أهل إيران أن الذي في راوية ليس قبر السيدة زينب؟!
يميل الناس في كل مكان وزمان إلى الغيبيات، وإقامة المقامات والنصب وأحاديث الأساطير.
ويليق في المقام إيراد هذه الحكاية:
في بلدنا في فلسطين مقام اسمه الشيخ أمين.
من هو الشيخ أمين هذا؟.. وما دوره في التاريخ؟.. لا أحد يعرف، فهو بيت صغير من حجرة واحدة مقام على قبر رجل يعرفه الناس بمقام الشيخ أمين وسط القبور العادية في مقبرة البلدة.
ويبدو أنه كان رجلا صالحا وتقيا أو عالما فقيها، ولعله حاكم أو والٍ، ولهذا يعظمه الناس بدليل أنهم بنوا على قبره غرفة فصارت مزارا يتبركون به!..
كانت جدتي رحمها الله تذهب إلى هناك فتأخذني معها من باب (الأمن النفسي) أو (الوَنَس)، فأنا بالنهاية طفل لا حول لي ولا قوة ولكن لأن المكان موحش، فيظهر أنها رحمها الله كانت (تأنس) بوجودي مع أن المكان شبه مطروق كون المقبرة تتخللها طريق إلى المزارع والمراعي.
ولكن مرات كان يحدث العجب مما يلطخ مقام الرجل، وهو نداء الطبيعة كيف لطفل أن يتملص منه، فيصير الحال أن الجدة تجلس عند الرأس تدعو أو تتمتم بما تشاء، بينما حفيدها الطفل الصغير يتبول عند قدمي الرجل المدفون في قبره!..
وكان الأمر مدعاة لضحك وغضب وعتب دلال للصغير، ثم رفع للرأس إلى السماء واستغفار ربّ عفوّ كريم لينتهي مشهد الدعاء والتمتمة بالعودة إلى البيت وقد تحقق المراد!..
في كل زمان مال الناس لهذه الغيبيات، لأنها تنقلهم من صعوبة الإيمان بالغيب إلى تجسيدات على الأرض لهذا الغيب يسمونها البركة أو التيسير أو (وقعنة) الاقتراب من إلهٍ يؤمنون به لكنهم لا يعرفونه ولم يروه، ليساعد على ذلك طبيعة الرسالات الإلهية الأولى التي (دللت) البشر وسايرت عقولهم عبر (المعجزات)، فالله لم يكن ليطلب من آدم أن يبني لنفسه بيتا فهو لا يعرف البناء، ولذا بنى له ولحواء الكعبة على الأغلب، بل إنه أنزل لهما الثياب والفراش!..
ومثل هذا أو قريب ما ينبئ عنه القرآن الكريم من إنزال الموائد من السماء، أو منح الأنبياء الأوائل القدرة على إحياء الموتى (عيسى)
والنجاة من النار (إبراهيم) وشق البحر بعصا (موسى)، وغير ذلك كثير من تليين الحديد وتسخير الريح وجعل ملك لا ينبغي لأحد مثله (سليمان) ألخ.. ليتدرج الأمر من دعوة جماعات بشرية وأقوام إلى مدن ومجتمعات، حتى رسالة الختام موجهة للعالمين، ولكن من دون أن يغادر البشر مخاطر الزلل بالضلال وراء (قداسات) يخلقونها أو يبتدعونها لتقربهم إلى الله، فكان التحذير الإلهي دائما مما هو (من دون الله) باعتباره شركا لا يغتفر ولو غُفر كل شيء سواه، ليظل هذا هو السبب الرئيسي للضلال والكفر والحيد عن الصراط المستقيم المطلوب بعبادة الله وحده، ولتظل الأساطير (أسطورة من سطّر أي كتب الكتب أو سطرها) هي المجانح التي يقع فيها الناس، وليظل (الهوى) بتعظيم الشخوص والأماكن دونما مبرر تعبدي سليم، فتنشأ الأفكار والمذاهب الخاصة بعيدا عن الدين القويم.
من هذا تجد التحريفات التاريخية المتدثرة بالغطاء الديني التعبدي الموهوم تصبح من المسلمات، ومن ذلك مثلا وجود سيرة لذي القرنين لدى جميع جميع الأمم، وكذا وجود (مقام) للخضر، رسول الله إلى النبي موسى عليهما السلام في كل بلد، لتضحك إن أخبرتك أن للخضر هذا مقاما في جزيرة فيلكا الكويتية ليكون السؤال مستَحقا عن سبب مجيء الخضر إلى الجزيرة النائية عن أرض الشام حيث موسى، لتزول دهشتك عندما تعلم أن للخضر عشرات المقامات في عشرات الأماكن!..
ومن ذلك أسطورة الرحلة العجيبة، لرأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفغانستان!..
ولماذا يتعين أن يذهب رأس الحسين إلى الشام؟
ألن يوقن يزيد من قتله إلا عندما يوضع رأسه بين يديه؟.
وهل يزيد أصلا الذي أمر بقتل الحسين؟.
نعم إنه يزيد مسؤول سياسيا وأخلاقيا عن المذبحة باعتباره زعيم الدولة التي قتل رجالها سبط النبي، وفوق هذا فهو لم يعاقب القتلة ما يكون سببا إضافيا لإدانته.. ولكن هل أمر يزيد بقتل الحسين؟.
إن المدة التي شهدتها المعركة لا تكفي لوصول أمر من الشام حيث مقر (أمير المؤمنين) وليس هناك أمر بحمل رأس الحسين إلى الشام، وليس من طبع أو مسلك العرب جز الرؤوس ثم حملها إلى الولاة، فهذه قصة خيال أراد اصطناع البكائية التي نرى ما يقام في شأنها من خصوصيات فئوية، بشعارات الثأر والانتقام ليكون أمر انقضى ولا علاقة لكل الحاضرين به مدعاة للتسييس والاستنساب السياسي بينما الحقيقة أن الحسين دفن حيث قتل، تماما كما كان وظل يحدث على مر التاريخ، لكن الميل البشري للأساطير والملاحم يخلق هذه القصة الميتافيزيقية، لأنها تمثل نبعا إروائيا لتمذهب خاص، له رؤيته الخاصة، فتكون الأسطورة دعامة أساسية يقوم عليها التمذهب لا أكثر.
أنتقل الآن إلى أسطورة واقعية حديثة لنطبقها على قصة المقام المعروف اليوم بمقام أو ضريح السيدة زينب في دمشق، والذي صار عنوانا للتدخل الإيراني ضد الشعب السوري، وبغطاء طائفي تمذهبي مطلق ولتكون (السيدة زينب) ليس المقام (المقدس) فقط بل واسم كتائب وفرق لـ (مؤمنين) بها يدافعون عنها وبشعار: (حتى لا تُسبى زينب مرتين)!
في عام 1948، عام نكبة فلسطين كان هناك فلاح من بيئة محافظة ريفية يعمل في (حاضرة) حيفا الساحلية.
وفي حيفا حيث المدنية والكهرباء ومجتمع من غير العشائر والقبائل توجد نسبة انفتاح تسمح بقيام علاقة حب بين شاب وفتاة الأمر المستحيل في الريف.
وما حدث أن أحد شباب بلدتنا آنذاك وقع في غرام فتاة من حيفا!
فلما وقعت النكبة تقطعت بها السبل إذ غادر أهلها إلى سورية أو لبنان وبقيت وحيدة لتتذكر (حبيب القلب) في قريته فتلحق به وتسأل عنه فيدلها الناس على بيته فلما ذهبت إليه وعرف أهله بالحكاية طردوها!
فمن الذي يزوج ابنه في ذلك الزمان من عاشقة تلحقه من بلدها إلى بلده؟
أما (دون جوان عصره) فأدار لها ظهره وتخلى عنها كي لا يقول الناس بأنه زوج (عاشقة) سلمته نفسها قبل الزواج فتصبح سيرته على كل لسان، ليشفق عليها أحد المقتدرين فيمنحها بيتا صغيرا على هامش بيته لتعيش فيه متجرعة نكبتها!
صار اسم الفتاة (عَليّة)، والمؤكد أنه التحريف الريفي لاسم علياء أو عالية.. وهي بحالها الذي فُرض عليها تنسكت واعتكفت، فلا أحد يمكن أن يتزوج من فتاة معروف أنها عشقت غيره وتخلى عنها!..
ولهذا ومع الوقت وهي المتعلمة صارت قارئة للقرآن ومقيمة للصلاة كل الوقت لتصبح (مبروكة) تلجأ إليها النساء لعلاج أطفالهن بالقرآن، وبالرقية الشرعية، ولطرد الجن، وإزالة النحس، وما شابه من مسالك المجتمعات البدائية.
ثم كبرت وشابت وعرفت بكثرة الحج والعمرة والملابس البيضاء والسبحة الطويلة، وصار اسمها (الست علية).
ولو ذهب الآن أحد إلى طهران وأخبرهم قصتها لسعوا لبناء حسينية عظمى على ضريحها وستكون من (أهل البيت)، ومنطلقا لبدء مسيرة تشيّع في فلسطين يلحق بها حزب باسم حزب الله ثم اتهام المجتمع هناك بالطائفية!..
مثل هذا الأمر بالضبط هو ما حصل مع ما يسمى (مقام السيدة زينب) في الشام، فهذا وحسب ما تداولت فيه مع رئيس اتحاد المؤرخين العرب الدكتور سهيل زكار ليس قبر السيدة زينب بل قبر سيدة صالحة من أهل المنطقة تشبه هذه الفتاة القادمة من حيفا إلى الريف في فلسطين، اعتكفت وصارت قارئة للقرأن واشتهرت وعرفت باسم (الست زينب) كما لهجة أهل الشام، ثم جرى بالتقادم تحوير الاسم والحكاية لما هو أعظم من سيدة تقية ورعة إلى فضاء الانتساب لبيت النبوة فانتبهت إيران في العهد الخميني وفي ظل تحالف وثيق مع نظام حافظ الأسد نشأ في حقبة الحرب الإيرانية العراقية إلى الضريح فجرى الاهتمام به لارتداداته المتصلة بكربلاء، لأن زينب كان لها دور في تأنيب أهل الكوفة وكانت زعيمة المصابات بالمأساة وظلت صابرة ثابتة، فيكون تعظيمها متصلا بالأسطورة التي يراد لها أن تظل حاضرة، مع أن الموت والشهادة لم يكن يمثل شيئا لافتا للمسلمين الأوائل وخصوصا أقارب وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
ودعك من الاهتمام بأضرحة أو قبور هؤلاء فهي كانت تقام بشكل بدائي مارسه النبي بالدفن في قبر بالكاد تظهر معالمه ومن دون زيارة أو طقوس للزيارة، فما نعرفه أن الحسن والحسين لم يزورا قبر والدهما علي بن أبي طالب طوال 20 سنة من مكثهما مجتمعين أو بعد تركهما الكوفة إلى المدينة المنورة، ليكون التعظيم الذي جرى لضريح زينب جزء من الحصة المتصلة ببكائية كربلاء سياسيا، ومما نراه دما مهدرا في سورية، وضد تطلعات وحقوق شعبها الذي لا يريد نظاما فتريد إيران فرضه بالقوة الغاشمة لأسباب مذهبية بحتة.
ويضاف لهذا أن قصة بقاء زينب في دمشق محل شك وأخذ ورد تاريخيا، فيزيد خيّر (أهل بيت علي والحسين والحسن) بين البقاء في الشام أو العودة إلى مدينة رسول الله وهذا ما اختاروه بالنهاية.
وقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاة السيدة زينب، والمرجح أنها توفيت سنة 62هـ مع أقوال بوفاتها سنة 65هـ وباتفاق أنه يوم 15 رجب.
وتباينت أقوال المؤرخين حول مكان دفنها في المدينة أو دمشق أو القاهرة، ويرجح بعضهم أن زينب التي في القاهرة هي زينب بنت يحيى المتوج بن الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بحسب دراسة الباحث في التاريخ فتحي حافظ الحديدي وعضو في اتحاد الكتاب عدد الأهرام 10/1/2007 .
وينسب للنسابة العبيدلي في كتاب (السيدة زينب) أنها بعد عودتها من دمشق إلى المدينة أخذت تحرض على حكم يزيد فأمر واليه عمرو بن سعد الأشدق أن يفرّق بينها وبين الناس بإخراجها من المدينة فأبت وقالت لا أخرج وإن أهرقت دماؤنا فقالت لها زينب بنت عقيل يا ابنة عمّاه قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء فطيبي نفسا وقرّي عينا وسيجزي الله الظالمين أتريدين بعد هذا هوانا ارحلي إلى بلد آمن، ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطّفن معها فاختارت مصر وخرج معها من نساء بني هاشم فاطمة ابنة الحسين وسكينة فدخلت مصر لأيام بقيت من ذي الحجة فاستقبلها الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري وأنزلها داره بالحمراء فأقامت به أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما وتوفيت عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوما مضت من رجب سنة 62 هـ ودفنت في دار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري بالقاهرة.
وتشير روايات أخرى إلى أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحل من المدينة وانتقل مع زينب إلى ضيعة له قرب دمشق في قرية اسمها راوية وقد توفيت زينب فيها ودفنت في المكان المعروف باسمها من ضواحي دمشق.
الذي لفتني يومها وخلال الحديث مع الدكتور سهيل زكار وهو صديق مقرب لحافظ الأسد وابنه بشار هو اعتباره أن التشكيك بمكان قبر زينب سيستفز النظام لسببين: الأول سياسي (كانت دمشق مستقرة يومها ضمن محور طهران) حيث تتلقى سورية من إيران ثلاث مليارات دولار لن تستطيع السعودية أو غيرها دفعها سنويا فضلا عن أن النظام يحبذ التحالف مع طهران بالنظر لتغلغل شديد للإيرانيين لا يقدر على الفكاك منه، أما السبب الثاني فهو أن قبر زينب يعد أحد الروابط المهمة مع نظام الملالي، وهو يدر على الخزينة أموالا كثيرة من هذه السياحة الدينية.
ثم ختم حديثه بالضحك قائلا: لو قلنا لأهل الحي بأتن هذا ليس قبر زينب فسيطلقون علينا الرصاص فقد قلب القبر حياتهم من الفقر إلى الغنى!
وسوم: العدد 663