الإعلام المصري بين الحياد والاستبداد
السيد إبراهيم أحمد
لكي تحكمنا الموضوعية والنزاهة التي نفتقدها كثيرًا، لم أتناول الإعلام على إطلاقه ولكنني حصرت الرؤية في الإعلام المصري فقط، وسأزيد الأمر تيسيرًا وعلمية بأن أخص الإعلام "المرئي" وحده دون الإذاعة والصحافة بما أريده، ومن البداهة أن الفترة التي سأتناولها لاتشمل بالطبع الحقبة الناصرية؛ إذ فيها دخل المذياع المرئي "التليفزيون" إلى بيوتنا، وبالتالي لايصح استهدافها، فلم تكن ثقافة الشعب تعرف معنى الحيادية أو مدلولها مع تلك الفرحة الغامرة باستقبال هذا الاختراع العجيب، كما تكن شخصية "ناصر" الزعيم الأوحد تسمح بانتقاده، حبًا أو خوفًا، بل ربما كان الانحياز وقتها وطنية.
بدأ الشعب المصري يلاحظ الانحياز وغياب الحيادية، منذ الحقبة الساداتية، سواء كان هذا موكولاً إلى علمهم أو حبهم للراحل عبد الناصر، أو بتحريض من الناصريين أنفسهم؛ إذ غابت فجأة أو بالتدريج صور الزعيم، وخطب الزعيم، والأغاني عن الزعيم، لتطفو على السطح نغمة الانتقاد المرير لسياساته التي جلبت على مصر الحروب والتهجير والخراب، والمعتقلات، ولم توجه لناصري أو مناصر للفكر الناصري دعوة ما أو حتى الاقتراب من استوديوهات ماسبيرو، ليبلغ الإقصاء مداه بعد نصر أكتوبر المجيد الذي ساهم في إهالة التراب فوق صفحات تاريخ الهزائم والنكسات.
استحدث عهد مبارك في الثلثيين الباقيين من مدته تطعيم القنوات الرسمية والخاصة بشخصيات من أهل الصحافة الذين صنعهم على عينه، وكانوا أدوات في مشهد المعارضة المصطنع ضده، ولما صدقهم الشعب أفسحوا لهم برامج تكمل بقية المنظومة، ولكن مع أول بشائر الرحيل عن كرسي الرئاسة، انقلبت الخلايا المباركية النائمة عليه، بل هتفوا للثورة وأيدوها بالتخييم والإقامة في ميدان التحرير.
منذ ذلك العهد وحتي يومنا المختوم برئاسة الرئيس السيسي مرورًا بالمجلس العسكري ومرسي وعدلي والشعب يعاني من الاحتلال البغيض الرابض فوق الشاشات والجاثم فوق العيون، وغازي الآذان، من تلك القلة البغيضة التي نحرت الحيادية وهيَ قيمة إعلامية مهنية، فلم تسمح أبدًا ــ سواء طلب منها هذا أم لا ــ بعرض وجهة النظر الأخرى، أو احترامها، أو احترام من يتبناها، وكان غاية ما يطلبه المذيع من الضيف أنه سيعرض وجهة نظر الطرف الغائب التي تعارضه.
بعدما اطمأن كل مذيع إلى تجذره في مكانه، والأوضاع تسير من حسنٍ إلى أحسن لصالحه، انقلب متحيزًا لأفكاره وأطروحاته، يطالب فريق الإعداد باستضافة من يساير وجه نظره، وإذا مارس الضيف حقه في حرية عرض وجهة نظره المخالفة، بطش به المذيع مصادرًا رأيه، وعلى الضيف إما أن يتراجع ويسحب ما قال، ويوافقه، وإما أن ينسحب وهذا ما لايحدث في الغالب، وليس أدل على هذا من برنامج وصف فيه الضيف "مبارك" بالوصف الشائع "المخلوع"، فإذا بالمذيع يثور كالأسد رافضًا هذا النعت: (هذه الكلمة لا أسمح أن تُقال في برنامجي أبدًا). بل وفرض على الضيف ما يجب أن يقوله من أن مبارك "متنحي" وليس معزولاً.
في جميع القنوات المصرية إلا قليلا التي تبث من داخل البلاد والمعارضة التي تمارس بثها من خارجها حتى قناة الجزيرة التي كل مافيها من إعداد وتقديم مصري ماعدا التمويل والتوجيه والملكية، يمارسون نفس منظومة الاستبداد والاقصاء، والتهميش، وفرض سياسة القناة، ورأي المذيع، وسيناريو الإعداد على كلام الضيف وثقافته، واجباره على تبني وجهات نظرهم، ولهذا فكل الإعلام "المصري" المعارض والمؤيد، من مع الفلول، أو من مع الإخوان، أو من رشحوا المشير السيسي لرئاسة مصر، الكل سواء.. يطالب بالحرية، ويقتل الحرية، لايرضى بالإقصاء لمواليه، ويرضاه لمعارضيه.. والسر كل السر في الوجوه العتيقة من سدنة الإعلام المرفوض.
ولهذا فقد استبدت هذه الطغمة من المذيعين وضربت بأعراف مهنة الإعلام عرض الحائط: فيشتمون، ويتهمون مخالفيهم بأبشع التهم بالرغم من أن قضاياهم لم تزل منظورة أمام المحاكم لم يصدر فيها القضاء حكمه، ولايسمحون في المقابل بانتقاد من يوالونهم أو اتهامهم بالرغم من أن أحكامًا قد صدرت ضد بعضهم، بل جاهروا بالانحياز لمرشح رئاسي وتوجيه الشعب للتصويت لصالحه، ولم تطرف لهم عين.
لقد ثار الشعب ثورتين عظيمتين ضد من مارسوا الانحياز، وداسوا الحياد، واستبدوا بالرأي، وتسيدوا بالقهر، وشردوا صاحب كل رأي، وكمموا الأفواه، وتمترسوا بالأغلبية المزيفة: فلمن إذن دفع الشهداء دمائهم، ولمن بذلوا أرواحهم، ولماذا ثار الشعب؟! .. من أجل تكرار مشاهد ثاروا عليها، أم من أجل أن نمجد حكم الفرد، أم من أجل أن يحكمنا حفنة من طغاة القنوات نيابةً عن الحاكم؟!
قد تكون الحيادية خرافة، وقبض على الجمر، وقد لاتمارسها كافة وسائل الإعلام في كل الدنيا، لكن لم تقم هناك ثورات من أجل التغيير مثل تلك التي قامت في مصر، وكانت من أجل أن نعود أحرارًا كما ولدتنا أمهاتنا.
فيجب فورًا تغيير المنكر الإعلامي المستبد، بإقصاء تلك الوجوه القبيحة، وإحلالها بشباب من أبناء الثورة الذين يمارسون الإعلام المبني على التحاور لا على الإقصاء والانتقاء، ويمثلون في كل البرامج بكل القنوات بكل أطيافهم المؤيد والمعارض، ويجاهرون ويختلفون، بدلاً من انسحابهم إلى صفحات التواصل الاجتماعي، يتناقشون ويتطاحنون، ويتلاعنون، تمامًا مثلما كانت مواقعهم قبل الثورتين أمام مبارك ومرسي أو "المخلوع والمعزول"، وهذا ما سيزيد المشهد احتقانًا، وثورة في النفوس، ثم في الشوارع.
وكما يقولون أهل مكة أدرى بشعابها، لهذا فقد استرعت تلك الظاهرة عين ووعي الإعلامية البارزة جيهان منصور التي هالها ذلك الكم من الممارسات الشائنة، فخاطبت أبناء مهنتها من المستبدين صارخة ومحذرة: (الشعب طالب في ثورتين بالحرية، وليس من المعقول أن تصادروا حق هذا الشعب العظيم في الاختيار، لا تتعاملوا مع شعب مصر باستخفاف ولا تستهينوا بعقول الشباب، الثورة أنضجت الشعب سياسيًا ولا يجوز أن نرجع به إلى زمن "اخترناك اخترناك"! .. ارحمونا يا إعلام السلطان واتركوا مباخركم ودفوفكم خارج الاستوديو.. واعلموا أن ما تفعلونه للأسف.. يأتى بنتائج عكسية)... وهذا عين ما أخشاه وأحذر منه، وأطالب من وثق الشعب به أن يبادر بتغيير تلك المنظومات الخاطئة، والتي يستفيد منها قلة لايخلو منهم عصر، والعاقلُ من اتعظَ بغيره.