خلوة بالنفس..وعالم فريد

خديجة وليد قاسم (إكليل الغار)

في طفولتي..كانت تستهويني أحاديث أبي الأدبية.. الشعر الذي يتلوه على مسامعنا، المقامات التي كانت ترسم بسمتنا، القصص التي كنا نرجوه إسماعنا إياها بالعامية، ويصر على أن تكون بالفصحى..أو لاتكون

كنت أنتفش كطاووس مختال حين أسمع دفاعه عن المرأة وحقوقها.. ولربما ارتسمت على ثغري بسمة فيها شيء من غرور وفخر نفس تقول.. هذا أبي..

أما أحاديثه السياسية.. فكانت العالم الذي يجذبني ويشدّني إليه.. خاصة في الزيارات العائلية حين تنزوي النساء في ركن خاص بهن يتناولن أحاديثهن الخاصة.. وياخذ الرجال ركنا يحولونه إلى صالون سياسي.. كنت أتسلل من ركن النساء إلى صالونهم لأشبع نهمي لمثل هذه الأحاديث...

انعكس ذلك على وعيي ، قراءاتي، كتبي ... تفاعلي مع الأحداث المحيطة بي... 

إلى أن جاء الربيع العربي الذي كان يلوح كهلال في يوم عيد.. 

لم يكن ربيعنا المرجو.. لم يكن عيدنا الذي انتظرناه منذ صرختنا الأولى في هذه الحياة...

لم يكتف بتمزيق أوطاننا وتقسيم قلوبنا وإلقائها أشلاء مبعثرة في دروب أطماعهم

بل وبحنكة غريبة.. فرّق الصديق عن صديقه.. الأخ عن أخيه... الابن عن أبيه ...

أصبحت قاعدة إن لم تكن معي فأنت ضدي هي التي تسوس العقول وتتحكم في التصرفات

أصبح رأي، إن لم تكن مع فلان (المخلص ومنقذ الأمة) فأنت مع فلان (السفاح المجرم )

لم يعد مسموحا لك في نظرهم أن تكون في طرف ثالث.. طرف يقف على ربوة بعيدة يشرف على الحدث ويرى فصول مسرحيته العابثة الظالمة بمؤلفها ومخرجها وممثليها ..

لم يعد لك الحق أن تكون لك ثوابت ومبادئ راسخة رسوخ الجبال، هي الميزان الذي تقاس عليه أعمال تلك الأطراف...ليس من حقك أن تكون القداسة لديك لتلك القيم والثوابت، أصبح لزاما عليك أن تقدس فلانا، وتبجل فلانا وترفع إلى هامات السحاب فلانا، إن أخطأ هذا الفلان، فخطأه تكتيك وسياسة مسموحة له ممنوعة على غيره، إن قال فلان، يصبح قوله آية يجب أن تحفظ في الصدور والقلوب ..يجب أن تلتهب الأكف تصفيقا له حتى وإن جاء فعله مغايرا لقوله.. لا يهم... 

يبدو أننا أصبحنا أمة أقوال لا أفعال.. بلغت بنا السذاجة حدا أن سلّمنا عقولنا لغيرنا.. منحناهم إياها ليتصرفوا فيها كما يشاؤون ويرغبون.. 

تعال انظر يا أبت كم باتت ابنتك تكره السياسة التي عشقتها لأجلك ولأجل حلم بغد أفضل..أصبحت تنفر من كل شيء يتعلق بها.. من كل ربابتنها وقادتها و... ممثليها .. من كل مسرحياتها وفصولها الكاذبة المخادعة ..

أصبحت تتجنب قدر استطاعتها أي حوار أو جدال أونقاش.. لأن العقم عنوان لهذه النقاشات السخيفة

كل يصرخ من نافذة بيته.. والكل أطرش، أعمى، فاقد البوصلة والهوية ...

كم أتمنى اعتزال هذا العالم المجنون الأهوج..

كوخ صغير، نهر يجري كطفل لم يعرف بعد صعوبة الحياة وآلامها، شجر وزهر، فراشات وطير، نجوم وقمر .. جبل شامخ وبحر ...هذا كل ما أريد

خلوة بالنفس... وعالم نقي فريد

وسوم: العدد 666