البعد السياسي في مشروع حسن البنا

البعد السياسي

في مشروع حسن البنا

محمد الحسناوي رحمه الله

بعد سبعين عاماً من تأسيس حسن البنا ـ رحمه الله تعالى ـ جماعة الإخوان المسلمين صار من السهل تصور علاقة الإسلام بالسياسة ، بل صار لهذه الفكرة أنصار وأحزاب وهيئات ومنظمات ، وكتب وصحف ومجلات ، وصحوة إسلامية هي تتويج لهذه الفكرة ولجهود الذين أوضحوها وكتبوا فيها بشكل شرعي مؤصل مثل الأستاذ حسن البنا .

لقد تزامن سقوط الخلافة العثمانية مع إعلان مصطفى كمال دولة علمانية تفصل الدين عن الحياة بدءاً من السلطة وانتهاءً بالأسرة والفرد ، وجاءت وجاءت الطامة حين ظهر من العلماء المحسوبين على الإسلام من يزين هذه الفعلة الشنعاء مثل الشيخ علي عبدالرزاق ، حين وضع كتابه " الإسلام وأصول الحكم " زاعماً فيه أن ليس في القرآن آية توجب إقامة الإمام أو الحكم بالإسلام ، وكأن الناس لم يسمعوا قول الله تعالى : [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منهم] (النساء : 83) ، والمعلوم أن أولي الأمر في الآيتين المذكورتين الأمراء وعلى رأسهم الإمام .

ومن هنا تتجلى عبقرية حسن البنا ، وعظمة الدعوة المباركة التي أسسها ، فقد تصدّى على المستوى الفكري للجهل بالإسلام والتجهيل به من بعض المحسوبين عليه ومن حملات المنصِّرين والمستشرقين والسياسات الحكومية التضليلية التغريبية ، كما تصدى على المستوى السياسي الميداني للعودة بالحياة العامة والحكومات إلى الحكم بالإسلام واستعادة الإمامة أو الخلافة المفقودة .

الفكر السياسي

لم يقف المرحوم البنا عند توضيح علاقة الإسلام بالسياسة علقة كلٍ بجزء حين قال : " أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً " ، بل كشف موقف الاستعمار الغربي والتنصير من هذا الإسلام ، وتوج ذلك في تحديد شكل الحكومة الإسلامية " 1 ـ مفهومها 2 ـ أهمية الحكومة في الإسلام 3 ـ واجبات الحكومة الإسلامية 4 ـ حقوق الحكومة 5 ـ الموقف من انحراف الحكومة الإسلامية وتقصيرها 6 ـ الموقف من الحكومات التي لا تطبق الإسلام ".

ورسم سياسة التطبيق ، وذلك بالتدريج في التعبير مبيناً فقهه في إنكار المنكر ، والموقف من القوانين الوضعية ، كما فصل في رئاسة الدولة : " مسؤولية رأس الدولة ، رئيس الدولة وتفويض صلاحياته ، وأن الخلافة شكل من أشكال الدولة في الإسلام ، ودور أهل الحل والعقد ، والنظام الانتخابي ، والمرأة والعمل السياسي ، والأقليات غير الإسلامية في بلاد المسلمين ، والاستعانة بغير المسلمين ".

تقدم الأستاذ البنا في فكره السياسي خطوة أخرى ، فقدم دراسة سياسية متميزة لقيام الدولة الإسلامية ، وأسباب انحلالها من جهة ، وكيف نعمل لقيامها أو إعادتها من جهة ثانية .

ولما كان العمل السياسي الإسلامي ليس في الخيال أو في ظروف مريحة أو انفرادية فهناك الاستعمار والقابلية للاستعمار في وقت واحد ، لذلك رسم الموقف من الغرب المعتدي ومن الاحتلال البريطاني لمصر والموقف من الأحزاب السياسية في مصر ، والوحدة العربية والإسلامية ، كما تناول مفاهيم إسلامية سياسية مثل : " أنواع القومية والوطنية " ، وهذا كله يسلمنا إلى الممارسة السياسية .

الممارسة السياسية

إن ممارسة الأستاذ البنا السياسية إضافة نوعية في عبقرية هذا الرجل ، وإذا كان التنظير أو التفكير السياسي وحدة كافية للبرهنة على تلك العبقرية ، فإن ممارسة الأستاذ البنا السياسة هي أصدق برهان على ذلك بتنوعها وشمولها لمختلف الساحات السياسية المطلوبة في زمانه ومكانه ، حتى استوجب لدى خصومه المحليين والدوليين التخلص منه باغتياله ـ رحمه الله ـ عام 1948م ، وما أعظم أن يتوج الرجل حياته ويمهر أفكاره وممارساته بدمائه ، فما أعظمه حياً ، وما أعظمه ميتاً .

من ممارسات الأستاذ البنا السياسية تأسيسه جماعة اإخوان المسلمين ، وحضوره المؤتمرات السياسية ، وتحريكه الإضرابات والمظاهرات وتوجيهه الرسائل والمذكرات السياسية للملوك وللرؤساء والمسؤولين العرب والمسلمين ، وخوض جماعته التي يقودها المقومة السرية المسلحة ضد الإنجليز على قناة السويس ، ثم خوضها معارك فلسطين عام 1948م في حياته .

التقويم

 سوف نتكلم عن جانبين عظيمين من ممارسة الأستاذ البنا السياسية ، أولاهما : تشكيله جماعة الإخوان المسلمين ، ثانيتهما : خوض جماعته غمار الحرب في فلسطين ، لأهمية هاتين الممارستين ولظروف المقال الذي نحن بصدده .

فمن الناحية الشرعية لابد من جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حتى في الدولة الإسلامية ، فكيف إذا غابت هذه الدولة : [ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون] (آل عمران : 104) وكيف إذا صار العمل السياسي في عصرنا يقتضي وجود هذه الجماعة أو الحزب ؟ ومع ذلك وجد من المسلمين حتى المخلصين من يرفض و" يبدّع " فكرة إنشاء جماعة أو حزب من أغراضه العمل السياسي .

سألت أحد أصدقائي : ما دمت ترفض وجود جماعة إسلامية ، فما الشكل الذي تراه للعمل للإسلام ؟ فصمت قليلاً وفكّر قليلاً ، ثم قال : نعلّم الناس اللغة العربية !.

أما خوض معركة فلسطين منذ أيامها الأولى عام 1948م وهو واجب الحكومات العربية والإسلامية أولاً ، فإن الأستاذ البنا حرص أن يكون لجماعته دورها ، وهذا يدل على وعي سياسي استراتيجي ، لا يقف عند احتمال هزيمة الجيوش العربية ، وقد حصلت بعد ذلك ، بل هناك تأدية الواجب الشرعي أولاً ، وهناك تقديره أن معركة العرب والمسلمين مع هذا الكيان العدواني السرطاني معركة مصيرية ، وهذا مستنتج من القصص القرآني المفصل لبني إسرائيل ، ولدورهم التاريخي في العداء لله وللرسول وفي تخريب الأمم والحضارات ثانياً ، وثالثاً ، ورابعاً ، أليس هذا واضحاً في يومنا هذا كل الوضوح ؟ وأليس ذلك دلالة على عبقرية هذا الرجل وقراءته للمستقبل ببصيرة ربانية ؟!

على أن التقويم العملي لجهود البنا في الفكر السياسي والممارسة السياسية هي في مطالعة الحصيلة لهذه الجهود التي أثمرت مع الحركات الإسلامية الشقيقة الموازية ، والعلماء العاملين المخلصين هذه الصحوة ، وهذا الوعي السياسي المتميز ، فهذه الأجيال المسلمة الراشدة ، وهذه المكتبة الإسلامية الضخمة من رسائل جامعية ومؤلفات محكمة ، ووصول بعض الحركات الإسلامية إلى تحكيم الشريعة الإسلامية ، وإعلان سياسة إسلامية ، كل ذلك ينطق بنجاح الجانب السياسي في فكر الإستاذ البنا ونجاح الممارسة السياسية التي أصبحت دليل عمل لجماعته ولغيرها من الجماعات وسوف تظل كذلك إلى مدى بعيد إن شاء الله .