بديع الزمان والغلو المذهبي

كان بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398 للهجرة ثقة في الحديث, عارفاً بالرجال والمتون. وكان الى ذلك, منقطع النظير في الذكاء وسرعة الخاطر وصفاء الذهن.

وكان - كما جاء في «يتيمة الدهر» للثعالي - صاحب عجائب وبدائع, منها انه كان ينشد الشعر لم يسمعه قط وهو اكثر من خمسين بيتاً, الا مرة واحدة, فيحفظها كلها, ويؤديها من اولها الى آخرها, لا يخرم حرفاً. وكان ينظر في الاربعة والخمسة الاوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره, نظرة واحدة خفيفة, ثم يهذها عن ظهر قلبه هذاً.

وفي الجملة من امر بديع الزمان انه كان من ابرز مثقفي القرن الرابع الهجري الذي بلغت فيه حضارة الاسلام اوجها على الرغم من اضطراب شؤون الخلافة وانه كان من المؤمنين بوحدة الوجدان الاسلامي, على الرغم من الفترة الجائحة والحركات المتطرفة والفرق المذهبية الغالية التي استقرت بها شرورها في ذلك القرن.

وقد تحدّث الثعالبي في «يتيمة الدهر» وياقوت الحموي في «معجم الادباء» وزكي مبارك في «النثر الفني في القرن الرابع» عن مناظرتين جرتا بحضور نقيب الاشراف بنيسابور وأبي القاسم الوزير سنة 383 للهجرة, بين بديع الزمان الهمذاني وبين أبي بكر الخوارزمي, كانت الغلبة فيهما لبديع الزمان حتى قيل إن الخوارزمي رمي بحجر البديع رمية تضعضع لها.

وعلى ان هاتين المناظرتين اللتين توافق فيهما ممثلا البلاغة في عصرهما كانتا تخفيان في الاعماق خلافاً في النظر الى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ كان الخوارزمي من غلاة الرافضة, وكان الهمذاني محباً لآل البيت, له فيهم مدائح كثيرة, لعل من اجملها قصيدته التي ذكر ياقوت أولها

يا معشراً ضرب الزمان

على مُعرّسهم قبابه

ولكنه كان, كما قلت اول الحديث من رجال الحديث الثقات الذين يحبون آل البيت حباً راشداً لا يطوّح بهم في الغلو أو يخرج بهم عن جادة المناصحة بين المسلمين الى منكرات الاقوال والافعال.

كان الخوارزمي قد كتب قصيدة في الطعن على صحابة رسول الله (وهذا يذكرنا بعشرات المحطات الفضائية التي لا شغل لها الا مداومة مثل هذا الطعن) فتصدى له بديع الزمان بقصيدة بالغة الاهمية اثبت معظم أبياتها ياقوت في معجمه, وهي تصلح فيما اعتقد خطاباً موجّهاً الى اولئك يقول البديع فيهم (قديماً وحديثاً):

تأملوا يا كبراء الشيعة

لعِشرة الاسلام والشريعة

حيث يقول مخاطباً الخوارزمي ومدافعاً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, ومشيراً في الوقت نفسه الى مبايعة الامام علي كرّم الله وجهه له وموالاته إياه:

أتــــأمــــل الجنـة يــــا شــتــّامة    ليســـت بمـأواك ولا كـرامــة

إن امرأً اثنى عليـه المصطـفى       ثمـة والاه الوصي المرتضى

واجتمعــت عـلى معاليــه الورى    واختــــاره خليفة رب العــلا

واتبـعــتــــــه أمّــــــة الأمــــــيّ     وبايعـتــــه راحـــة الوصـــــي

 :الى ان يقول مؤكداً لرفض آل البيت لتخرّصات الخوارزمي:

إن امير المؤمنـين المرتـضى        وجعفـر الصـادق او موسـى الرضى

 !لو سمعــوك بالخنــا معرّضــا        ما ادّخروا عنك الحسام المنتضى

 :ثم يقول وكأنما هو يخاطب بعض اهل زماننا هذا:

يا من هجا الصديق والفاروقا       كيمـا يقيـم عنــد قــوم ســوقــا

فتحــت يــا طبــل علينــا بوقــا     فمــا لك اليــوم كـــذا موهــوقـا

إنك في الطعن على الشيخيــنِ       والقدح في السيد ذي النورين

لواهــن الظهـر سخــين العــين     معترض للحــين بعـــد الحـــين

 : كما يقول مخاطباً ذلك الذي يطعن في عائشة أم المؤمنين:

ما لـك يا نــــــذل وللزكـيـة      عائشــة الراضية الرضيــة

يا ساقـط الغيـرة والحميــة      ألم تكن للمصطفى حظيّه؟

وبعد فقد حمل لنا تاريخ الادب كثيراً من حقائق السياسة والاجتماع, واثبت ان ثمة حركة دائرية تتوازى فيها هذه الحقائق في مسار الزمان أو تتطابق, واثبت في تضاعيف ذلك ان معركة «التنوير» ما تزال حامية الوطيس في عالم العروبة والاسلام, لم ينكشف نقعها بعد, وما يزال للجهل والعماية فيها أعلام مرفوعة وشرور مبثوثة وحماقات مظلمات رازحا ت 

وسوم: العدد 648