ملامح من المقاومة الثقافية في ثورات الربيع العربي
يعيق الغرب الإمبريالي كلّ تقدّم لشعوب البلدان الناميّة، وجرائمه التي ارتكبها ولايزال يتمادى في ارتكابها تشهد في كل لحظة على إعاقته لتحرر الشعوب، بل إن تغوّله في معاداة هذه الشعوب الأصلانية والمستضعفة بهدف إخضاعها لإرادته تومىء لساديّة لانظير لها في تاريخ البشر، و: "لقد سلك الرأسماليون (الأجانب) لقرون عديدة في العالم المتنامي سلوكًا لايختلف في شىء عن سلوك القتلة المجرمين"[1]، مما دفع الشعوب الأصلانيّة ومنهم العرب اللجوء إلى كافة أشكال المقاومة، ومنها الثقافية كونها تعبّر عن الهوية النهائية للذات الفاعلة، هذا مافعله الجزائريون، مثلًا، في مواجهة الاستعمار الفرنسي عندما انتصروا بإرادتهم الصلبة على الرغم من التفوّق العسكري للفرنسيين، مرتكزين على تفعيل هويتهم الإسلامية، ومستندين لتاريخ طويل تراكمت عبره الخبرات والقيم والثقافة، لكنهم، للأسف، لم يشتغلوا على تطوير هويتهم الإسلامية تساوقًا مع منجزات الحضارة الإنسانية، بل بقوا في حدود النقل عن السلف الصالح من دون إعمال العقل.
وعلى الرغم من مقاومة الشعوب العربية للاستعمار الامبريالي فقد فشلوا في الخروج من عصور الانحطاط طيلة أكثر من قرنين من زمن تلك المقاومة، وبقيت الثقافة المسيطرة على مجمتعاتهم هي ثقافة الماضي التي لم تعد تصلح لمعالجة المشاكل المجتمعية والسياسية المزمنة، ولعلّ أول أسباب اعتماد العرب على ماضيهم، هو إعاقة الغرب الاستعماري لأي نزوع تحرري وتقدّمي يخصّ هذه الأمّة، وقد سهّل عليه الأمر نتيجة سيطرته على مقدراتها، والتي توّجَها يإنشاء دولة إسرائيل، متعاونًا وإياها مع أنظمة القهر والفساد التي ورثت إدارة الحكم عنه، والتي قادت العرب إلى هزائم تلو الهزائم؛ هذه الأنظمة التي ادعت تمثيلها لتيارات من الفكر السياسي العربي الحديث متعاونة مع قيادات أحزابها، فاغتالت أو اعتقلت أو هجّرت من لم تتمكن من تدجينه في دروب الفساد والانحطاط التي أوصلت إليه شعوبها.
ولكن منطق التاريخ آل إلى مالم ترجوه القوى الإمبريالية العالمية وصنائعها من الحكام المحليين، ولم تتمكن هذه الأنظمة، بكلّ من تغوّلها، من إماتة إرادة الشعب المتمسك بهويته الثقافية، على الرغم من غفوتها التي دامت عشرات السنين أمام شدة القهر والاستبداد والجرائم غير الخافيّة على أحد. إنّ الشعوب العربية ثارت أخيرًا، يتقدمهم شبابها، أبناء ثورات الربيع العربي الذين أثبتوا عبر سلوكهم المتحضّر في ميادين وساحات حراكهم، وعبر شعاراتهم الدّالة على تمثّلهم لفكر التجديد والحرية، وبتمسكهم بهوية شعبهم وقيمه المستمدة من الدين الإسلامي، ثمّ في توظيفهم التقنيات التكنولوجية لثورة المعلومات والاتصالات المعاصرة في تنظيم أنفسهم والتعبير عن آرائهم مما أفقد الأنظمة عقولها، فاستنجدت بأبشع ما انتجته البشرية من مافيات فاسدة تدير دفّة السياسة الدولية التي سارعت بدورها بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاولة إخماد روح الربيع العربي مجرّبة بثّ الروح في أنظمة تحولت إلى جثث أمام جموح هذه الثورات، لاسيما شباب الثورة السورية الذين يتصدون للنظام البعثي المسلّح بطائفيته العفنة، وبالأسلحة التي يمدّه بها النظام الدولي من غير حساب، كما يتصدّون للجماعات المرتزقة من قوى التكفير في إيران وحلفائها في العراق ولبنان من العرب، وللغزو الروسي الوقح الذي يقصف بالوكالة عن إسرائيل والولايات المتحدة، ولوجههم القبيح الآخر من تنظيمات الكفر والتكفير مثل داعش وأشباهها. ولأنّ: "العالم مكان مزدحمٌ، وأنّه إذا ما أصرّ كلّ فرد على النقاء والأولوية الجذرية لأن يسُمَع صوته الخاص فإن ماسنحصل عليه لن يكون إلاّ الطنين السىء للمعاناة اللانهائية، وفوضى سياسية دموية بدأ رعبها الحقيقي يتجلى ويصبح ملموسًا هنا وهناك في عودة السياسات العرقيّة للظهور في أوروبا وفي خليطة اللياقة السياسية وسياسات الهوية في الولايات المتحدة الأمريكية"[2] إضافة إلى عودة أجنحةٍ من التيارات التكفيريّة إلى صفوف العرب المسلمين مسلّحةً، حاملةً رايات ذبح المخالفين لمعتقداتهم؛ فإنّ حركة التاريخ الفاعلة حاضرًا تؤكّد ضرورة انفتاح الثقافات الإنسانية لبعضها البعض، لاسيما الحضارات الفاعلة في التاريخ كالحضارة العربية الإسلاميّة والحضارة الأوروبية الحديثة، لأنّ ماوصلت إليه الحضارة الكونيّة هو نتاج جهود كلّ الشعوب المتعاقبة على وجه كوكب الأرض عبر آلاف من السنين، وبالتالي فعاليات الثورات العلمية المعاصرة ونتائجها هي ملك لكلّ سكان الأرض التي لايمكن ان تفضي إلاّ إلى المزيد من المثاقفة Acculturattion عبر إحلال الحوار العقلاني مكان الصراع التدميري، وهذا ما آمن به ويتطلع إليه شباب ثورات الربيع العربي.
إنّ إدارة الظهر للتاريخ والتعامي عن حركته ومفاعيله انتحار، لايوصل مرتكبيه إلاّ إلى مقابره، والعرب، اليوم، ممثلون بأنظمتهم السياسية وأحزاب معارضتهم التقليدية ومؤسساتهم الدينية والجماعات الطائفية والنحننية والتكفيرية يديرون ظهورهم للتاريخ، بل يدفنون رؤوسهم بالرمال ويكشفون عن عوراتهم من دون حياء، حتّى استحالوا جثامين تتحرّك ببقايا رأس النظام الدولي القديم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الآيلة للسقوط أمام مستجدات تزداد قوة ورسوخًا على دروب أنسنة علاقات البشر بدلًا من أمركتها[3]، وتحوّل البشرية نحو المقاومة الثقافية بدلًا من الصراع العسكري الذي تديره مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية، الفاسدة والمفسدة منها.
إنّ العرب محتاجون إلى الحقول المعرفية والعلمية التي تتنامى في الغرب بشكلٍ واضح، ومانتائج الثورات العلمية المذهلةّ إلاّ نتيجة لتنامي هذه المعارف والعلوم، وهذا لايعني إخفاء مكّون هويتهم الثقافية التي لابدّ أن تكون حاملة أجنّة التقدم في أحشائها، على الرغم من أن الهويات الثقافية للشعوب الأصلانية المستعمرَة، ومنها العربية، انتُهكَت من قبل الغرب الامبريالي الذي بنى خططه الإستعمارية منذ القرن التاسع عشر مفترضًا ثبات تخلّف الأصلانيين وعجزهم عن إدارة مصائرهم بأنفسهم، مما جعل المستعمرون ينقادون إلى نظام لاأخلاقيّ يتسم بالعدوانية والكراهية. ومن يعيد قراءة سلوك وفكر ووعيّ شباب الثورات العربية يدرك أهمية هويتهم الثقافية بالنسبة إليهم لا ليلغوا الآخرين، بل للضرورة التاريخية التي تقضي بالانفتاح على الثقافات الأخرى، لا ليستهلكوا منتوجاتها، بل ليساهموا في صناعة الحضارة الكونية المعاصرة التي تقضي بأن نحترم أنفسنا اولًا وذلك بالتعرّف عليها خارج نطاق وعي الفكر السابق الذي أوصل شعوبنا إلى ماهي عليه من شقاء وبؤس وقهر. لقد أثبت شباب الربيع العربي أن لاأحد يستطيع اقتلاع وجود العرب الحضاري، وتمايز هويتهم الإسلاميّة التي لابدّ لها أن تصبّ بمجرى التحوّلات الإنسانية في مجتمعات تلك الدول التي لايزال معظمها منقاد لسلطة لرأسمال المتوحّش.
تتطلب مواجهة العرب للغرب فهمًا جديدًا لمفهوم الثقافة، فهي كونيّة، وليست واحديّة، بمعنى أنّها ليست ملكًا حصريًّا للغرب أو الشرق، للرجال أو النساء، للإسلام أو المسيحية، للأقليّات أو الأكثرية، وإنما هي آليات تُفتِّحُ العقول والأخيلة لتكون متفاعلةً مع الآخرين، معترفةً بوجودهم، منتصرة لحقوقهم في الاختلاف وإثبات كلّ الذوات الفاعلة ثقافيًّا. ومن نافلة القول، إن استخدام وسائل الثقافة أسلحة ماضيةً بمواجهة جنون تسلّط رأس المال المتراكم وتجارة الأسلحة الفتّاكة التي تحصل نتيجة الفساد العارم لدى دوائر الغرب الإمبريالي وهيئاته المهيمنة ضرورة لكلّ شعوب الأرض التوّاقة لأنسنة علاقات البشر المتواجدين على سطح المعمورة.
أدهم مسعود القاق، باحث سوري، ريف دمشق، جرمانا
[1] - إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب (دار الآداب: بيروت، ط1، 1997م) ص83 نقلًا عن فرانز فانون
[2] - إدوارد سعيد، م.س، ص65
[3] - أثبتت ثورات الربيع العربي التي انطلقت في أواخر عام 2010م أنّ شبابها واعون لحركة التاريخ ومتطلباتها فقد انفتحوا على الآخرين حاملين هوية شعبهم الثقافيّة، وطالبوا بإسقاط سلطات الفساد والقهر والتخلّف المدعومة من أنظمة الفساد والإرهاب العالميين، ورفعوا شعارات تتعلق بتوقهم لنظام ديمقراطي معاصر في دولة مدنيّة حرّة، ووظفوا التكنولوجيا المعاصرة في تحركاتهم التي أصرّوا على سلميتها ومدنيتها وابتعادها عن العنف والإرهاب النامي في أكناف دوائر الفساد العالمي مراهنين على فعاليات المجتمع المدني في العالم أجمع التي تنحو باتجاه بناء عالم يقوم على أسس إنسانية بعيدة عن الصراعات المولّدة للموت، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية
وسوم: العدد 659