نظرات في قضيّة التكفير

منذ ربع قرن أو يزيد، تحتل قضية التكفير حيّزاً واضحاً في الفكر السياسي، وقد زادت وتيرته في السنوات الأخيرة، لأسباب لا تخفى. ولا ننسى أن هذه القضية كان لها جذور في القرون الأولى من تاريخ المسلمين.

وبعيداً عن ركوب الموجات، وعن التهييج الإعلامي، ينبغي أن نقرر أن فكرة تقسيم الناس إلى مسلمين وكافرين، قضية إسلامية قرآنية، وأن الحكم على إنسان بالردة، أي بأنه أصبح كافراً بعد أن كان مسلماً، قضية دقيقة تحتاج إلى تعمق وتروّ، لا سيما إذا كان سيترتب على هذا الحكم استباحة دم هذا الإنسان...

وإذاً فتكفير الناس من غير بيّنة، إثم عظيم يستوجب أن يؤخذ على أيدي من يقوم به في الدنيا، ويستحق العذاب في الآخرة.

لكن هذا لا يسوّغ مطلقاً أن يُمنع تكفير إنسان وقد صدرت عنه أقوال وأفعال مكفّرة، من غير إكراه تعرّض له، ومن غير سهو عرَضَ له أو زلّة لسان... بل صدر عنه ذلك بإصرار وعناد، بل باستخفاف بقيم الدين وسخرية.

وقبل أن أذكر نماذج لهذه التصرفات أشير إلى أن التكفير في القرون الأولى كان يصدر من الخوارج ومن نحا نحوهم، وهم مؤوِّلون مخطئون في تأويلهم، فكان يتصدى لهم أئمة الإسلام ممن يغارون على الدين، ويحرصون على حفظه من غلوّ الغالين وتحريف المبطلين.

يقول عالم الشام جمال الدين القاسمي، في رسالته (تاريخ الجهمية والمعتزلة) ص103 فما بعدها، ما خلاصته: "بقي التنبيه على الإنصاف مع مجتهدي الفِرَق الإسلامية، ومجافاة التضليل عن كل من التزم قانون التأويل... فإن هؤلاء المؤولين، وإن أخطؤوا، لمجتهدون معذورون، بل مأجورون، إذ لم يريدوا إلا الحق... وإن المتحاملين على فئة، قد يحبّبون بها من حيث يريدون التنفير منها... وإنهم يرون أعظم منفّر عن خصومهم هو التكفير... ونقل الإمام الغزالي في المستصفى، أن عليّاً، كرّم الله وجهه، استأذنه قضاته في البصرة بردّ شهادة الخوارج، فأمرهم بقبولها، كما كان الشأن قبل أن يحاربوه، لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم تعصّب وتجديد خلاف. فانظر كيف تسامح مع أهل التأويل المبتدعين، وقبِلَ شهادتهم وعدّلهم؟؟".

أما اليوم فإن معظم من يحارب "التكفيريين" دول كافرة، وأحزاب علمانية، وأناس لا تكاد تربطهم بالإسلام إلا شهادات الولادة... وبطبيعة الحال: هناك من يستنكر التساهل في التكفير، ممن لا نشكّ بعلمهم ودينهم وصلاحهم وغَيْرتهم، فالاستنكار من هؤلاء صحيح في دوافعه وضوابطه.

وإذا كان التكفير في العصور الأولى يتوجه نحو مرتكب الكبيرة، ونحو المخالف في المذهب الاعتقادي، وكان معظمه حول أمور قد تختلف فيها الأنظار، كتفسير قوله تعالى: (يدُ الله فوق أيديهم) وقوله سبحانه: (الرحمن على العرش استوى) فيما اصطُلح على تسميته بآيات الصفات، وهل الإنسان مكلّف بمجرد عقله أم أنّ الحجة لا تقوم عليه إلا بوصول الرسالات السماوية إليه؟ وهل يكفر بترك الصلاة ولو تكاسلاً؟ وما حدود التسيير والتخيير في حياة الإنسان؟... فإن قضايا تُطرح في هذا العصر حول وجوب الاحتكام إلى دين الله، أو أن الإنسان أدرى بما يصلح له ولا حاجة له بالدين... كما ظهرت في هذا العصر من التصرفات ما يرمي إلى المروق من الدين، وقد تجاوز أصحاب هذه التصرفات الاهتمام بتلك القضايا، ولم يعد يهمهم أن تكون أشعرياً أو معتزلياً أو حنبلياً... وسنذكر فيما يأتي نماذج من هذه التصرفات، نضعها بين أيدي علماء الدين وفقهائه ليروا حكم من تصدر عنه:

- يقول أحدهم: من الجيد أن حرّم الإسلام السرقة، وشرع من الأحكام ما يحفظ على الناس أموالهم، ولكن حدّ السرقة، مهما وضع له من شروط وقيود، هو عمل وحشي لا يجوز إقراره، ولربما كان مناسباً في قرون قديمة أن تقطع يد السارق، أما في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين فهذه العقوبة مرفوضة، ويجب أن يستبدل بها السجن أو الغرامة أو أي عقوبة حضارية أخرى!.

- ويقول أحدهم: حرّم الإسلام العلاقة الجنسية خارج نطاق الزوجية، وكان ذلك لحفظ النسل. وهو مطلب أصيل يجب أن نحافظ عليه، ولكن عقوبة مَن يقيم تلك العلاقة، يجب أن تُلغى، بل يجب أولاً إلغاء تسمية ذلك بهذا الاسم الخشن: "الزنا"، بل لنقل: ممارسة الحب، ثم لا ينبغي الاستمرار في تجريم هذا الفعل فقد أصبح حفظ النسل ممكناً مع "ممارسة الحب" وذلك بعد أن تطورت وسائل منع الحمل، وتطورت وسائل التحليل المخبري التي تمكننا من كشف ما إذا كان المولود ابن فلان أو ابن فلان. المهم في كل ذلك أن لا يكون إكراه، وأن لا ننسى أن الحرية أولاً. فلو دخل الشاب ومعه زميلته في الجامعة أو في العمل وقال لأهله: هذه صديقتي ستنام عندي الليلة، وأطمئنكم أنني لن أنجب منها فقد أخذتْ حبوب منع الحمل قبل قليل!!. فلا يجوز الاعتراض عليه.

- ويقول أحدهم: من حق المواطن أن يكون مسلماً أو يهودياً أو زنديقاً... ومن حقه أن يصلي في بيته أو في المسجد أو في الكنيسة... ولكن ليس من حقه أن يُدخِل أحكام دينه في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع... فالدين لله والوطن للجميع، ولا يُحكَم في أمور المجتمع والدولة إلا بما يتوافق عليه أكثرية الناس، بصرف النظر عن الدين.

- ويقول أحدهم: لقد بدأ محمد (هكذا) بدعوة تدعو إلى المساواة بين المرأة والرجل، لكنه تحت ضغط القيم العشائرية السائدة آنذاك اضطر أن يشرع التشريعات التي تجعل "للذكر مثل حظ الأنثيين"، وتجعل للزوجة من ميراث زوجها، نصف ما يستحقه من ميراثها، وتفرض الحجاب على المرأة... وقد آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها وإقرار المساواة التامة بين الرجال والنساء.

فهل مَن يقول مثل هذه المقولات يبقى مسلماً؟!.

* * *

تعـقيب

بعد أن كتبت ما سبق وأطلعتُ عليه بعض الفضلاء، تكرّم عليّ بعضهم وأبدى ملاحظات اقتضت مني أن أعقّب عليها ببعض نقاط تزيد الأمر جلاء ووضوحاً:

1- التساهل في تكفير المسلم، لرأي ارتآه، أو معصية وقع فيها، أمر خطير الشأن، لا سيما إذا كان سيترتب عليه إهدار دمه... كما أن الامتناع عن تكفير من يثبت عليه الكفر، بأن وقع في بعض المكفرات من غير جهل منه بما يفعل، ومن غير إكراه تعرّض له... أمر خطير كذلك، لأن ذلك سيمكنه من محاربة الإسلام واحتلال موقع قيادة على المسلمين، ويعطيه عصمة من جواز الخروج عليه، إذ ما زال يُعَدّ مسلماً، وهو يحارب الإسلام!.

2- هناك فرق بين القول: إن كذا وكذا من المكفرات، وبين الحكم على إنسان بعينه أنه كفر. فالإيمان والكفر عمل قلبي قبل كل شيء، والقلوب لا يطلع عليها إلا الله. وإذا كنا نحكم وفق الظاهر من تصرفات الإنسان القولية والفعلية، فإننا يجب أن نتحرّز قبل تكفير من يُظن أنه مسلم، لنتأكد من انتفاء السهو والغفلة عنه، وانتفاء الإكراه كذلك، حين صدر عنه ما صدر من المكفرات. ويلحق بهذا أنّ من نُسبت إليه كتب فيها بعض المكفرات، وقد أفضى إلى ربه، فنحكم على أقواله المكفّرة بأنها كفر، ونتحفّظ على الحكم عليه بالكفر، فلعل الكلام مدسوس عليه، ولعله قاله ثم تراجع عنه وتاب.

3- مما يؤكد ما سبق، قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً). {سورة النساء: 94}.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هلّا شققتَ عن قلبه؟".

فمن ظهر منه الإيمان فلا يجوز تكفيره بالشبهة.

وقوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين، والله أركسهم بما كسبوا). {سورة النساء: 88}. يبيّن أن من ظهر من أقواله وأفعاله ما يدل على كفره (من غير سهو وغفلة وإكراه) فيجب أن نكفّره ولا ينبغي أن ينقسم المسلمون حياله إلى قسمين: قسم يكفّره، وقسم يلتمس له الأعذار والمسوّغات.

روى البخاري ومسلم وأحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون. فأنزل الله: (فما لكم في المنافقين فئتين).

وفي تفسير ابن كثير عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين.

4- وحين يصدر تكفير من فئة مسلمة تجاه فئة مسلمة أخرى، بدافع التعصّب أو سوء التأويل، كالذي صدر عن الخوارج وغيرهم قديماً، فإن هذا التكفير لا ينبغي أن يقابل بتكفير، فجمهور المسلمين لم يكفّروا الخوارج.

5- قد يلتبس التكفير بدوافع سياسية، فهنا يجب أن يتحرر المسلم من تعصبه لحزب أو جماعة، إنما يتعصب للحق وحده. وإن الأمثلة التي ذكرناها في المقال ليست جميعها سياسية، ولكنها جميعاً مما انتشر، بدرجة من الدرجات، بين أجيال المسلمين المعاصرة، نتيجة لمفاهيم وافدة حملت معها قيماً غريبة عن الإسلام، وعملت على نزع القدسية عن الإيمان بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين... ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وسوم: العدد 654