خميلة الشعر ربيع ثاني
سبحانك اللهم وبحمدك وتعالى جدك، وعظُمَ سلطانُك، خلقتَ فسوّيت، وقدّرتَ فهديت... ما من مخلوق خلقته – ولا خالِقَ إلا أنت – إلا ويسجدُ طائعاً لك، مُقرِّاً بقُدرتك، لك الحمدُ على كلِّ شيءٍ أبداً.
الحجارةُ تتشقق من خشيتك، والجبالُ تخرُّ طوعاً لأمرك، خلقتَ الإنسانَ في أحسن تقويم، وهديتَهُ سواءَ السبيل، وكرَّمتَهُ فجعلتَ كلَّ ما خلقتَ مسخّرًا له ليقيم شرعكَ ويطيعَ أمرك... فهنيئًا وسعدًا وفوزًا لمن أطاعك وعَبَدَك ولو بكلمة أو صدقة... وأنت غنيٌّ عن العالمين، وإنَّ أسعدَ إنسانٍ هو الذي عرف أنَّكَ أنت ربُّه وخالقه فأحبَّكْ بإلهامٍ منك فأنزلكَ في قلبه ليكونَ أسعدَ قلبٍ وأهنأ... وأسعد هؤلاء السعداء بمعرفتك يا رب من توجهت إليكَ مشاعرُه، ورقَّ لذكرك فؤاده، ودمعت عيناه من خشيتك... فأدام إليكَ النجوى بأسخى ما يكون الدمع، وأصدق ما شعر به القلب فأجراه على لسان من ناجاك... وأنت سامعُ كلِّ نجوى، وكاشف كل بلوى... ففرَّجتَ همَّه، وأجبْتَ دعوته... ونالَ منكَ أضعاف أضعاف ما أمَّلهُ منك ممّا لا يقدر على أدناه سواك...
إلــهـــــي
طالما سمعت والدي رحمه الله وغفر له يردد هذين البيتين:
وطالما أصغيتُ إليهِ مشدوداً بكل مشاعري، ولم أكن أعلم ما حقيقةُ تلك المشاعر التي تنتابني عند سماعي ذلك القول الجميل... ومع الأيام صرت أحلل تلك المشاعر..
أهو ذلك القول الجميل الذي أصبح اسمه "الشعر"!! أم هو صدق التوجه؟ أم أنه ذلك الصوت الذي ما زال يتردد في سمعي، ولم يكن والدي من أصحاب الأصوات الجميلة، كما لم يكن على ثقافة مقروءة...
لعل انسيابية تلك الكلمات ورِقّة معانيها وتناغم حروفها الرائع الجميل... وأحسب أن كلَّ هذا ما كان ينتابني عند سماع والدي يردد هذين البيتين... لكنني أصبحتُ أميلُ إلى صدق المناجاة والتوجه إلى الله، وامتد الزمن، فإذا بي أعرف أن هذين البيتين لشاعر الزهد "أبو العتاهية" وسعيت إلى شعره...
يا الله كم أنا سعيد بمعرفة هذا الشاعر العظيم الذي نشرت دراسة مفصلة عنه بعنوان "الشاعر المضيَّع" وكتبت عنه مسلسلاً إذاعياً من ثلاثين حلقة بثَّت من عدة إذاعات.
لماذا هذا الكلام الطويل، وما هي علاقته في هذه الحلقة من حلقات خميلة الشعر؟.
إنه باختصار شديد "صدق المناجاة" فرحم الله "أبو العتاهية" الشاعر الزاهد المبدع الرائد في زمانه... إذ جعلني ببيتين اثنين من شعره بل من مناجاته الصادقة لربه عزَّ وجلّ متأثّراً .
أجل لقد تأثرت بهذا الشاعر العظيم لصدق مناجاته، وصدقه في الكثير الكثير من شعره الذي تفرد فيه في زمانه وكان به مجدِّداً...
ومرة ثانية مع هذا الشاعر الذي لا أملُّ من ترديد الكثير من روائعه التي لم أجد لها مثيلاً عند غيره.. لما تفردت به من خصائص طبعتها بنا عبقريته، وقدرته على إيصالها إلى ما بعد أزمانه بأزمان وأزمان...
***
لعل قائلاً يقول: قد أسرفت في حديثك عند هذا الشاعر الذي لم يعد يذكره إلا الأقل من القليل من المتحدثين عن شاعرية غيره ممن كان ولا يزال له الحظ الأوفر من الدراسات والاهتمامات، ولمن قال هذا الحق... كما لي الحق وأنا صاحب التجربة الشعرية التي بدأتُ معاناتها منذ ستة عقود...
ولن أنسى، وما نسيت يوماً لفقيه الإسلام وعالمه الجليل وصاحب المذهب المنتشر في أرجاء المعمورة، ولا يزال تتسع أمداء انتشاره، ومع هذا العلم والفقه لا يمكن إلا يقر كل من له علاقة بالشعر والنقد أنّه من أهم الشعراء على قلة ما تركه لنا من روائع حجبه عن المزيد منه العلم والفقه والإخلاص لهما والتبحّر بهما، وأعني الإمام الشافعي رحمه الله وأعلى مقامه في عليين... ولعله في مناجاته الصادقة صادقٌ كل الصدق، رائدٌ ألهم "أبو العتاهية" وغيره بما أجراه الله على لسانه، وحسبنا من شاعريته المبدعة هذه المناجاة... ألهمنا الله جميعاً صدق مناجاته...
ولما قسا قلبي، وضاقت مذاهبي =جعلتُ الرّجا مني لعفوِكَ سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلمّا قرنْتُه =بعفوِكَ ربّي كانَ عفوكَ أعظما
فما زلت ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل =تجود وتعفو مِنَةً وتكرُّما
فلولاكَ لم يصمد لإبليس عابدٌ =فيكف وقد أغوى صفيَّك آدما!
فلله در العارف النّدبِ أنّه =تفيضُ لفرطِ الوجدِ أجفانُه دما
يقيمُ إذا ما الليلُ مدَّ ظلامَهُ=على نفسِه من شدّةِ الخوفِ مأتما
فصيحاً إذا ما كان في ذكرٍ به =وفي ما سواه في الورى كانَ أعجما
ويذكرُ أياماً مضتْ من شبابِه =وما كان فيها بالجهالةِ أجرما
فصارَ قرينَ الهمِّ طولَ نهارِه =أخا السُّهدِ والنّجوى إذا الليلِ أظلما
يقولُ حبيبي أنت سؤلي وبغيتي =كفى بكَ للرَّاجينَ سؤلاً ومغنَما
ألستَ الذي غذّيتني وهديتَني =ولا زلتَ منَّاناً عليَّ ومُنعِما
عسى من له الإحسانُ يغفرُ زلّتي =ويسترُ أوزاري وما قدْ تقدَّما
***
ومما توقفت عنده ونادتني الخميلة إلى أن أنقله إليها هذه القصيدة التي تتحدث كل كلمة فيها عن حرارة مناجاة قائلها، والبوح بما في قلبه من مشاعر نحو فاطره وهو يتوجه إليه بهذه المناجاة... مقرًّا بأفضاله التي تكرم بها، ويتكرم حتى من أدنى سؤال يسأله إياه من هو في أمس الحاجة إلى أقله فهو يعلم أنه مخلوق من مخلوقات ربه، وعبد من عباده الذين تغمره أفضاله كلَّ آن... فاسمحي له أيتها الخميلة أن يلبي دعوتك ويدخل إلى رحابها ويا لها من رحاب!.
قبل السؤال
قَبْلَ السؤال تجيبني لسؤالي=يا سامعاً قبل المقال مقالي
يا من أحاط بكلِّ شيءٍ علمُه=وأمدَّ كلَّ الخلقِ بالأفضالِ
مالي سواك أيا إلهي راحمٌ=مالي سواك وحقِّ ذاتِكَ مالي
أنت العليمُ وحسب نفسي علمُها=أنْ أنتَ يا ربي العليمُ بحالي
إلا إليك عدمتُ كلَّ وسيلةٍ=وأتيتُ بابَكَ فازدهتْ آمالي
حاشا لجودك أن أظل مُسَهَّداً=وأنا ببابك قد حططتُ رحالي!
أنَّى اتجهتُ أراك أرحمَ راحمٍ=يا من إليك توجُّهي، ومآلي
وأنا الضعيفُ وحسْبُ نفسي عزةً=أني لذاتك قد رفعتُ سؤالي
هيهات أن يرضى الغنيُّ لعبدهِ=وهو الفقيرُ إليه بالإذلال!
أنت الغنيُّ، وعبدُك الراجي أنا=أَيُرَدُّ من يرجوك دون نوالِ!
فاقبلْ دعائي واستجبْ لتوسّلي=يا سامعاً قبل المقال مقالي
***
وعودة أخرى وعودة أخرى لى صدق المناجاة، ورقة المشاعر، وروعة الشعر... وتأتي هذه العودة الآن إلى شاعر عبقري صرفته الأهواء وحب الملذات إلى الدنيا وما فيها من إغراءات شيطانية، فإذا به معروف بخمرياتها، وفجوره، وندرة أو التندر بما نُقل عنه... إنه "أبو نواس" وما أدراكم من أبو نواس، وخمرياته، وما كان منه في هذا المجال!!..
لكنه الآن شاعر آخر بكل ما تعنيه الكلمة...
وكما كان مبدعاً في خمرياته وأهوائه... ها هو الآن مبدعٌ أيما إبداع في مناجاته لخالقه العظيم...
أحسب أن لن يجد الباحث إلا من تأثر بهذه المناجاة الصادقة يحملها فكر وعلم بمعرفة الفاطر العظيم، اللهم إن كان له ولو أدنى التذوق بالمناجاة، أو بروعة الشعر، أو بصدق المعرفة الواثقة بعفو الله وإحسانه...
يا ربِّ إنْ عظُمتْ ذنوبي كثرةً=فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كانَ لا يرجوكَ إلا محسنٌ=فبمن يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ
أدعوكَ ربّ كما أمرت تضرّعاً=فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ
ما لي إليكَ وسيلةٌ إلا الرجا=وجميلُ عفوكَ.. ثم إن مسلمُ
***
ومرة ثانية نستمع إلى شاعر هذه المناجاة ملبياً ربَّهُ عزَّ وجل هذه التلبية وهو متوجه إلى بيت الله حيث يُلبّي له الملبُّون بما سنّه رسول الله r من تلبية يلبي بها جميع الحجاج والمعتمرين إلى يوم الدين...
لكن أبو نواس أراد أن تكون له تلبيةٌ صاغتها شعراً عبقريته، فجاء ت على هذا النحو الجميل الجميل بعفوية ألفاظها، وصدق معانيها، وتوهج مشاعر صاحبها وهو يناجي ربَّهُ ملبيًا طائعًا غلبت على طواعية الشعر لديه فشاءها شعراً كأنه السحر، ومع إعجابنا الشديد بقدرة هذا الشاعر العظيم وعلى روعة ما صاغته عبقريته في هذه التلبية إلا أننا لا نعدل عمّا علّمها لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى صحابته، فهي وحيٌ من الله على من لا ينطق عن الهوى...
والملكَ، لا شريكَ لك
إلهَنا ما أَعدلكْ=مَليكَ كلِّ من مَلكْ
لبيكَ، قد لبَّيتُ لكْ=لبيكَ، إنَّ الحمدَ لكْ
والملكَ، لا شريكَ لك
ما خابَ عبدٌ أمَّلكْ=أَنت لهُ حيثُ سَلكْ
لولاكَ يا ربُّ هَلك=لبيكَ، إن الحمدَ لكْ
والملكَ، لا شريكَ لك
كلُّ نبيٍّ وملكْ=وكلُّ مَنْ أهَلَّ لكْ
وكلُّ عبدٍ سَألكْ=سبَّحَ، أو لبَّى فلكْ
لبيكَ، قد لبَّيتُ لكْ=لبيكَ إنَّ الحَمْدَ لكْ
والملكَ، لا شريكَ لك
والليلُ لمّا أَن حَلكْ=والسَّابحاتُ في الفلكْ
على مجاري المُنسَلكْ=لبيكَ، إنَّ الحمدَ لكْ
والملكَ، لا شريكَ لك
يا خاطِئاً ما أغْفلكْ=عَجِّلْ، وَبادِرْ أَجَلكْ
واختمْ بخيْرٍ عَمَلكْ=لبيكَ، إنَّ الحمدَ لكْ
والملكَ، لا شريكَ لك
***
ونختم هذه الحلقة من الخميلة بهذين البيتين كما بدأناه ببيتين، مع الفارق العظيم العظيم، والكبير الكبير بين قوله تبارك وتعالى: "فيهما من كلِّ فاكهةٍ زوجان" وحاشا لله تعالى أن يكون زوجا هذا الشعر كزوجي فاكهة جنّة رب العالمين.
ذنوبي ما أطقتُ لهُنَّ عدّا=غداةَ غدوتُ للأهواءِ عبدا
وصرتُ أُحسُّ أن الكون ملكي=غداةَ غدوت للرّحمنِ عبدا
***
ومجدداً نقول رحِمَ اللهُ أبا العتاهية إذ يقول:
قل علي رقيب
إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ، يوْماً، فلا تَقُلْ=خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعة=وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيبُ
لهَوْنَا، لَعَمرُ اللّهِ، حتى تَتابَعَتْ=ذُنوبٌ على آثارهِنّ ذُنُوبُ
فَيا لَيتَ أنّ اللّهَ يَغفِرُ ما مضَى=ويأْذَنُ فِي تَوْباتِنَا فنتُوبُ
إذَا ما مضَى القَرْنُ الذِي كُنتَ فيهمِ=وخُلّفْتَ في قَرْنٍ فَأنْت غَريبُ
وإنَّ امرءًا قَدْ سارَ خمسِينَ حِجَّةٍ=إلى مَنْهِلٍ مِنْ وردِهِ لقَرِيبُ
نَسِيبُكَ مَنْ ناجاكَ بِالوُدِّ قَلبُهُ=ولَيسَ لمَنْ تَحتَ التّرابِ نَسيبُ
فأحْسِنْ جَزاءً ما اجْتَهَدتَ فإنّما=بقرضِكَ تُجْزَى والقُرُوضُ ضُروبُ
اللهم ألهمنا حسنَ التّوجه إليك بما نقول ونفعل، وصلِّ اللهم على خير خلقكَ وصحبه ومن عمِلَ بسنّته إلى يوم الدّين...
هوامش:
* الأبيات التي لم تنسب لشاعر هي من شعر مصطفى عكرمة
* عن مجلة الأزهر الشريف
وسوم: العدد 648