دوزنة الكون و إيقاع الزمان...

حين تنزلق قدماك في سوق الشهداء فتأخذ طريقك إلي تلك الأحياء العريقة , حي العرب , حي العمدة , ود أرو , ود البنا و غيرها تحس و كأنك تدلف إلي معبد كبير , فيه خشوع القلب و راحة النفس , ما سر خلود هذه البقعة الفريدة ؟. جمعت ام درمان صخب الدنيا و ضجيجها رغم هدوء بيوتات الطين و الآجر , منحنيات الشوارع و الأزقة , أبواب الخشب العتيقة , حس الدنيا كله في أم درمان . دوزنة الكون و إيقاع الزمان . تناسق خطوات الامدرمانيين مع كل هذا صنع سيرة عظيمة للمكان و لو لم تكن أمدرمانيا فحتما أنت صائر الي ذلك حين تذهب الي هناك . أحيانا يخيل لي في شأن امدرمان كأن خياطا ماهرا و قد خاط ثوبا يصلح لكل الناس علي اختلاف أجسادهم , طولا و قصرا , نحافة وجسامة , لقد كان ذلك الخياط الماهر هو الفن بالتأكيد . أغنية الحقيبة , شعراؤها و مغنوها و هكذا حتى أدرك الناس زمان عوض جبريل فأيقنوا أن أم درمان عظيمة بالفعل و أطلقوا قولهم الشائع

 أم درمان صاغت وجدان الشعب السوداني .

لأغنيات عوض جبريل صليل و جرس , و لبعضها مناسبات و قد كان الناس يحتفون و لا يزالون بمناسبات الأغنية , يصفون مناسبة نظمها و ينسجون الحكايات حول ملهمات الغناء من الحسناوات , ربما لا يدرك الناس أحيانا أن القصيدة ليست في حاجة لمبرر موضوعي لكي توجد لكن علي أية حال لابد من وجود مصدر الهام ما و أروع ما عند عوض جبريل أن شعره و غنائه مبذولان للناس هكذا بلا مقابل , يصفه المقربون بأنه كأن عميق الصلات بطبقات الناس كلها من أشهر ما يروي عن أغنيات عوض جبريل أنه جاء منزله ذات يوم فوجد أن سيولا جارفة و امطارا عظيمة لم يشهد الناس مثلها في ذاك الزمان قد قضمت اجزاءا كبيرة من تللك الاكواخ الطينية الممتدة علي امتداد البصر حتي صار بعض الناس في العراء بلا مأوي و وجد الشاعر زوجته كغيرها من الناس في محنة و كرب , فانشأ يقول : - ا تهتمي للأيام ظروف بتعدي طبيعة الدنيا زي الموج .......................... هكذا يمنح الفنان الناس الأمل في ذروة الآلام , يعطيهم معني للحياة لا يدركونه كثيرا و هم غارقين في المدلهمات و الخطوب , أنظر إلي قوله ( طبيعة الدنيا زي الموج ) كأن الحياة تأخذ بيد و تمنح بأخرى فعل الأمواج العاتية تهبط لتعلو و تعلو لتهبط .

أنها قيمة الحياة . لا يمنحنا عوض جبريل خدر الأمنيات اللذيذ لكنه يتفوه بفلسفة الحياة .

قال الراوي في موسم الهجرة : (الشاطئ يضيق في مكان و يتسع في مكان , ذاك شأن الحياة تعطي بيد و تأخذ بيد أخري ( نعم ذاك شأن الحياة دوما !

حين نعي الناعي عوض جبريل ذات يوم كنت في طريقي الي حيث أعمل , دائما أخذ الحافلة من محطة البلابل الي السوق العربي و من هناك الي بري , أعرج في طريقي الي كافتيريا اب جنزير الشهيرة , اقرا الصحف و أحتسي القهوة و الشاي , أري الناس في غدوهم الصباحي , جلهم راجلين علي جنبات شارع القصر و البلدية , حس أبواق السيارت , اصوات الباعة المتجولين , همهمات الشحاذين , جلبة النهار تأخذ بالتصاعد منذ تلك اللحظات و لا تكاد تركن الي سكونها الا عند منتصف الليل بقليل . لكنما ذاك الصباح كان مكفهرا بالفعل , أبصرت الناس واجمين , مذهولين لفدح الخطب الجلل - مات عوض جبريل . أنسال من عيني دمع حار و سمعت جل الناس يهتفون : - يا حليلو .. يا حليلو ! حليل عوض جبريل.. هكذا غفا الشاعر العظيم في منام امدرمان الحالم بعد أن صدح بحبها و هام بها فخلد أسمه بذكرها و خلدت بقيثارة فنه الطروب ..سلام عليه في الخالدين .

وسوم: 638