حول استقلال القرار
عدد من الذين قرؤوا المقالة المعنونة "قراءات حول السياسات الأمريكية"، اعترضوا على عدم اعتبار عدد من سياسات دول معروفة بعلاقاتها الاستراتيجية بأمريكا مثل تركيا والسعودية ومصر وعدد كبير من الدول، نابعة من، تابعة لـِ، السياسات الأمريكية. وذلك كما كان حالها في مرحلة الحرب الباردة، وما بعدها نسبياً. وقد اعتبروا استخدام عبارة "مستقلة" عن السياسات الأمريكية، أو وصفها بالمستقلة، شهادة في مصلحتها، كما كان الحال، في مرحلة الحرب الباردة. ففي مرحلة الحرب الباردة كانت تعتبر سياسة دولة ما، أو حكومة ما، سياسة مستقلة عن أمريكا أو توصف بالمستقلة شهادة بالغة الأهمية في مصلحتها.
المشكلة هنا في الفرق، أو الفارق، الكبير بين مرحلتين تاريخيتين. وقد اتسّمت كل منهما بموازين قوى مختلفة. الأمر الذي يقرّر أهمية وصف سياسات ما لدولة أوروبية أو من العالم الثالث باعتبارها مستقلة عن أمريكا، أو مستقلة عموماً. ويكون ذلك مدحاً أم مجرد وصف وتحليل وضع.
في مرحلة الحرب الباردة كان تبنّي دولة من دول العالم الثالث أو حتى دولة أوروبية، مثل فرنسا مثلاً، سياسة مستقلة عن أمريكا، موقفاً جريئاً، أو جليلاً، أو عظيماً، يستحق صاحبه الإطراء حين يوصف بالمستقل عن أمريكا. لأن الهيمنة الأمريكية في تلك المرحلة كانت تدخل "حرباً" تطيح بالأنظمة والرؤوس التي تذهب إلى الاستقلال عن التبعية لها. أما الأمثلة فكثيرة. وكثيرة جداً في هذا الصدد.
ومن هنا كان وصف سياسة معيّنة بالمستقلة، أو غير التابعة، أو إذا خرجت إلى هامش من الاستقلالية في مرحلة الحرب الباردة يحمل معاني إيجابية (تحررية أو ثورية). وهو ما لم يعد يحمله في هذه المرحلة التاريخية التي يعيشها العالم اليوم. لذلك يكون الذين اعترضوا على ما جاء في تلك المقالة قد خلطوا بين مفاهيم مرحلتين تاريخيتين وذلك حين رفضوا وصف مستقلة للسياسة التركية حين أسقطت الطائرة الروسية، أو للسياسة السعودية حين شنت هجومها بالطيران على اليمن أو للسياسة المصرية حين ذهبت إلى محاصرة غزة، أو وقفت إلى جانب نتنياهو في حربه على قطاع غزة 2014، على سبيل المثال أيضاً. فالوصف بالمستقلة أو غير النابعة من قرار أمريكي لا يحمل مديحاً أو تأييداً، وإنما هو تقدير موقف لعلاقات دولية في هذه المرحلة. بل قد يحمل من السلبية أكثر مما لو كان تابعاً لقرار أمريكي.
بكلمة أخرى، يستهدف التحليل لمختلف القراءات حول السياسات الأمريكية في هذه المرحلة التاريخية إلى التقدّم بفهم جديد لسياسات الدول وعلاقاتها ببعضها البعض. فلا يعود الارتباط بالسياسات الأمريكية أو عدمه معياراً أو المعيار في فهم السياسة، أو تحديد المواقف. وذلك على غير ما كان الحال عليه في مرحلة الحرب الباردة، أو في الأدق في المرحلة التي كانت أمريكا فيها في موقع القوّة والسطوة على حلفائها، أو التابعين لها، وكان الخروج على إرادتها يكلف صاحبه حصاراً، أو انقلاباً عسكرياً، أو عدواناً. وكانت أمريكا متحكمة إلى حد بعيد في النظام الدولي كما في عدد من الأنظمة الإقليمية، ولا سيما النظام الإقليمي العربي- الإسلامي المسمّى زوراً بالشرق الأوسط.
ولكي نتأكد من صحة الموضوعة التي تفرق بين علاقة أمريكا بأتباعها أو بالدول الأخرى في المرحلة السابقة من جهة وما يقوم الآن من علاقات دولية من جهة أخرى، يكفي أن نقارن ردود الفعل الأمريكية عندما عقد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر صفقة الأسلحة التشيكية، بردود فعلها إزاء صفقات الأسلحة التي يعقدها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع روسيا والصين وفرنسا.
هنا يظهر بوضوح الفارق الذي يُراد الوصول إليه في فهم وصف سياسة مستقلة أو سياسة غير نابعة من سياسة أمريكية بين مرحلتين. ففي المرحلة السابقة كانت السياسة المستقلة تعني حرباً من جانب أمريكا عليها فيما لم يعد الأمر كذلك الآن إذ أصبحت السياسة المستقلة للدول عموماً سمة عامّة، لا تحمل صفة التحرّر أو الثورية، ولا تقود إلى "حرب" مع أمريكا أو من قِبَل أمريكا بل تستمر العلاقات إيجابية بينها وبين أمريكا. ولهذا لا يجب أن يُنظر إليها أو فهمها وفقاً للمقاييس السابقة.
ومن ثم فإن وصفها بالاستقلالية عن أمريكا هو فقط للتخلص من المفاهيم التقليدية للعلاقات الدولية، والتي كانت سائدة في السابق من جهة كما من أجل فهم أكثر مطابقة للواقع بالنسبة إلى العلاقات الدولية الجارية في المرحلة الراهنة، من جهة أخرى. أما تفسير ذلك فيرجع إلى التغيّر في موازين القوى، وفي مقدّمته، فقدان أمريكا إلى حد بعيد، أو ملحوظ، لموقع السيطرة على النظام الدولي والأنظمة الإقليمية، وكذلك فقدانها موقعها السابق في السيطرة على حلفائها والدول التابعة لها. كما فقدانها القدرة على حمايتهم. فالمطلوب أن يختلف تعاملنا اليوم مع مواقف الدول، لا سيما التي كانت محسوبة على أمريكا أو داخلة في إطار التبعية لها أو لأحلافها عما كان عليه. فنقوّمها إيجاباً أو سلباً باعتبارها سياسات مسؤولة عنها تلك الدول. وهو ما قد يكون مُداناً أو موصوفاً بالعدوانية أو بالإجرام أو بالحماقة أو حتى بالسرطانية. وهذا يكفي لمعارضته ومحاربته دون حاجة إلى أن يتهم بأنه سياسة أمريكية حتى تسوّغ معارضته أو مقاومته أو قتاله، أو إدانته.
على أن فهم السياسات والعلاقات الدولية على ضوء ما هو قائم واقعياً لا يهدف إلى الدقة، والأمانة، والصحة في تقدير الموقف فحسب، وإنما يهدف إلى إدارة الصراع إدارة صحيحة ضدّه أيضاً. وهو طريق النجاح المشروط بدقة تقدير الموقف.
إن معارضة سياسة معيّنة باعتبارها سياسة تابعة لأمريكا أو وصفها بالأمريكية في حين لا تكون كذلك فسوف تذهب المعارضة لتضرب في نقطة غير النقطة التي يجب أن تضربها وستواجه مأزقاً إذا تأكد خلاف بينها وبين السياسة الأمريكية. فأنت حين تهجم على خصم بتهمة ليست فيه حقيقة تكون قد هاجمت شخصاً آخر. وتركت التهمة الحقيقية التي هي مقتلة. فتحرّي الدقة هنا هو شرط المنهج الصحيح والناجح في إدارة الصراع. فالقاضي الذي يحكم على قاتل باعتباره جاسوساً مثلاً يخطئ مرتين. الأولى بعدم محاكمته كقاتل والثانية بمحاكمته باعتباره جاسوساً وهو في الحقيقة ليس كذلك، ولو نفذ فيه حكم القتل الذي يستحقه بوصفه قاتلاً عن سبق الإصرار والعمد.
من هنا تأتي عظمة الآية القرآنية {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة)
وسوم: العدد 658