أمر بني قينقاع

( نصيحة الرسول لهم وردهم عليه )

بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين ظهر من يهود بني قينقاع تمرد وتبرّم . 

وقد كان الإيقاعُ بهم فيما بين غزوة بدر وغزوة اُحد  وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق( بني قينقاع) ، ثم قال : يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهدِ الله إليكم ، قالوا : يامحمد ، إنك ترى أنا قومك؟! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة ، إنا والله لئن حاربناك لتعلمَن أنا نحن الناس. 

فنزلت هؤلاء الآيات فيهم : )قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ،قد كان لكم آية في فئتين التقتا - أي أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش  - فئةٌ تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء ،إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (

فكان بنو  قينقاع أولَ يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحاربوا المسلمين بين بدر وأحد . 

 سبب الحرب بينهم وبين المسلمين  

كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من المسلمين قدمت بجلَب لها ( بضاعة)، فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، وشدَّتِ اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع . 

عبد الله بن أبي بن سلول ينتصر لليهود

 فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد الله بن أبيِّ ابن سلول ، حين أمكن الله رسولَه منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن في مواليَّ ، وكانوا حلفاءَ الخزرج ،  فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد أحسن في موالي ، فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني ، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال : ويحك أرسلني ، قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ ، أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ، إني والله امرؤ أخشى الدوائر ؛ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك . 

وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة . 

المسلم الحق يتبرّأ من أعداء الله

لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحدَ بني عوف ، لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيٍّ ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى الله عز وجل ، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتولى اللهَ ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم . 

ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ،بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ،إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض- أي لعبد الله بن أبيٍّ وقوله : إني أخشى الدوائر- يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم.. ( ثم القصة إلى قوله تعالى ) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)  فتبرّأ عبادة بن الصامت منهم ومن حلفهم،وتولّى الله ورسوله والذين آمنوا، فمدحه الله تعالى وأمثاله من المؤمنين فقال:( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون(. 

أضاءة:

1-    ليس من راحة للمسلم إلا للتهيؤ لجولة أخرى ، فبعد معركة بدر كانت غزوة بني قينقاع، فلا راحة للمسلم إلا في الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، ولا ينال المرء الراحة الكبرى إلا حين يبذل ما يستطيع من جهد ثم يلتحق بركب الصالحين إلى رضوان ربه وجناته، هكذا علَّمنا المجاهد الأكبر صلواتُ الله تعالى وسلامُه عليه.

2-    الدعوة إلى دين الله تعالى في البيت والأسرة والحيِّ والأهل والغربة ، بين المسلمين ليؤبوا إلى ربهم ويلتزموا العمل الصالح ، وبين غير المسلمين فنحن مسؤولون عن ذلك ومأمورون بهذا لتقوم الحجة على من أبى وخالف أو يأوي الناس إلى نور الإسلام وساحته الرحيبة الطاهرة،فالمسلم داعية أينما حل وكيفما كان . وعلى هذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ بدر يمرُّ على معاهديه من يهود بني قينقاع – في سوقهم- يدعوهم إلى الإسلام ويرغّبهم فيه ويحذرهم مغبَّة مخالفته والبعد عنه ومحاربته دون ضغط ولا إكراه ، لكن بالبيان والحجة.

3-     العمل الاستباقي تحذير لمن تسول نفسه خيانة المسلمين ونقض العهد، وما اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع في سوقهم إلا تنبيهٌ لمن تسول له نفسُه الغدرَ بالمسلمين والإساءةَ إليهم ، فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول لهم "وما معركة بدر منكم ببعيد" ولعل هذا ينبهنا إلى القاعدة الذهبية ( قد أَعذَر من أنذَر).

4-    ويأتي مع التحذيرِ التذكيرُ بمعرفة يهودَ للحق وأنه صلى الله عليه وسلم نبيٌّ يعرفون في كتابهم صفاته ،وقد كانوا ينتظرونه ويهددون الأوس والخزرج به قائلين: " لئن خرج هذا النبيُّ واتبعناه لنقتلنّكم قتل عاد وإِرم" فما لهم تنكبوا الصراط وصمّوا الآذان وأعموا العيون وخالفوا الحق الذي كانوا يدّعون أنهم ينتظرونه ليحملوا رايته إلى الآفاق؟! إنَّ ما نراه منهم دليل على أنهم يقولون ما لا يفعلون.

5-    جواب اليهود عبّرَ عن نفوس جاحدة  لا ترى الحق إلا بمنظارهم وهذا دأب المستكبرين الذين تعاموا عن الصواب وكأنهم لم يسمعوا الدعوة المباركة إلى الإسلام واستنكفوا عنها ثم هددوا الداعية قائلين : أظننتنا مثل قريش ضعفاء يفرون من الجولة الآولى؟! نحن أولو بأس وقوة ، لتجدنَّ منا الشدة والبأس وقوّة العزيمة – إن حاربناك- نقطع الأيدي ونجز الرؤوس ، شتان ما بيننا وبينهم، وأين الثرى من الثريّا؟!

6-    فأمره الله تعالى رسولَه أن يرد عليهم الصاع صاعين ، فيرد تهديدهم بأشدَّ منه، ويذكرهم بمصارع قريش في بدر. هؤلاء حاربوا الله ورسوله وكفروا بدينه وظاهروا على المسلمين ، فمن فعل فعلتهم وسار على ضلالهم متنكباً سبيل الهداية ليكونَنَّ عاقبةُ أمرهم كمصير قريش، والعاقل اللبيب من يعقل هذا ويسلك للحق طريقه. والله تعالى ينصر الحق وأهله على الباطل وحشده، والنصر من عنده سبحانه ( وما النصر إلا من عند الله ،إن الله عزيز حكيم).

7-    وكان بنو قينقاع – من يهود- أول من نكث العهد مع المسلمين حين اعتدوا على أعراضهم – وهذا دأب الكفرة الفاجرين الذين لا يرعون عهداً ولا ذمة – فاعتدوا على عرض امرأة مسلمة جاءت تبيع عندهم وتشتري فنادتْ مستغيثة ، لقد أرادوها أن تكشف عن وجهها ، فالحجاب آية المسلمة وعنوان الطهر والعفاف،ودليلُ الإيمان والتقوى ولن ترى امرأة مسلمة شريفة تنزع حجابها وتقلد الكفرة الفاسقين. أبت أن تريهم وجهها فاحتالوا على كشف سوأتها فنادت : وا إسلاماه واشرفاه .

8-    المسلم الحرُّ يجيب النداء ويستعذب الموت في الذود عن شرف المرأة المسلمة والحفاظ على عفتها وكرامتها ، فما كان من مسلم يمر في سوق يهود إلا أن قتل المعتدي في عقر داره دون خوف ولا وجل ،وهو يعلم علم اليقين أنَّه في بحر من العداوة المتربصة بمن يساعد المرأة الحرة ، سلَّ سيفه وقتل اليهودي المتهتّك ، فتكاثروا عليه وقتلوه. نقضوا العهد فحل العقاب، وإنه لحساب عسير لا بد منه للمفسدين في الأرض.

9-    يحاصر المسلمون يهود بني قينقاع فتضيق نفوسهم ويُلقي الله تعالى الرعب في قلوبهم، فيطلبون الصلح فيجيبُهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليه على أن ينزلوا على حكمه يفعل بهم ما يشاء ، ونزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم ، أنساهم الهلع والخوف تهديدَهم للرسول وللمسلمين ، أنساهم تبجُّحَهم وعنجهيتهم ، أين التحدّي حين يحق الأمر وتنجلي الصورة؟! إن طلاب الدنيا وكلابَها جبناء خوّافون، يسقطون عند أول امتحان ويرضون بالدون والمذلّة.

10-                       قرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستأصل الورم في جسم الامة ليبقى صحيحاً معافى ، هم – بنو قينقاع- بين يديه الآن يفعل بهم ما يشاء ، ويتحرك النفاق ممثلاً بزعيم المنافقين ( ابن سلول) يتوسك لهم ، ولا أدري لماذا الحفاظ على الإجرام والمجرمين إلا أن يكون الطرفان – الكفر والنفاق- من طينة واحدة يجمعهما الكفرُ بالله والكرهُ للدعوة الطيبة الطاهرة،

11-                       وما أكثر النفاق في مجتمعات المسلمين يتزيَّون بزيهم ويدّعون ظاهراً أنهم منهم ، وتراهم ينكشفون عند أول حركة ،وتظهر سوءاتهم. (عبد الله بن سلول) يتدخل لإنقاذ يهودَ من الموت، وعذرُه واهٍ وضعيفٌ ضعفَ يهود ، يدّعي أنهم حلفاؤه يمنعون عنه الأحمر والأسود ، كان يكذب فكيف يمنع الضعيفُ غيرَه وهو يحتاج للمساعدة والعون؟! كيف منعوا عنه أعداءَه وهم من كانوا يؤججون العداوة بين الحيّين ( الأوس والخزرج) ويحرِّضون الأخ على أخيه ويدعمون كل طرف منهما بالسلاح ليبقى التناحر بينهما قائماً ويبقى اليهود أسياد الموقف؟! إنها الرغبة أن يبقى المثيل الفاسد قائماً. يعينه على الإيقاع بين الناس والسعيِ للإفساد والفرقة والتناحر. يظهر المتسترون في مثل هذه المواقف وتشير الأصابع إليهم تتهمهم وتفضح مواقفهم .

12-                       وفي هذه المواقف أيضاً يظهر معدِنُ المؤمن الذي يؤمن بالله وبرسوله ويوالي الحق ، والحقَّ ليس غير، هذا عبادة بن الصامت من سادة الخزرج يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم ويخلع نفسه من حلف بني قينقاع ويعلن ولاءه لله ورسوله ، فالحق أحقُّ أن يُتَّبع والباطلُ أحرى به أن ينهدم ويزول إلى الأبد ، يقول: "  أتولى اللهَ تعالى ورسولَه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم . " وهذا ما ينبغي أن يكون المسلمُ عليه . ويخلِّد التاريخُ موقفَ المؤمن وموقف المنافق، وشتان ما بين الموقفين ، يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ،بعضهم أولياء بعض ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم ،إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض- أي لعبد الله بن أبي وقوله : إني أخشى الدوائر- يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين .( 

13-                       ذهب ابن سلول في منافي النفاق وتلعّن الناسُ عليه ،وبرئوا منه كما برئ أسلافهم منه ، ووقف التاريخ مادحاً عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأجلّه وأعظّم موقفه وترضّى عنه ، وكيف لا يفعلون ذلك وقد مدحه القرآن الكريم بآية تُتلى إلى يوم القيامة (إنما وليكم اللهُ ورسولُه والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون(.