لمن يكون الانتماء؟

عقاب يحيى

دوماَ كان هناك سؤال مركزي يقتحم الوعي، والوجدان، خاصة عند المنعطفات والامتحانات الحقيقية للالتزام، وأصحاب المبادئ، وهو باختصار :

أي انتماء هو الأقوى عند الأغلبية ؟؟؟

هل انتماؤهم المعلن لخيارات فكرية وسياسية، وحتى إديولوجية هو الحاسم، الفيصل الذي لا ينافسه شيء آخر حتى لو كان هذا الشيء بعض التلوثات، او الآثار الخفيفة، أو حتى شيء من إيمان ظاهر، أو مغلف بما يعتقده بقايا فيه ؟.. ام أن الازدواج صفة الكثير؟.. أم أن ذلك الباطني القابع في المخفي هو الأقوى، وهو المُقرر حين يجد الجد ؟؟...

ـ عديدون ممن كتبوا عن الطاغية حافظ الأسد كانوا يتوقفون عند"عناده" القومي، وتشبثه بمواقفه"البعثية" التي تربّى عليها، وإصراره على استخدام العربية في جميع خطبه وأحاديثه، و"رفضه" تقديم سلاح نوعي لإيران أثناء حربها مع العراق، رغم وقوفه الحاسم معها، وتقديم عديد اشكال الدعم اللوجستي وحتى التسليحي في قطع الغيار والذخائر وغيرها؟؟...وأنه كان قومياً.. و"مزدوجاً" وقادراً على تركيب توليفة متناقضة وتسويقها بطريقة لا يدري كثير أكانت عن قناعة لديه، أم خلاصة خبث وعمل مرتّب..

بالوقت نفسه .. كثير من هؤلاء يقرّون بأن الأسد كان مهتماً بوضع"طائفته" منذ البداية والعمل على تحقيق مصالحها، واعياً لأهمية تكتيلها وتجميعها حوله، والاستقواء بها استناداً رئيساً، وهناك، من هؤلاء، وبينهم من كان مسؤولا ما برتب كبيرة، يتهمه بفعل طائفي مباشر وصل الموضعة الفاقعة، والعلنية الفجّة، والانحياز الصارخ، وهناك، أيضاَ، من نسب إليه، مذ كان شاباً، اقوالاً وتصريحات مشبعة بردّ الفعل الطائفي على ما يدعى ب"المظلومية"، والاستغلال المركّب،وما تركه ذلك داخله من جروح وعقد تصل الحقد العميم، وأنه سينهي ذلك في قادم الأيام/عندما يصبح حاكماً، أو مسؤولاً/، وقد فعل المزيد والمزيد ..وهناك شبه إجماع على ذلك البعد، بل الخندق الطائفي الكبير والعميق داخله ووريثه، وعديد الذين تولوا مسؤوليات من الطائفة، والوقائع تفقأ عيون الحقائق يومياً..

*******

وكي لا نبقى محصورين بالأسد وعائلته، وعصاباته.. فالسؤال يتسع ليشمل جميع المنتمين لأحزاب وتشكيلات سياسية، على اختلاف تنوعها : قومية، وإسلامية، ويسارية، وديمقراطية وليبرالية وفوق ليبرالية، بل والنخب أيضاً : اين موقع الانتماء العام، الوطني، الإسلامي، القومي، اليساري من ذلك الخاص : الديني. المذهبي. الإثني. العشائري. الجهوي. الحاراتي.....وهنا لا يمكن أن نقصد عامة الناس، ولا القواعد المنتمية لتلك التشكيلات التي من الطبيعي أن تعيش وتمارس اختلاطات مختلفة، وأن يركب الجهل والتخلف على تلك القشرة الرقيقة من الخيارات.. وإنما الإطارات والقيادات بالتحديد...

ـ ربما يكون عادياً، ومفهوماً، مثلاً، انحياز الإسلامي للدين الإسلامي، واعتباره له كونياَ، وشاملاً، وكلياَ، وأولاً وآخراً.. لكن السؤال هنا يتفرّع لأسئلة واقعية كثيرة :

ـ اي إسلام هو المقصود؟؟..السني العام؟، الوسطي؟، المتشدد؟؟ ووفق اي مذهب ومدرسة؟..

وهل حلال، مثلاً، ممارسة إسلام سني وصولاً إلى التحزّب المشرّعن، وحرام إسلام غيره حتى لو كان ذاك السني اقلوياً في بلد ما، والآخر أكثري ؟..

هل يتفوق الجانب الديني ـ المذهبي على الوطني ـ في الحالات التي يكون هو الشكل الظاهر للصراع، والخلاف؟، وعلى فرض أن اعتداء قامت به الباكستان ـ أو نظاماً إسلامياً "خالصاً " على دولة عربية تنهج سياسة غير إسلامية : قومية، أو علمانية، أو يسارية.. ترى أين وكيف يكون موقف الإسلامي من ذلك؟، وبما هو أبعد من الكلام العام، والفقهي..المطلي بالزبدة والزبَد ؟؟....

ـ نعم، الوضع يبدو أكثر حدّة، وتناقضية لدى المنتمين لأحزاب قومية وعلمانية ويسارية، خاصة فيما لو كانوا من "أبناء" الأقليات الإسلامية، أو الإثنية، حيث من المفروض، بداهة، أن يكونوا رافضين، كما يطرحون ويخطبون، ويصرخون، لذلك البعبع القائم في أعماق المجاهيل، والذي يعتبرونه، هم قبل غيرهم، أنه عنوان التخلف، والفرقة، والما قبل وطني، وانهم ضده، وقد تجاوزوه.. من زمان ..وبصراحة : هل تتغلب افكار انتماء الكردي الفكرية ـ السياسية على كرديته؟، وغيره من إثنيات؟.

ـ وحين نأتي إلى مفرداتنا الحارّة : إلى أي مدى تخلصت الإطارات، والقيادات، والنخب المحسوبة على الخط القومي، واليساري، والعلماني، والتي تعمل اليوم في المعارضة، من أقلويتها متعددة الوجوه؟، بل وأين يقع التزامها المعلن من تلك المؤثرات الداخلية فيها؟؟.. وهل يتصادمان حين يكون التصادم واجباً وطنياً؟، ام أنهما يتعايشان في توليفة غرائبية؟، أم أن هناك حالة من الازدواجية الفاضحة لمجموعة شخوص في الواحد؟، ام ان كل الالتزام المعلن ليس أكثر من طلاء تقشّره الامتحانات البسيطة.. كاشفة جوهراً آخر ؟؟..

ـ وبواقع تجربتنا، وكنا في حزب قومي معروف أنه يملأ الدنيا شعارات عن الأمة الواحدة، والوحدة.. والبعض كان يرفض أية تمايزات قطرية، أو حقوق للأقليات القومية .. وحين قامت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبعيداً عن قصة البادئ، تلخبطت حسابات البعض ومواقفهم.. وحين كانت القوات الإيرانية تتوغل قدماً في الأرض العراقية ـ بعد احتلال المحمّرة ـ وتهدد بغداد بالسقوط.. كان أحدهم فرحاً حتى الأحلام، وهو يضع مذياعاً صغيراً عند رأسه.. أثناء نومه.. انتظاراً للخبر المفرح بدخول بغداد وسقوط النظام...العراقي.. البعثي...

ولو سألته، وقد تجادلنا مرات، في المبررات لقدّم لك كومة من الأسباب، وكلها تخصّ منسوب رأيه في النظام العراقي، وواجب التخلص منه.. حتى لو كان البديل احتلالاً إيرانياً، أوفارسياً، او من قبل آيات الله المعممين؟؟.. وبما يُظهره وكأنه مقتنع بهذه التوليفة الغرائبية.. والتي تخفي ـ بحدّة ـ ذلك القمقم المذهبي المتغول.

****

الآن.. وعلى مدار الثورة السورية.. والكثير يريد خلط التخوم، والأوراق، وأولهم نظام الطغمة الطائفي، والدفع المُخطط نحو حصار الثورة في خانة سنيّة، ثم تصويرها على أنها حالة مذهبية في مواجهة البقية، ووجود من يروّج لذلك من المحسوبين على الثورة بنيّة طيبة مصابة بردّ فعل ثقيل، او من خلال تعبئات متخلفة، وجاهلة بمخاطر هذه الأطروحات.. فقد وضعت الثورة معظم، بل جميع المنتمين لاتجاهات سياسية، وخاصة المحسوبين على القوى القومية واليسارية والديمقراطية أمام امتحان صلب، وعنيد، وأمام خيارات لا بلبلة، ولا عنعنة فيها، خاصة بالنسبة للمحسوبين على الطائفة العلوية والذين هم تحت المجهر منذ البداية، والذين توزعت مواقف المعارضين منهم بين أروقة شتى، خاصة أولئك الذين انضموا لخندق النظام وقد وجدوا ـ مبكرين ـ المسوغات التي راحوا يروجونها لتكون استنادهم، والتي كثرت، وترأكمت مع الأعوام، وتعقّد الوضاع، بينما يواجه الكثير من المعارضين أجواء ومناخات عامة مشحونة بالشك، والحذر، والتي تعبّر عن نفسها بطرق مختلفة حتى في مستويات مهمة من المعارضة، وبما يُدخل هذا الوضع حلبة دائرية مشبعة بضعف الثقة، وبحالات باطنية كثيراً ما تظهر عبر فرقعات وانفجارات مختلفة.

مقابل أجواء الشبهة والاتهام لجلّ مواقف المحسوبين على ابناء الأقليات، ومحاولة حصارهم في"زنقة" يرفضونها اصلاً، أو سجنهم في قفص كسّروا، او بعضهم، اسلاكه من وقت طويل، وكأنّ عليهم أن يقدّموا ـ كل يوم ـ وثائق حسن سلوك معارض، ومصداقية، وتحلل من طوائفهم، وربما : القيام بعمليات ردح وشتم.. وتبرئة..كما يحلو للبعض أن يفعل بخلفية مصابة بعاهات العقد ..وبما يخدم ـ كله ـ مشاريع التفتيت، والتشويه، والخَندقة .

*****

نعم هي معركة مصير مع نظام طغمة. قاتل ومجرم، ولا يمكن المساومة فيها على الأهداف الرئيس : التخلص منه منطلقاً لبناء نظام ديمقراطي تعددي..بكل مستلزمات تلك المعركة وواجباتها في جميع المحسوبين على الثورة. اما المعتقدات الخاصة : الدينية، والمذهبية، والإثنية وغيرها، فهي حقوق للبشر طبيعية، لكنها، وفي معركة من هذا المستوى لا يمكن أن تكون شريكة، أو عائقة، او بديلة .  

حين يكون الانتماء للثورة والوطن هو الأول، والأساس.. والمحرّك.. تبدو كل الجوانب الأخرى تفاصيلاً.. وحالة جزئية ..