المسلمون بين الدنيا والآخرة.. الفصام النكد
"ليس من طبيعة الدين أن ينفصل عن الدنيا، وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاق التهذيبية، والشعائر التعبديّة، أو في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية".
بتلك الكلمات أشار الأديب والمفكر الإسلامي سيد قطب في كتابه "المستقبل لهذا الدين" تحت عنوان "الفصام النكد"، إلى وهم الانفصال بين عمل الدنيا والآخرة، وهو الداء العضال الذي أصاب الأمة في مقتل، وجعلها تتنكّب عن طريق السباق الحضاري، ورضيت أن تكون في ذيل الأمم.
*توهُّم التعارض بين الدنيا والآخرة، هو أحد المفاهيم المغلوطة التي رانت على حياة المسلمين، فحسبوا أن الفوز بالدار الآخرة يستلزم ترك الانشغال بإصلاح الدنيا والأخذ بأسباب القوة والحضارة، واختزلوا الدين في بعض الشعائر التعبدية والقيم الروحية، وابتعدوا عن مهمة الاستخلاف التي بموجبها يتعين الانطلاق إلى إعمار الأرض وفق المنهج الرباني.
*هذا الفصام النكد كما ذكر الدكتور محمد العبدة في رسالة "الدين والدنيا"، قد صنعه الفهم الخاطئ لنصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، وقوله صلى الله عليه وسلم {اتقوا الدنيا{.
فالقرآن لا يذُمّ الدنيا مُجرّدة، بل مقارنة بالآخرة، ويذمُّ الاغترار بالدنيا والرضى بها حظا وغاية، ويذمُّ تقديم العمل من أجل تحصيل الملذات العاجلة على حساب التزود ليوم الرحيل.
كما يذم القرآن الدنيا "لتنبيه الغافلين وخاصة ذوي النفوذ من أصحاب المال والجاه، وليس مراد القرآن إهمال الدنيا واقتلاعها من أصلها، بل تصريفها في أغراض الحق".
وكذا الشهوات لا تُذم مجردة، وإنما بما يتعلق بها من الشر، فالله تعالى فطر عباده عليها، ومحال أن يفطر الله عباده على شر مجرد {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث}، فمن حصّلها بحقها من حِلّها فقد هُدي، ومن أخذها من حرامها فقد شذّ.
ومما أوجد هذا الفصام النكد، غيابُ التركيز على واقع القرون المُفضّلة، والعدول إلى أحوال المتأخرين ممن جاؤوا بعدهم، ممن بالغوا في حقيقة الزهد وحرفوا معناه الأصلي، إلى زهد آخر مصطنع، لم يعرفه جيل الصحابة والتابعين، فصار الزهد جوعا وثيابا مرقعة وبطالة وتواكلا وأحزانا لا تنقطع.
*وكانت النتيجة البائسة التي ساق إلينا التاريخ من أخبارها، أن الغزاة كانوا يحتلون بلادنا، بينما في الأمة من يواجههم بحلقات الذكر بدلا من السيف والسنان، حتى أن بعض العلماء كانوا يصنفون في الزهد والرقائق بينما طوفان الحملات الصليبية يبتلع القدس، ولم يتطرقوا إلى الجهاد طرفة عين.
*هؤلاء تلبسوا بمفاهيم مغلوطة في القضاء والقدر، واعتبروا أن مقارعة الأعداء اعتراضا على قدر الله.
كثير ممن أصابهم الفصام النكد، جعلوا ترك الدنيا سُلّما إلى الآخرة، وعلامة للصلاح، فقالوا أن الرجل لا يبلغ منزلة الصديقين، حتى يأوي إلى مزابل الكلاب، ويترك زوجته كالأرملة، وفاتهم أن سيد ولد آدم أجمعين، قال لمن ظنوا التنطع وترْكُ الدنيا دينا وزهدا: (لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
*ؤلاء وقعوا أسارى بعض عصور التكلّف، وأقوال علماء أو زهاد جاءت في ظروف معينة، فجعلوا منها منهاجا، كمن قيل عنهم أنهم اعتزلوا الناس للتبتُّل والانقطاع للعبادة.
لو سلّط هؤلاء الأنظار على جيل الصحابة خير القرون، لرأوا أنهم كانوا كما قال الشاطبي " بين عامل في سوقه، وعامل في أرضه، ومسافر يبتغي من فضل الله، وهم القدوة لمن سواهم، ولم يكونوا يتحاشون من ذلك، ولا يلحقهم فيه كسل. وكان الغِنى من مقاصدهم، والتكسب من شأنهم، وعلى صحة ذلك اتفق العلماء رضي الله عنهم".
*لم يُعرف عن الصحابة من سعى للفقر والتحلل من المال، بل كان فيهم الأثرياء الأتقياء المبشرون بالجنة، أمثال "أبو بكر الصديق"، و "عثمان بن عفان"، و"عبد الرحمن بن عوف"، و"سعد بن أبي وقاص"، و"الزبير بن العوام"، وكلهم كان ذا مال.
بل علّمهم إمامهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم، طلب الغنى، فكان من دعائه (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى).
كانوا يعملون، ويتعلمون، ويجاهدون، ويضحكون ويمزحون، ويلاعبون الأطفال، وربما انقلب أحدهم على ظهره من فرط الضحك، ولما سئل عبد الله بن عمر: هل كان الصحابة يمزحون؟ قال: "نعم، والإيمان في قلوبهم كالجبال".
يا قوم لم ينزل الله دينا لإصلاح الآخرة وآخر لإصلاح الدنيا، هو دين واحد، يُصلح تلك القنطرة التي تكون معبر الناس إلى آخرتهم، ويُصلح تلك الأخرى التي فيها معادهم..
ذلك الارتباط الوثيق لم ينفك إلا في حس المتوهمين، الذين اعتقدوا الدنيا والآخرة ضُرّتين لا تجتمعان، وطريقين لا يلتقيان.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) فماذا يفعل الغرس في هذا التوقيت وما جدواه؟
لكنه يُعلم أمته أن الدنيا والآخرة، والأرض والسماء، يقعان في حسبة واحدة، يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله: "أول ما يخطر على البال من هذا الحديث، هو هذه العجيبة التي تتميز بها الفكرة الإسلامية: أن طريق الآخرة هو هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق...، إنهما ليسا طريقين منفصلين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك".
*وليست هذه النظرة الانفصالية قاصرة على فترات تاريخية معينة، فقد امتدت إلى واقعنا المعاصر وأخذت أشكالا وأنماطا وترجمات مختلفة في الواقع، قد لا أبالغ إن قلت أنها قد غزت بعض المحاضن التربوية في حقل الدعوة.
فبعض فصائل العمل الدعوي تربي الشاب على هذه النظرة، فيبدأ في مقت الدنيا والتقوقع في المساجد، إيمانا منه بأنه قد اختار ما عند الله، وآثر الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، وربما أثّرت تلك النظرة على مستقبله الدراسي، فما فائدة أن يزاحم الآخرين في الجامعات على اختلاف مشاربهم ودرجات التزامهم أو بالأحرى تفريطهم في تعاليم الدين.
*اختزلْنَا الدين العظيم في بعض الشعائر التعبدية، ولو أمعنَّا النظر في حقيقة ديننا، لوجدنا أن ولوج عالم الصناعات والتقنيات والعلوم المختلفة هو من صميم التعبد، حتى أنه جعلها من فروض الكفايات، التي إن لم تجد من يقوم بها على النحو الكافي تحولت إلى فروض عينيه.
الإسلام بريء من هذه الأوهام التي سيطرت على العقول والمسالك، لذلك أقول وأكرر دائما: هي معركة وعي وصراع مفاهيم، ولن تنهض هذه الأمة من سباتها، إلا بعد فهم صحيح للإسلام في نسخته الأولى، وهي مهمة الدعاة والعلماء والمصلحين.
وسوم: العدد 648