صحافي تونسي في حضرة الزعيم الجزائري مصالي الحاج
صحافي تونسي
في حضرة الزعيم الجزائري مصالي الحاج
أ.د مولود عويمر
وقعت في يدي مجموعة من جرائد عربية قديمة، ومنها جريدة "الصريح" التونسية. وهي صحيفة أسبوعية تأسست في عام 1949، وكانت تصدر صبيحة يوم الجمعة في ثماني صفحات. أما صاحبها فهو الشاعر والأديب التونسي الهادي العبيدي المتوفي في عام 1985.
ولفتت انتباهي منذ النظرة الأولى إليها صورة الزعيم السياسي الجزائري مصالي الحاج منشورة في الصفحة الأولى من العدد 58 الصادر في 21 أفريل 1950، والصفحة الثالثة من العدد 59، الصادر في 28 أفريل من نفس السنة. وازدادت فرحتي لما عرفتُ أن موفد هذه الجريدة إلى الجزائر (الطيب المرزوقي) زار مصالي في بيته في بوزريعة، وأجرى معه حديثا نشره في حلقتين في العددين السابقين.
في تلك اللحظة علمت أنني أمام وثيقة تاريخية غير معروفة ولا تقدر بثمن، وأن الأقدار ساقتها إليّ في الوقت المناسب والمكان المناسب. غير أن الوثيقة بقيت شهورا في أوراقي دون رجوعي إليها لاشتغالي بمواضيع أخرى إلى أن جاءت هذه الذكرى الأربعون لوفاة مصالي الحاج فاغتنمت الفرصة لنشر أهم ما ورد في هذا اللقاء لعل ذلك يفتح آفاقا جديدة للباحثين لكشف صفحات مهملة في تاريخنا المعاصر.
أقلام جزائرية في جريدة الصريح
كغيرها من الجرائد التونسية فتحت الصريح صفحاتها للنخبة الجزائرية بشكل عام والمقيمة منها بتونس بشكل خاص، وكان أكثرهم تجاوبا معها محمد ددوش التلمساني الذي نشر فيها أكثر من 25 مرة، أشهرها قصة "الابن الشهيد" في حلقتين، ومقالة "ذكرى شوقي بك" التي توزعت على إحدى عشر حلقة، وخاطرة " خواطر من صميم الحياة". كما نشر الصديق السعدي "محاورة بين فقيه جامد وشاب متحمس"، وربط الحواس الميلي العلاقة بين قلة الأندية وتدهور أخلاق الشباب.
ونشرت صحيفة الصريح مقال "المرأة في المجتمع" للطيفة مرابط، وهو عبارة عن مداخلة قدمتها كاتبتها في المؤتمر السنوي لجمعيات المسلمين الجزائريين بالمغرب المنعقد في يوم 9 أفريل 1950. نجد كذلك في هذه الجريدة قصيدة عنوانها "في الهيجاء" لمصطفى بن رحمون، وقصيدة أخرى عنوانها " فلا تحفل بغير العلم" لأحمد الغوالمي، ومقالات لمحمد المصايفي أهمها: "من تعاليم محمد".
الطيب المرزوقي في بيت مصالي
أوفدت جريدة الصريح واحدا من صحافييها وهو الطيب المرزوقي إلى الجزائر. وأعلنت الجريدة عن مهمة موفدها فلخصتها في تحصيل الاشتراكات وحسابات الباعة في الجزائر والاطلاع على الحالة بالقطر الجزائري. لكن نتساءل هنا: هل كان عدد المشتركين والمبيعات كبيرا حتى تكلّف الجريدة صحافيا بالسفر إلى الجزائر، وتتحمل الأعباء المالية المترتبة عن هذه المهمة، أم أن الغرض الحقيقي هو الاطلاع على أوضاع الجزائر التي كانت تعيش ظروفا خاصة بسب اكتشاف المنظمة الخاصة التابعة لحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي يتزعمها مصالي الحاج واعتقال العديد من أعضائها؟
وقد سبق للمرزوقي أن كتب مقالا آخر عنوانه "الاستعمار يضطهد الوطنيين بالجزائر ويسومهم سوء العذاب" تطرق فيه إلى اعتقال الوطنيين بسبب نشاطهم السياسي والعسكري خاصة بعد عملية بريد وهران التي قامت بها المنظمة الخاصة. كما تناول دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تنوير العقول ونشر الوعي وتعليم اللغة العربية، مشيرا إلى تجذرها في عمق الشعب الجزائري.
زار الطيب المرزوقي مصالي الحاج ببيته ببوزريعة بأعالي الجزائر العاصمة يوم الأحد 26 مارس 1950 رفقة بعض التونسيين، واستقبله الزعيم الجزائري في مكتبه الخاص. كان مصالي في تلك الفترة ممنوعا من السفر وكان يعيش في إقامة جبرية غير أنه مسموح له باستقبال الضيوف من الصحافة والسياسيين الجزائريين أو الأجانب. وهكذا اتصل به الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والأستاذ أحمد توفيق المدني والسيد فرحات عباس وغيرهم.
ماذا قال مصالي للمرزوقي؟
لقد اغتنم مصالي هذا اللقاء ليتوجه إلى الرأي العام التونسي والعربي فيقدم آراءه حول قضايا متعددة، ويهدم جدار الصمت الذي فرضته سلطة الاحتلال، ويكسر القيود التي تفصل بين الجزائريين وإخوانهم العرب.
وكان من الطبيعي أن يبدأ مصالي بالحديث عن علاقته بالوطنيين التونسيين وخاصة الحبيب بورقيبة الذي تربطه به صلة قوية في ميدان الكفاح الوطني. ومن الطبيعي أيضا أن يدعو مصالي من خلال هذه الجريدة إلى ربط العلاقات بين شعوب ودول المغرب العربي التي يجمعها التاريخ والدين واللغة والمصير المشترك.
وينتقل مصالي بعد ذلك إلى التذكير بتضحيات الوطنيين الجزائريين في سبيل القضية الوطنية، وصبرهم على الاعتقالات والاضطهاد طيلة فترة الاحتلال الفرنسي.
كما أكد على دور المرأة في الحفاظ على مكتسبات الحركة الوطنية، فقال في هذا الشأن: " إذا دخل الرجل السجن فالسيدة هي التي تقوم بشؤون المنزل وتربية الأطفال تربية وطنية صادقة ليكونوا من رجال الوطن المدافعين على كيانه وعزه المسلوب، ومن هذا يتبين لكم تطور الحركة ونضوج المرأة الجزائرية وشعورها بالواجب المقدس نحو الوطن العزيز ونحو أمتها المهيضة الجناح والمصابة بداء الاستعمار". ثم يضيف: " وإني أرى أن المرأة هي أساس مجد الأمة والمدرسة الأولى للولد فمن واجبنا رعايتها وتعليمها حتى تنجب للبلاد أبناء بررة يكون خلاص الوطن على أيديهم ولكي نتحرر من نير الرق والاستعباد."
وعبّر مصالي عن اعتزازه بانتماء بلده الشرقي وتشبثه بإسلامه وعروبته كأنه يرد على المشككين في ذلك خاصة بعد الأزمة البربرية التي زلزلت كيان حزبه في عام 1949 ومازالت تداعياتها قائمة أيام زيارة الصحافي التونسي.
كما اعترف مصالي بدور مصر والجامعة العربية في دعم الكفاح الوطني في الجزائر خاصة بعد رحلته إلى الشرق واتصاله بقادتها وعلى رأسهم الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمان عزام، وكذلك رئيس الوزراء المصري النحاس باشا الذي تبادل الرسائل مع مصالي الحاج في الشأن الجزائري. فقال في هذا السياق: " المغرب العربي هو جزء لا يتجزأ من العروبة والإسلام...نحن أهالي المغرب العربي ننظر إلى الشرق وللشرق معناه، ونرى الدول العربية وعلى رأسها مصر الفتاة كقائد ودليل يقودنا إلى الغاية المنشودة وهي الحرية والاستقلال."
وأبرز دليل على قوة الرابطة بين الجزائر ومصر -في نظر مصالي- هو ذلك الاستقبال الجزائري الحار للفرقة المسرحية المصرية التي زارت الجزائر لتقديم عروض مسرحية عبر عدة مدن ولقيت نجاحا كبيرا لم تنله أي فرق مسرحية أخرى. وقد سبق لي أن نشرتُ مقالا حول هذا الموضوع في جريدة البصائر كشفت من خلاله عن هذه الصفحات المشرقة من التواصل الثقافي بين الجزائر ومصر في الخمسينات من القرن العشرين.
كان هاجس مصالي التضامن ببن العرب لتحقيق الحرية والاستقلال والرخاء في العالم العربي. ولا يتحقق ذلك إلا إذا تجسدت وحدة بلدان المغرب العربي التي جمعها التاريخ ووحدها الإسلام، ثم اختلفت وتشتت فتغلب عليها الاستعمار. واستدل مصالي على ذلك بآية قرآنية، وهي قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم"، وقول الرسول (ص): "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا." ثم يضيف في هذا السياق: "الإتحاد هو أساس النجاح لجميع الأعمال، وأتمنى للمغرب العربي أن يتفهم هذه الحقيقة ويتهيأ لها ويتحقق أن قضيته هي أمانة بين يديه يجب أن يحافظ عليها حتى يتحقق ما يصبو إليه من حرية واستقلال."
وأكد مصالي أيضا أنه مهما بلغ حجم تضامن العرب والمسلمين مع القضية الجزائرية أو دعمهم للقضية المغاربية فلن يستطيع أن يحقق لها الحل النهائي وهو الاستقلال إلا إذا بادر أهلها بالنضال المستميت والكفاح الدائم والاتحاد المتين لمواجهة المستعمر العنيد. في هذه الحالة فقط تثمر الجهود المدعمة والأصوات المتعاطفة مع الحق الذي وراءه طالب مصمم ومثابر.
وانتهى اللقاء بين الصحافي التونسي ومصالي الحاج بهذا الدرس الجميل في فلسفة الكفاح التي استلهمها الزعيم الجزائري من مطالعاته للكتب، واستخلصها من حياته العامرة بالنضال الوطني في الميدان بين تضحيات العمال وحماس الجماهير، وفي ظلمات السجون ووحشة المنفى.
وقد لمس كل هذه المعاني الصحافي التونسي في حضرة مصالي الذي وصفه المرزوقي أحيانا بـ " الأسد الرابض والبطل المكافح" و " الزعيم الجليل والبطل المكافح قلب الجزائر النابض" أحيانا أخرى.