحال الذي يظنونه قد دان لهم.


الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (12)

التداعيات الاقتصادية والكلفة المالية

انتفاضة القدس أو الانتفاضة الفلسطينية بصورةٍ عامة، كانت بالنسبة للإسرائيليين وربما لغيرهم أيضاً في الداخل والإقليم والجوار، هاجساً يقلقهم، وكابوساً يلاحقهم، وقد كانوا يسابقون الزمن، ويتحايلون على الأحداث لئلا تقع أو تنفجر، لأنهم كانوا يعلمون تداعياتها، ويعرفون نتائجها، وانعكاساتها على استقرار كيانهم وأمنهم وعلاقاتهم الخارجية، وصورتهم الإعلامية، وترابطهم الداخلي، وأنشطتهم البينية التي يلزمها الأمن والهدوء والاستقرار وطمأنينة النفس وراحة البال، ولكنهم رغم خوفهم وتحسبهم، ما كانوا يحاولون تجنبها عملياً، ولا الابتعاد عن أسبابها والقضاء على عواملها جدياً، بل كانوا بممارساتهم العدوانية القاسية المتعمدة سبباً في تفجيرها في وقتها أو تبكيرها عن أوانها.

انتفاضة القدس التي انفجرت داميةً، واتخذت السكين وسيلةً وسلاحاً وأداةً، بما فيها من رعبٍ وخوفٍ سيطر على المستوطنين والجنود معاً، وطافت وانتقلت إلى كل أرجاء فلسطين، قد ألقت بظلالها القاسية والمباشرة على الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، وأثرت بشكلٍ أو بآخر على مختلف المرافق الخاصة والعامة، وكان لها آثارها السلبية الملموسة والمعدودة والمحسوبة، التي انعكست بصورة مباشرة على المؤسسات والمرافق والخدمات، وعلى المدخولات والنفقات، وقد أصابت بعض المرافق بالشلل الكلي، وأخرى تعطلت جزئياً، وكلاهما مع توالي الأيام يغرق وتتعمق مأساته أكثر، الأمر الذي سيجعل معافاة الاقتصاد الإسرائيلي صعبة أو متأخرة.

فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن الأيام العشرة الأولى من الانتفاضة قد تسببت في صدمة الأسواق المالية الإسرائيلية، وتركتها في حالة ذهول وتخبطٍ، وأدت إلى انهيار ملحوظ في أسهم الشركات الكبرى، وقد تستمر هذه التداعيات وتتفاقم في حال استمرار الأحداث، مما سيضر الحكومة ووزارة المالية الإسرائيلية إلى تخصيص ميزانياتٍ إضافية إلى جهاز الشرطة العام، وإلى قيادة الأركان ووزارة الدفاع، التي ستكون مضطرة لاستدعاء الاحتياط، بالإضافة إلى وزارة الداخلية والأمن الداخلي، وحالة الاستنفار القصوى التي تعيشها الأجهزة الأمنية، الأمر الذي سيرهق ميزانية الدولة، وسيرفع من حالة مديونتها الداخلية والخارجية، وحاجتها إلى المساعدات الدولية، لحقن ميزانيتها، وستكون هذه الميزانيات الإضافية على حساب فعالية وحيوية المرافق الاقتصادية الأخرى، حيث يتوقع أن يتراجع مستوى الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تراجع دخل الحكومة، وفي حال حصولها على مساعداتٍ أو قروض، فإنها ستكون مضطرة لتحويلها إلى جهاز الشرطة والجيش، ليتمكنا من مواجهة الأحداث المتصاعدة.

ونقلت الإذاعة العبرية عن مسؤول كبير في وزارة المالية الإسرائيلية قوله إن "الانتفاضة أدت إلى زيادة تكلفة  المصاريف الأمنية والعسكرية بشكلٍ كبيرٍ، سيما في ظل استدعاء الآلاف من الجنود للخدمة في القدس وأرجاء الضفة الغربية، إلى جانب الحاجة إلى شراء الكثير من العتاد والتجهيزات العسكرية والأمنية اللازمة للعمل العسكري والأمني والاستخباري".

وقد سجلت دوائر الرصد الإسرائيلية انخفاضاً ملحوظاً في القطاع السياحي، حيث ألغيت مئات الرحلات، وألغيت آلاف الغرف الفندقية، خاصة تلك التي كانت مرتبطة بمدينة القدس وأماكنها الدينية، حيث لوحظ حالات إلغاء جماعية لرحلاتٍ وبرامج كانت معدة ومخطط لها قبل أشهر، ما أدى إلى إغلاق العديد من المكاتب السياحية وتعطيل الموظفين، وإلغاء التعاقدات الفنية والرياضية والثقافية، فضلاً عن توقف الخدمات المرافقة كالمطاعم والأماكن السياحية وشركات تأجير السيارات وغيرها.

يستطيع أي مراقبٍ أو متابع أن يلاحظ أن الحركة في الشوارع الإسرائيلية قد خفت كثيراً، وأن العديد من المحلات التجارية قد أغلقت أبوابها، وتراجع الإقبال على الأسواق العامة، وقل رواد المقاهي ومرتادو دور السينما والمسرح وأماكن الترفيه الأخرى، وأن الحافلات الإسرائيلية العامة قد باتت خالية من الركاب إلا قليلاً، خاصةً بعد عملية حرق عشرات الحافلات العامة وهي متوقفة في مرائبها، وهي إشاراتٌ واضحة على حالة الركود والانكماش التي يعيشها الاقتصاد الإسرائيلي.

لا تتوقف التداعيات السلبية لانتفاضة القدس على المرافق الاقتصادية المباشرة، بل امتدت آثارها لتطال قطاع التعليم، وخاصة التعليم الديني في مدينة القدس، حيث أغلقت عشرات المدارس، وغاب تلاميذها وطلابها عن مقاعد الدراسة، وبدأت بعض البلدات الإسرائيلية في تحديد ساعات الدراسة، ومتابعة حافلات نقل التلاميذ، في الوقت الذي اتخذت العائلات الإسرائيلية احتياطاتها الخاصة ومنعت أولادها من الذهاب إلى المدارس، خاصة تلك التي تتقاطع طرق الوصول إليها مع قرى وبلداتٍ فلسطينية.

وتري الخبيرة الاقتصادية الإسرائيلية إيليت نير أن الضرر الذي لحق بالأسواق الإسرائيلية نتيجة الانتفاضة، أكثر بكثير من تلك التي أصابها جراء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ففي الحرب على غزة كان المواطن الإسرائيلي يثق في الجيش لحمايته وصد الاعتداء عنه، ومهاجمة المقاومين في أماكنهم، أما عمليات الطعن العامة، والدهس والصدم في الشوارع والطرقات، فهي تتصف بالفردية والفجائية، وليس فيها تنظيمٌ ولا إعداد مسبقٌ، ومنفذها كل فلسطيني يرغب ويقرر، ولا يوجد ضدها ضربة أمنية حاسمة ومميتة، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من كل مواطنٍ إسرائيلي هدفاً متوقعاً وضحية ممكنة، ويبدو في وجهة نظرها أن بقعة الزيت آخذةٌ في الاتساع والتمدد.

لا أحد ينكر أن الاقتصاد الإسرائيلي مزدهر بالمقارنة مع دول المنطقة، ودول المركز الرأسمالي المتقدمة، وأنها تحقق نمواً اقتصادياً يصل إلى 5% سنوياً، ولكن الاقتصاد الإسرائيلي اقتصادٌ يوميٌ آنيٌ، يتأثر باللحظة، ويستجيب إلى المؤثرات والمعطيات الزمانية والمكانية، ولهذا فهو على الرغم من درجة النمو العالية نسبياً، فإنها قد تؤول فجأةٍ بطريقة الانكسار الحاد غير التدريجي إلى درجاتٍ دنيا، في حال استمرار الانتفاضة، وانعكاسها النفسي والمادي على المواطن الإسرائيلي.

لا ينبغي أن نقلل من حجم وأثر الانعكاسات السلبية على بنية الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الانتفاضة المباركة، فأثرها يتجاوز الأرقام والإحصائيات، ومستوى النمو ودرجة الركود، إلى انعدام الثقة في الكيان ومستقبله، والإحساس فيه بالغربة والخوف، وفقدان الثقة في جيشه ومؤسساته الأمنية، وفرار المستثمر الأجنبي، وهروب رأس المال المحلي، ونزوع المواطنين إلى السكينة والهدوء، والكف عن البيع والشراء، والامتناع عن دفع الضرائب وأداء المستحقات، وغير ذلك مما تنتجه النفس المحطمة، والروح اليائسة، والأفق المسدود.

وسوم: 638