التمثيل الفلسطيني أسباب ونتائج
يشكّل غياب المراجعات النقدية الجادة لمسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة سمة بارزة فيها، وقد أدى ذلك، مع مرور الزمن، إلى اكتساب بعض السياسات أو الشعارات صفة القداسة، وأصبح من الصعوبة بمكان التعرّض لها بالنقد أو المراجعة، لتبيان مواقع الصواب والخطأ فيها، إذ أحاطت بها خطوط حمراء، تجعل الاقتراب منها مساساً بالخط العام، وخروجاً عن الإجماع الوطني، متغافلة عن أنّ كل سياسةٍ، مهما علا شأنها، فإنّها تظل خاضعةً لظروفها التي نشأت فيها، وللعوامل المحيطة بها والمؤثرة فيها. ناهيك أنّ الأمور تُقاس بنتائجها، وأنّ مقدماتٍ كثيرة أدّت إلى النتائج التي وصلت إليها القضية الفلسطينية تحتاج إلى مراجعة حقيقية.
من هذه الموضوعات مسألة منظمة التحرير الفلسطينية، وكونها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، والتي أصبحت خطاً أحمر، لا يجوز المساس به، أو حتى الاقتراب منه في محاولةٍ لفهم أسبابه وظروفه، والنتائج التي ترتبت عليه. وامتد هذا الحظر ليشمل أي حديثٍ أو نقد للمنظمة بواقعها الحالي الذي تعبّر عنه الدعوات المتتالية لإعادة إحيائها، وهي دعواتٌ تفترض أنّ هذا الجسد قد دبّ فيه الوهن، وفقدت منه مظاهر الحياة، بعد الغيبوبة التي دخل فيها منذ اتفاق أوسلو، ولذا تدعو إلى إعادة إحيائه، ولا يخفى أنّ جزءاً من هذه الدعوات صدرت عن مسؤولين كبار في فصائل المنظمة.
تشكّلت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، بقرار عربي شكّل اعترافاً عربياً بأهمية وجود إطار فلسطيني، يعبّر عن تطلعات الفلسطينيين وآمالهم بتحرير بلادهم، بعد أن أنهت نكبة 1948 أي شكل من أشكال الوجود الفلسطيني، إذ سرعان ما انهارت حكومة عموم فلسطين التي أقيمت في قطاع غزة الخاضع للإدارة المصرية، وتمّ إعلان وحدة الضفتين، الغربية والشرقية، باسم المملكة الأردنية الهاشمية، ورفض الملك عبد الله الأول اقتراحاً من رئيس الوزراء الأردني، سعيد المفتي، وآخرين بتسميتهما الضفة الفلسطينية والضفة الأردنية. وهكذا غاب اسم فلسطين عن الخارطة السياسية، ولم يعد يذكر إلّا عند الحديث عن مشكلة اللاجئين.
شكّل موضوع الهوية الفلسطينية وفكرة الكيان الفلسطيني هاجساً قويّاً لدى الشباب الفلسطيني في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وجاء كرد فعل قوي لتجاهل الأنظمة العربية والمجتمع الدولي قضيتهم والتعامل معها باعتبارها قضية لاجئين، وبرز ذلك جلياً في الأفكار والمبادئ الأولى لحركة فتح. إلّا أنّ موضوعة الممثل الشرعي والوحيد لم تبرز إلا بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، وما أعقبها من آمالٍ بقرب التوصل إلى تسوية سلمية في الشرق الأوسط. وجرت الإشارة إليها للمرة الأولى في مؤتمر القمة العربي في الجزائر نهاية سنة 1973، وتكرّست في قرارات القمة العربية في الرباط سنة 1974. ومن هنا، ينبغي إدراك تلك العلاقة الوثيقة بين تاريخ صدور القرار والتحركات باتجاه التسوية التي كانت تسود المنطقة في ذلك الوقت.
في نهاية الشهر الأخير من سنة 1973، أقمنا معسكرًا لتدريب الطالبات والطلاب في بلدة
مصياف السورية، ووسط الأجواء العاصفة التي تسود هذه المنطقة الجبلية، جاء الرئيس ياسر عرفات، ودار نقاش حاد مع الطلبة، حول احتمالات التسوية التي كان يراها وشيكةً كنتيجة سياسية لحرب تشرين، وعن ضرورة مشاركة منظمة التحرير فيها، لاستعادة الضفة الغربية وقطاع غزة، كان رأي الطلبة أنّ واجب استعادة الأراضي المحتلة سنة 1967 يقع على عاتق الدول التي فقدتها، وأنّ منظمة التحرير معنية بكل فلسطين، ولا يجوز لها أن تنضم إلى هذا الحل. أجاب أبو عمار "أنتو عايزين تسيبوها للملك حسين؟"، واتهم بعضهم بأنّهم "الهاشميون الجدد". ولعل تلك الواقعة تعبّر عن خلفية المشهد السائد في ذلك الوقت، ولماذا جاء هذا القرار الذي كان، في حقيقته، لا يهدف إلى تعميق العلاقة بين المنظمة وشعبها، ولا تأكيد قيادتها نضاله من أجل التحرير، بقدر ما كان يهدف إلى توريط المنظمة في التسوية السلمية، وإتاحة المجال لاحقًا أمام الأنظمة العربية، للتنصل من تبعات القضية الفلسطينية.
لاحقاً، اعتذر وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، عن عدم شمول الضفة الغربية بإجراءات فك الاشتباك بعد حرب 1973، متعذرا بأنّها، بعد مقررات الرباط، لم يعد ينطبق عليها قرار مجلس الأمن الدولي 242، والذي يقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي (أو أراضٍ) التي احتلتها في حرب 1967، بمعنى أنّها، بحسب كيسنجر، أصبحت أرضاً متنازعاً عليها، بعد أن انتفت عنها صفة كونها أرضًا تابعة لدولة شاركت في حرب 1967.
استغلت الولايات المتحدة، ومن خلفها الكيان الصهيوني، قرار الرباط بأن أشعلت الخلاف بين الدول العربية فيما بينها، وخصوصاً بين سورية ومنظمة التحرير والأردن، بشأن أحقية كل منها في الحصول على مقعده في قطار التسوية، وشهدنا تبدلاً دوريًا في التحالفات بين هذه الأطراف، من دون أن يقدم الخصوم أي تنازل جدّي لأحدهم.
شهدت العلاقات الفلسطينية الأردنية تراجعاً كبيراً بعد قرارات الرباط، ولم تلبث بعد حرب 1982 أن تطورت إلى درجة صياغة مشروع لاتحاد كونفدرالي، إلّا أنّه، في مرحلةٍ لاحقة، وأمام تردّد المنظمة في الموافقة على الشروط الأميركية الكفيلة بجعلها طرفًا في التسوية، تراجع الأردن عن الاتفاق مع المنظمة، وقام بمحاولةٍ منفردة، بعد لقاء الملك حسين وشمعون بيريز في لندن، لتشجيع شخصيات من الضفة الغربية وغزة، لتحل مكان منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي أجهضته الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأسفرت عن المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد، ولكن تحت المظلة الأردنية، وفي الوقت نفسه، وبخط موازٍ لمفاوضات مدريد، كانت تجري ترتيبات لتوقيع اتفاق أوسلو الذي جعل من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 أراض متنازعاً عليها، وربط مصيرها بالاتفاق النهائي الذي لم ير النور بعد ربع قرن من المفاوضات. بل إنّ الكيان الصهيوني لم يصف، على الإطلاق، انسحابه من بعض مدن الضفة الغربية، ومن قطاع غزة بالانسحاب، بل سمّاه إعادة انتشار لقواته، يستطيع العودة عنه وقتما يشاء.
لم تضف قرارات الرباط شيئاً لمكانة منظمة التحرير بين شعبها، بقدر ما زجّت بها في صراع مع أشقائها حول دورها في التسوية، وجعلتها تحرف مسارها عن هدفها الأساسي وثوابتها الوطنية في تحرير كل فلسطين، وحملتها على تغيير استراتيجيتها ومشروعها الوطني الفلسطيني، الأمر الذي أوصلها، في نهاية المطاف، إلى اتفاق أوسلو الهادف إلى الوصول إلى حكم ذاتي محدود.
إذا كانت هذه عبر الماضي، فإنّ ثمّة خطا أحمر آخر، ينبغي تجاوزه هذه الأيام، وهو المتعلق بمصير منظمة التحرير، فهي قطعاً ليست صنماً يعبد، أو شيئاً من الماضي، آن أوان وضعه في متحف للتاريخ، كما هو حالها منذ أكثر من ربع قرن، لم تجدّد فيه هيئاتها، وإنمّا هي إرادة حية للشعب الفلسطيني، ينبغي لها أن تعود إلى القيام بواجباتها، وفق مشروع وطني فلسطيني جامع، يشمل كل فئات الشعب الفلسطيني ومناطق وجوده، على قاعدة من ثوابته الوطنية وحقوقه التاريخية غير القابلة للتصرف، على كامل أرضه السليبة. ولعل هذه الخطة تكتسب أهميتها لوقف سيل التنازلات المستمرة والإذعان لشروط العدو ورغباته. وبذلك، قد نستعيد بعضاً من رشدنا ووحدتنا، ونكفّر عن بعض أخطاء الماضي.
وسوم: العدد 658