أيريدون إصلاح مجتمع أم إلهاء مجتمع؟!
أ. يوسف
ينتابُ المسلم الغيور على دينه هذه الأيام ألم وحسرة بالغة، حينما ينظر إلى حال المجتمع الإسلامي الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاش المسلمون قروناً مديدة وهم يتقلبون في أكنافه بنعمة من الله وفضل لم يمسسهُم سوء... وإلى حاله يوم اقتحم الكافر المستعمر ديارهم، وعمل في مجتمعهم تدميراً وإفساداً، حتى جعل منه كنتونات صغيرة متنافرة تعج بالكفر والفجور، وقد فرض عليهم فيها العيش وفق طراز عيشه الغربي الفاسد، وبموجب ثقافته وأنظمته الرأسمالية العفنة حتى امتلأت بالمفاسد والشرور والآثام في كافة مناحي الحياة وفقدت تلك الكنتونات لون وطعم ورائحة الإسلام المبهر المتفرد وكان من الطبيعي أن تقوم في الأُمة الإسلامية الخيرة حركات إسلامية متنورة لدفع العدو الغاشم ورفع مفاسده... غير أن تلك الحركات قد أخفقت، حيث أصابها من غبار الغزو الفكري الغربي ما أصابها، فلم تتمكن من علاج المجتمع لسطحية نظرتها لواقع المجتمع ومقوماته، وما ترتب عليه من جهل بأسباب العلاج الصحيح فكانت حالها كحال الطبيب الذى أساء التشخيص فأساء العلاج...
لقد قالت تلك الحركات: "إن المجتمع مجموعة أفراد، وإن إصلاح المجتمع يتم بإصلاح أفراده"، وأخذوا على هذا المنوال ينسجون، دون أن يدركوا أن واقع الفرد غير واقع المجتمع، وأن مقومات الفرد غير مقومات المجتمع. ولذلك كان الاستمرار المشاهد في انحراف المجتمع بل قل تفاقمه؛ ناجماً عن الخطأ في تعريف المجتمع بأنه أفراد، لضرورة ابتناء الخطأ في العلاج على الخطأ السابق في التشخيص، وفي ذلك بلاءٌ عظيم. فالمرض قد استدام في المجتمع وتجذر، فلا هم أصلحوا الأفراد ولا هم أصلحوا المجتمع... بل أضاعوا فوق ذلك أوقات المسلمين، وبددوا طاقتهم، وبعثروا قدراتهم فيما لا طائل من ورائه. وهذا التعريف الخاطئ للمجتمع الذى تتبناه تلك الحركات الإسلامية الإصلاحية هو ذاته تعريف الكافر المستعمر!، وهو ملاحظ من تسمية المبدأ الغربي بالمبدأ الفردي، ومقرر لديهم في دراستهم الاجتماعية. ومن الجدير بالذكر، أن الكافر المستعمر ما زال يعمل على تركيز تعريفه الفاسد لدى المسلمين لليوم. فها هي قناة الـ(بي بي سي) البريطانية تبث فقرة بين الحين والآخر، تظهر فيها مجموعة من المربعات الصغيرة فتجمع مربعا تلو مربع حتى تكثر المربعات، فتشكل مبنى ضخما، ويأتي التعليق على الفقرة بعبارة: "دعنا نبني مجتمعنا"، بمعنى أن المجتمع مجموعة أفراد. حيث عبروا عن الأفراد بالمربعات. وها هي قناة العربية تحذو حذوها فتأتي فقرة دعائية للتصويت على الدستور العراقي الجديد. تُظهر شخصا يتلوه آخر ثم آخر، وهكذا حتى تمتلئ الشاشة بالناس رجالاً ونساءً، ويكتبون على الشاشة عبارة: "نحو مجتمع عراقي أفضل" فينفثون في روح المشاهد أن المجتمع مجموعة أفراد. ولم تكتف تلك الحركات الإسلامية الإصلاحية بالتخلي عن نبعها الإسلامي الفكري الطاهر وحسب. بل يممت وجهها شطر عدوها لتسقي من وعائه القذر، وتأخذ من يديه الملوثتين بدماء المسلمين فكرها، ثم لجت في عتوها إذ أخذت تدلل على صدق تعريفها: "أن المجتمع كالجدار المكون من مجموعة من الطوب، فطوبة مع طوبة مع طوبة تكون الجدار وهكذا المجتمع يتكون من فرد مع فرد مع فرد"!. وأضافوا أنه لكي يتم بناء الجدار لا بد من إصلاح الطوب طوبةً طوبة. ولم يدرك هؤلاء السطحيون أن رص الطوب بعضه فوق بعض لا يكون جداراًّ، بل كومة من الطوب!. وغفلوا عن المادة التي تشد الطوب بعضه إلى بعض فتجعل منه جداراً قائماً ضعيفاً كان أو قويا. ولم يلتفتوا إلى أن صلاحية المادة للربط أهم من صلاحية الطوب للرص... فالإسمنت مثلا قادر على بناء جدار قوي متين، بغض النظر عن صلاح الطوب المكون له أو هشاشته. ولو عدنا بالمثال من الطوب إلى أفراد الناس. فقُلنا: "إن ركاب الباص مجموعة من الناس، وسكان فلسطين مسلمين ويهود ونصارى اليوم مجموعة من الناس، والمغامرون الذين ينتشرون في شمال كندا للاستكشاف مجموعة من الناس... فهل كل مجموعة من هؤلاء تمثل مجتمعاً؟ أو بعبارة أخرى هل الجماعة هي المجتمع"؟.
وبالتدقيق في ذلك؛ نجد أن المجموعة من الناس أو الجماعة حتى تشكل مجتمعا قائما بذاته، لا بُد لها من أمرين اثنين، الأول أن تنشأ بينها علاقات، والثاني أن تكون العلاقات الناشئة دائمية... وعليه فإن ركاب الباص وسكان فلسطين وأولئك المغامرين، لا يشكل كل منهم مجتمعا خاصا به بالرغم من نشوء علاقات بين كل مجموعة منهم لأن تلك العلاقات لا تتصف بالديمومة اللازمة لتكوين المجتمع، في حين أن القرية الصغيرة ذات العدد القليل من الناس تشكل مجتمعا خاصا بها لنشوء العلاقات الدائمية بين أهلها. وهنا يرد سؤال ما هي طبيعة هذه العلاقات الدائمة؟. والمدقق يجد أن الموقف في سلوك الإنسان، فردا أو جماعة نجده مرتبطا بالأفكار التي يحملها عن الأشياء في الحياة، فمن يقتنع بفكرة (الحرية الشخصية) مثلا، يسلك سلوكا منحرفا فيها، وهو بالطبع يختلف عن سلوك من يقتنع بفكرة (التقيد بأحكام الحلال والحرام). وهكذا في سائر شؤون الحياة... وبناء على هذا المفهوم يمكن استجلاء تركيبة العلاقات الدائمية التي يحتاج إليها مجموعة الأفراد لكي يشكلوا بها مجتمعا خاصا بهم. وهي تتكون أولاً: "من الأفكار المشتركة التي يقتنعون بها ويجرون التفاعل بينهم بموجبها. وتتكون ثانيا: من المشاعر المشتركة التي تتوحد لديهم في مشاعر الرضا والسخط، وتتكون ثالثاً: من الأنظمة المشتركة التي يتفقون على تطبيقها عليهم لتنظيم العلاقات بينهم، وضبط سلوك الخارجين على تلك الأفكار والمشاعر بالعقوبات الزاجرة".
وبهذه الكيفية تنشأ المجتمعات البشرية، ويكون التعريف الصحيح المنطبق على واقع المجتمع" :أنه مجموعة من الناس توحدت أفكارهم ومشاعرهم وأنظمتهم المطبقة عليهم"، وتعريف المرحوم سيد قطب يبين المجتمع الإسلامي والمجتمع الجاهلي في إطار هذا التعريف بقوله: "المجتمع الإسلامي هو الذى يطبق الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظاما وخلقا وسلوكا، والمجتمع الجاهلي هو المجتمع الذي لا يطبق الإسلام بجميع مكوناته المذكورة سابقا ."وبهذا التعريف الصحيح يمكن للحركات العاملة أن تعدّل سيرها في طريق النهوض الذي يستهدف إصلاح المجتمع فعلا. وبهذا التعريف الصحيح يمكننا أن ننظر في واقع المجتمعات لنعرف أيها تحتاج إلى إصلاح وأيها يحتاج إلى تغيير. وذلك جريا على طريقة الإسلام في التفكير، التي تستدعي التدقيق في الوقائع، وتنزيل الأحكام الشرعية عليها، إذ إن واقع المجتمع هو الفيصل الذي يقرر نوعية الاحتياج إصلاحا أو تغييرا. فالمجتمع كالبناء تماما، فالبناء الذي يحتاج إلى تغيير يكون فاسد الأساس، والذي يحتاج إلى إصلاح، يكون صحيح الأساس، أو به عيوب ثانوية فقط.
والأساس المعني في الفرد والمجتمع هو العقيدة، لكونها القاعدة الفكرية التي يبنى عليها كل فكر فرعي عن الحياة وعن السلوك. وبذلك تكون محل البحث والنظر، ومنطلقا لوضع المعالجات وأساسا للنهضة... ولنطبق ذلك على واقع الفرد أولا فنقول: إننا حين ندعو كافرا إلى الإسلام تكون دعوتنا إليه ابتداء، دعوة تغيير لعقيدته الفاسدة. وحينما ندعو مسلما عاصياً، تكون دعوتنا إليه دعوة إصلاح، وذلك لوجود الأساس العقائدي؛ وإن لحقته بعض الشوائب. ولنطبق ذلك على واقع المجتمعات... فنقول: إننا حينما نتعامل مع المجتمع الإسلامي الذى يجعل العقيدة الإسلامية أساساً لأفكار الناس ومشاعرهم وأنظمتهم وبه بعض الشوائب، نقوم بإصلاحه. وهذا ما كان ينبغي عمله مع المجتمع الإسلامي في أواخر الدولة العُثمانية قبيل هدمها، وحينما نتعامل مع المجتمع غير الإسلامي الذي لا يتخذ العقيدة الإسلامية أساسا لأفكاره ومشاعره وأنظمته، نقوم اليوم بتغييره أي بتغيير أساسه وما انبنى عليه تغييرا جذريا انقلابيا شاملا، ولا يجوز التعامل معه بناء على الإصلاح الترقيعي الجزئي مطلقا، لأن ذلك لا يصلحه ويُعدّ إقراراً ضمنياً لعقائد الكفر في حياة المسلمين، وإعراضا منهم عن القيام بواجب التغيير، وإطالة لعمر المجتمع الكافر، وتخلياً عن الحكم بما أنزل الله؛ والعياذ بالله.
وعليه فالتغيير الجذري الانقلابي الشامل الذي به يُنقض الواقع المعاش من أساسه، هو المتعّين على الحركات الإسلامية اليوم، كما أنه الطريقة الصحيحة التي تفرضها النصوص الشرعية والسيرة النبوية المشّرفة. وقد ظهرت صحة مطلب التغيير الجذري الذي يطلبه الإسلام ويقتضيه الواقع، فيما آلت إليه معظم ثورات المسلمين الراهنة من إخفاق وتقهقر عن تغيير الأنظمة الفاسدة... فقد حال الكافر المستعمر دون تحقيق هذا المطلب الشرعي العزيز بمكره ودهائه وعملائه، وبفعل الحركات الإسلامية الإصلاحية التي تعاملت مع المجتمعات غير الإسلامية المصطنعة تعامُل الإصلاح والتدريج بدلا من الاجتثاث والتغيير الشامل!...
فليس صحيحاً أنّ تغيير الأفراد أو إصلاحهم فقط من شأنه أن يغيّر المجتمع تلقائياً. وذلك لأن الأفراد شيء والمجتمع شيء آخر، وإن كان الأفراد جزءاً من المجتمع. ولا يلزم من إصلاح أحدهما إصلاح الآخر، وحتى على صعيد الشيء الواحد فإنه - أي الشيء الواحد - إذا تعددت مقوماته، وتعرضت للفساد، فإن إصلاح أحد المقومات لا يؤدي بالضرورة إلى إصلاح الشيء كله، فالرجل المصاب بجراح متعددة في رأسه ويده ورجله لا تتم معالجته بتضميد جراح رأسه فقط. وكذلك المجتمع المصاب في أفكاره ومشاعره وأنظمته فإنه لن يتعافى إلا بتقصد علاج كافة مقوماته المصابة في أفكاره ومشاعره وأنظمته جميعاً.
هذا من جهة... ومن جهة أخرى فإن اختلاف واقع الأفراد عن واقع المجتمع، واختلاف مقومات كل منهما يفرض تغاير وسائل كل منهما حتماً. وتفصيل ذلك:
أن مقومات الفرد أربعة، وهي (العقيدة والعبادة والخلق والمعاملات). وصلاح الفرد يكون بصلاح مقوماته، وفساده بفسادها، أو فساد بعضها. وإصلاح الفرد مهمة الحركة أو الحزب، ومهمة الحزب مختصرة في أفراد أعضائه فقط، ولا يدخل في نطاقه جميع أفراد المجتمع، فذلك ليس من مهمته ولا في مقدوره. ومهمة إصلاح أعضائه والتي هي جزء من مهمته، تقتضي منه أن يتعهد أعضاءه بالسهر على تكوين عقلية كل منهم ونفسيته تكويناً إسلامياً خالصاً، بجعل كل عضو من أعضائه (شخصيةً إسلاميةً قياديةً) قادرةً على القيام بمهمة تغيير المجتمع أو إصلاحه في نطاق سير الحزب، وفق الوسائل المناسبة لذلك.
ومقومات المجتمع كذلك أربعة، وهي (الأفراد وأفكارهم ومشاعرهم والأنظمة المطبقة عليهم)، ويكون صلاح المجتمع بصلاحها، وفساده بفسادها، أو فساد بعضها.
وتغيير المجتمع مهمة الحزب، وعليه أن يسعى أولاً: لتغيير طريقة التفكير عند الناس، وثانياً: لتغيير القاعدة الفكرية التي يبنون عليها أفكارهم، وثالثاً: لتغيير الأفكار الموجودة لديهم، ورابعاً: لربط جميع الأفكار التي تطرأ عليهم في الحياة بقاعدتهم الفكرية. وهذا كله لأجل أن يسهُل عليه أن يغير أفكار الناس في المجتمع ويضمن به ممارسة الناس تغيير أفكارهم وربطها بقاعدتهم الفكرية بأنفسهم.
وعمل الحزب في المجتمع لا يكون منتجا إلا إذا فرض الحزب نفسه على المجتمع. فبذلك يكون فاعلاً فيه محدثا الانقلاب الفكري الشعوري الكامل، ويمكنه من خلاله مخاطبة الأُمة بثقافته مخاطبة جماعية، والتقدم لتبني مصالح الأُمة وكشف خطط الاستعمار أمامها، عن طريق تنزيل أفكاره على الوقائع الجارية في العالم وفي بلادها... وبهذا يضرب الأفكار الدخيلة على المجتمع ويمنع اختلاطها بأفكار الإسلام النقية، بُغية رفعها من الأذهان وربطها بالعقيدة الإسلامية لتستقر فيها المقاييس والقناعات والمفاهيم الإسلامية وحدها، وتسود الثقافة الحزبية وتصبح هي المستساغة في المجتمع.
وليكتمل دور الحزب في إحداث الانقلاب الفكري الشعوري الفعال في المجتمع، عليه أن يراعي في خطابه الثقافي الجماعي للأُمة ضوابط الدعوة الإسلامية القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة. وذلك بإثارة مشاعر الناس حين مخاطبة عقولهم وإثارة أفكارهم حين مُخاطبة مشاعرهم، حتى تكون المشاعر مرتبطة مع الأفكار فيُنتجُ العملُ إنتاجاً كاملاً وبذلك تتحول المشاعر في المجتمع من مشاعر غير إسلامية إلى المشاعر الإسلامية فتنفر الأُمة من مشاعر الوطنية والقومية، والمشاعر الفردية والنفعية وغيرها من المشاعر... وتستعيد الأُمة مشاعر العزة الإيمانية والحمية الإسلامية، والغيرة على الحق والشعور بالمسؤولية عن الغير، وحب الخير وأهله والنفور من الباطل وأهله، والتعلق بمعالي الأمور، والترفع عن سفاسفها.
وبإحداث التحول الفكري والشعوري في المجتمع، يكون الحزب قد كوّن عرفاً عاماً له ولدعوته. فيشعر الحزب أن الأُمة كلها هي الحزب، وتشعر الأُمة بأن الحزب حزبها، وبذلك تصبح الأُمة حزباً واحداً، فتندفع إلى تغيير النُظُم المطبقة وتغيير الحاكم المستبد الحاكم بغير ما أنزل الله.
وعندها يكتمل الانقلاب الفكري والشعوري في الأُمة، ويؤدي إلى جعل المسلمين يحملون قيادتهم الفكرية دولياً إلى العالم، لتظهر على سائر القيادات الفكرية في جميع الوجود، ويتولى الحزب القيام بهذا الدور العظيم الجليل...
هذا هو التغيير الحقيقي للمجتمع، ولا تغيير سواه، فلا دعوى إصلاح الأفراد صحيحة، ولا دعوى الدولة المدنية بالمرجعية الإسلامية التي رفعت الحركات الإسلامية الإصلاحية شعارها في الآونة الأخيرة صحيحة كذلك. وإبراءً للذمة أمام الله تعالى، وقطعاً للرمق الأخير لفكرة إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع التي ما زالت تتشبث بها الحركات الإصلاحية، وتُلهي بها المسلمين عن السبيل الحقيقي للتغيير، فتلبس عليهم الحق بالباطل وتغلف لهم السم بالعسل نقول: "إننا لو فرضنا أن الحركات الإصلاحية تمكنت من إصلاح غالبية المسلمين، وجعلتهم على نمط عال من الاعتقاد والعبادة والأخلاق، واتخذ كل منهم مقياس الحلال والحرام في معاملاته... فهل يصبح مجتمعهُم مُجتمعا إسلامياً؟!... بالتأكيد لا، لأن فيه قابلية أن يُحكم بأنظمة الكفر، وأن يسوده ويتحكم به أُناس كفرة، وأن يفعل فيه الفاسقون الموبقات، وأن ينهب الظالمون خيراته ولا مُعاقب أو رادع لهم، وقد علمتم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن...فكيف يتأتى لذلك المجتمع أن يكون مُجتمعا إسلامياً وهو ليس له كيان سياسي يطبق أنظمة الإسلام؟، أو خليفة يرعى المصالح ويدبر الشؤون، ويقيم الحدود ويحمي الثغور، ويجهز الجيوش ويُعدّ العُدة لحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم"؟!.
وهكذا فإن الإسلام إن لم يتحكم في علاقات الناس، ويرعى المصالح في المجتمع من خلال كيان سياسي، فلا حياة فيه، وإن بلغ عدد حفاظ القرآن في المجتمع الملايين!، أو مارس أفراده تلاوته أو التعبد به أو التخلق بأخلاقه... إذ من المقرر في ديننا، أنّ لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة لأمير. فالإمارة لا تأتي بالتخيل ولا يُتحصل عليها بالتمني، على مثل قول بعضهم: "أقم دولة الإسلام في قلبك تقُم في الحياة"!!، فإقامة دولة الإسلام ليست من أعمال القلوب، وإنما هي عمل فكر وجوارح، هي عمل حزب سياسي مبدئي كامل، يصل ليله بنهاره، وفق طريقة خاصة وأحكام شرعية مُعينة. وهي لا تُنال إلا بشق الأنفُس، ولا يُقيمها إلا العُظماء من الرجال...
ذلك لأن دون إقامتها خرط القتاد، فهي لا تؤخذ من القائمين عليها إلا انتزاعاً، ففيها التحدي والسفور والمجابهة والمغالبة... إذ كيف يدخل في ميزان العقل أن يتنازل لك الكافر المستعمر الحقود اللدود عن سلطانه، ويُمكّنك أن تُغير عُرف الناس أو تقلب أركان المجتمع على رأسه؟!، إنه المستحيل بعينه.
وإن من خير الكلام ما أُتبع بمثال، فلو شبهنا المجتمع بمكوناته الأربعة بكأسٍ زُجاجيةٍ مملوءةٍ بسائل ما فإن الأفراد يشبهون الكأس، والأفكار والمشاعر والأنظمة تُشبه السائل الذي في الكأس، وصب سائل جديد مكانه لا يُعد تغيراً أبداً.
وإن من يقول بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية أو بالإصلاح الترقيعي، إنما يغش المسلمين ويخدعهم، لأنه يُبقي السائل المتعفن بالكأس، ويغير لونه بصباغ ليس منه، والواقع أو الوضع الرباني الطبيعي أن مصدر اللون والطعم والرائحة جميعها يجب أن يكون من ذات السائل نفسه. وحينما يُبقي (صاحب هذه الدعوة) السائل القديم في الإناء هو هو بأفكار ومشاعر وأنظمة الكفر، ويغلفه بالمرجعية الإسلامية، فإنه لم يغير المجتمع ولم يصلحه!. وإنما جذر فيه الكفر، وأضفى عليه صفة الإسلام زوراً وبهتاناً، ولبّس على المسلمين دينهم... وبذلك يكون قد كف أيدي المسلمين عن السعي للتغيير. ويكون في هذا عميل رخيص بسذاجته للكافر المستعمر؛ والعياذ بالله.
وأخيراً، فالتغيير الحقيقي للمجتمع لا يكون إلا باقتلاع أفكار الكفر ومشاعره من نفوس أبنائه، ونبذ الأنظمة الغربية من حياة المسلمين، وجعل أفكار الإسلام ومشاعره وأنظمته وحدها هي السائدة فيه.... ليكون مُجتمعا إسلامياً خالصاً له طعمه ورائحته ولونه الإسلامي المبهر المتفرد، والذي به يمتاز على سائر مُجتمعات العالم.
فإلى تغيير المجتمع ومُجتمعات العالم الإسلامي كلّها التغيير الجذري الانقلابي ندعوكم أيها المسلمون... ويا دُعاة الإصلاح الترقيعي وحملة لوائه، ها قد لمستُم سوء دعاويكم الفاسدة في المجتمع، ورأيتم قبح ما جنت أيديكم من جرائها على الإسلام والمسلمين، وها قد عرفتم كيفية تحويل المجتمع غير الإسلامي إلى مجتمع إسلامي طاهر زكي، بطريقتها الخاصة وأحكامها الشرعية المقررة، فالزموها فإنها سبيل الله تعالى سبحانه.
وآخراً فماذا يريدون: أيريدون إصلاح مجتمع أم إلهاء مجتمع؟!
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.