الشاي والناس!
الشاي هو الصديق الذي لم يفارقني ساعة. ومع أنه عشب لا يتكلم إلا أن محبة عميقة جمعتنا حتى أني ما إن ألمحه قادما في ثوبه الزجاجي الشفاف حتى أهتف فرحا:" ياسلام علي جمالك"! يتسلل إلي عقلي. ينظم مثل مايسترو قدير كل خلاياه وأفكاره فأسمعها تصدح متناغمة. عام 1968 طلب مني والدي أن أكتب حوارا لفيلمه "عائلات محترمة". حين أنهيته قرأه ونظر إلي مغتاظا مذهولا:" إيه ده؟! مافيش مشهد واحد من غير شاي؟! أول البطل مايشوف البطلة يقول لها: تعالي نشرب شاي! البطل يمرض، يسافر، أمه تموت، يشرب شاي! ده كله تكلفة فيلم خام وتصوير"! دفع بالورق إلي قائلا :"خذ. نشف الحوار ده . مش عاوز ألقى فيه كباية شاي واحدة"! نشفت الحوار لكن لم يتوقف غرامي بالشاي. وكنت قد قرأت قصة ليوسف إدريس يصف فيها اثنين من الفلاحين في غيط، يضايف أحدهما الآخر بكوب شاي ويقول له وهو يصبه:" عارف بزبوز الإبريق ده؟ نزل منه بقرتان وحمار"! أي أنه باع البهايم وأنفق ثمنها على الشاي. حينذاك قلت لنفسي إنني مصري أصيل! ثم قرأت مقالا مطولا للكاتب العالمي جورج أوريل صاحب رواية " العالم 1984" يتغزل فيه بذلك السائل السحري ويمجد طرق إعداده، فأدركت أنني أنتقل من المحلية إلي العالمية! عام 1972 بعد وصول السادات للحكم رحلت مع والدي من مصر. ركبنا باخرة من الاسكندرية قاصدين بيروت. كان البوفيه مفتوحا على سطح الباخرة فسألت والدي:"ألن نشرب الشاي؟" قال لي:"والله ما في جيبي ولا مليم"! هكذا ظللنا جالسين على سطح المركب نتطلع إلي البوفيه كاليتامى إلي أن أطفأ أنواره وأغلق أبوابه فنهض والدي بحزم قائلا:" أخيرا قفل! ياللا بينا بقى نشرب شاي"! قلت:"إزاي؟ البوفيه قفل؟". قال"ما أنا كنت منتظر يقفل"! واتجه إلي قبطان الباخرة وعاتبه قائلا:" ياسيدي رحنا نشرب شاي لقينا البوفيه قافل"! فأولم لنا الرجل وليمة لعلعت فيها أكواب الشاي! من بيروت سافرت إلي روسيا للدراسة وهناك فوجئت بأن بواكي الشاي في المحلات مكتوب عليها"مفيد لعضلة القلب"! فأيقنت أنني إضافة لمصريتي وعالميتي أتمتع بإدراك علمي وناديت بفصل الشاي عن الدولة! هناك أيضا عرفت أن شعوب آسيا الوسطى المحيطة بروسيا تطلق على الشاي"نبيذ الشرق"، فعلمت أنني من مدمني النبيذ! ولقد دافعت عن صداقتي لذلك العشب في أدق المواقف حتى عندما بكت زوجتي الروسية وهي تشكوني بدموعها لأمها:"ياماما هذا الرجل لا يكف عن طلب الشاي. أنا أصبحت قهوجية في البيت"! فهدأتها أمها:" احمدي ربنا أنه لا يطلب فودكا"!عندما عدت إلي مصر صرت أضع في بيوت أصدقائي المقربين بواكي الشاي الذي أفضله، فإذا ذهبت لزيارتهم وجدته. ذات يوم كنت أزور صديقي حسام حبشي وبحثنا عن الباكو الخاص بي في المطبخ فلم نعثر عليه، وكانت ماجدة زوجته في أمريكا فاتصل بها حسام يسألها:"ياماجدة فين باكو الشاي بتاع أحمد؟!" فجاءنا صوتها بالدهشة من كاليفورنيا:"بتتصلوا بأمريكا وتصحوني من النوم عشان باكو شاي بجنيه ونصف؟! بالمرة بقى اتصلوا بالكرملين!". سألها حسام يشاكسها :" معاك نمرته؟"! مع ذلك لم يخمد حماسنا فظللنا نفتش حتى وجدنا الباكو مختبئا وراء علبة فلفل فهتفت به " ياسلام على جمالك".
وسوم: العدد 658