النشوء الجديد للعالمين الأوروبي والعربي

د. حسن المغربي

26/5/2014

هناك من لديه بعض الشك بخصوص نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي تمت في 25/5/2014 والتي تعني بداية تغيير عميق غير متوقع لم يكن التنبؤ به ممكنا في الأوساط الأوربية قبل عدة سنوات مضت. أعتقد بأن التشخيص واضح جدا رغم وجود أصوات عديدة ـ داخل المنظومة الأوروبية ـ ستنكر هذه التغيرات التي تحدث، أو ستقلل من شأنها وتأثيرها بالقول بأنها حصيلة غضب الشعوب جرّاء الأزمة الاقتصادية الراهنة.

من وجهة نظري، أعتقد بأن التغيرات أعمق بكثير. فقد وُلِد أنموذج الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية  مستندا على التعافي الاقتصادي في أوروبا بعد عام 1945 ليشيّد ويؤسس للرفاهية الاجتماعية في الدولة التي جعلت من أوروبا  المنطقة الأكثر تقدما في العالم  بدرجة ما. هذه التغيرات لن تحدث غدا، فهي تحتاج إلى مزيد من الوقت لتؤتي أكلها. لقد غزا النظام الرأسمالي الجامح أوروبا، وهو السبب الرئيس في الأزمة الحالية والمعاناة الكبرى التي بدأت منذ ثمانين سنة على الأقل, حيث يشعر الناس " الشعب" ـ الآن ـ بأن القادة السياسين في أوربا لا يكترثون بشأن الكثافة السكانية، ويفكرون فقط "بالأسواق". إن من يدفع فاتورة الأزمة ـ في الحقيقة ـ هي الفئات العاملة والمتوسطة التي لاعلاقة لها بصناعة الأزمة، إلا أنهم هم الضحايا، وهم السبب ـ أيضا ـ في النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية الأوروبية.

هناك اثنتان من القوى السياسية قد هيمنتا على المشهد الأوربي منذ عام 1945، هما الديمقراطيين الاشتراكيين والقوى الشعبية، حيث كانتا على رأس القوى التي حازت على نسبة كبيرة من الأصوات. إلا أنهما فقدتا الملايين من الأصوات التي انتقلت للمجموعات الجديدة قبيل الانتخابات، والتي تم تمثيلها بحد أدنى، أو لم تُمثّل على الإطلاق في البرلمان الأوربي الجديد. مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم هذه الأحزاب الناشئة ترفض فكرة "الاتحاد الأوروبي" وقد تباهت بالنتيجة التي حققتها، حيث استحوذت على مليون صوت، استطاعوا إقناع أصحابها بأن القرارات التي يتم اتخاذها وتؤثر في حياتهم تصدر عن قوى غير منتخبة بالإضافة إلى أنها غير معروفة وبعيدة عنهم. وقد وضعت زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبان، الأمور في نصابها حين صرحت عقب إعلان النتيجة بأن "الشعب الفرنسي قال بوضوح أنه لايريد أن يُحكم من الخارج".

لقد أحرزت القوى القومية والشعبية المناوئة للاتحاد الأوروبي نتائج  جيدة في بلدان عديدة، كالنمسا وهولندا وفنلندا والدنمارك وإيطاليا وجمهورية التشيك، إلا أن بؤرة الاهتمام بهذه النتائج تجلت في فرنسا والمملكة المتحدة باعتبارهما بلدين مركزيين. ففي فرنسا، كانت الجبهة الوطنية هي الفائزة، وهي القوة السياسية التي أحرزت النسبة الأعلى من الأصوات، وهُزِم الاشتراكيون والمحافظون التقليديون. وبرزت السيدة لوبان كزعيمة قومية تحاول تشكيل قيادة وجماعة سياسية جديدة داخل البرلمان الأوروبي، حيث نظمت لقاءًا بين قوى مماثلة من بلدان مختلفة؛ من أجل البدء بعملية التغيير الداخلي "إذا لم يتم التفكيك التدريجي" للإتحاد الأوربي كمانعرفه اليوم من الداخل.

أما في بريطانيا، فقد كان حزب الاستقلال البريطاني هو الرابح في انتخابات المملكة المتحدة. وهذا يعني بأن لندن ستقوم بدعم وتعزيز المنهج والأسلوب التقليدي المناوئ لبروكسل. لقد تكلم الشعب وكانت الرسالة في غاية الوضوح، تلك الرسالة التي وصلت إلى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قبل إعلان النتيجة.

قطعا، لن تبقى الأمور كما هي بعد هذه الانتخابات. لذا يمكنني القول بأننا سنكون قادرين على القيام بإجراء سريع وعميق بشأن التغيرات التي ستحدث في الأشهر و السنوات القادمة. ستتطلب العملية وقتا طويلا، فنحن لسنا أمام فورة ثورية أو انفجار ثوري يمكن احتواءه، بل نحن أمام تطور كبير يمكن أن يغير وجه الاتحاد الأوروبي، وبإمكان العديد من المحللين والمراقبين تخيل ملامح المرحلة القادمة.

ماذا ستكون ردة فعل الأحزاب في السلطة؟

لدى هذه الأحزاب خياران رئيسان: إما استيعاب وفهم الرسالة وتغيير السياسات التي تم تطبيقها خلال السنوات الماضية من أجل جذب واستعادة جمهورهم من الناخبين، أو القيام بتغييرات ثانوية لا تغير شيئا حقيقيا في الواقع. من جهتي، فأنا أخمن بأنهم سيختارون الخيار الثاني لسوء الحظ. البعض منهم ـ بالفعل ـ يتكلم عن حكومة "إئتلاف كبير" في بروكسل" يجمع المحافظين والديمقراطيين الاشتراكيين في البعثة الأوروبية الجديدة، كما فعلت آنجيلا ميركل في ألمانيا مع الديمقراطيين الاشتراكيين من أجل مقاومة التهديدات، والحفاظ على الوضع الراهن كما هو. إذا هم قاموا بذلك، فإنه سيكون برهانا وإثباتا واضحا على ضعفهم. وفي النهاية، ستنفر ـ تماما ـ معظم الشعوب الأوروبية.

البرلمان الجديد والعالم العربي ..

ما تأثيرالخريطة السياسية في أوروبا على العالم العربي؟

من وجهة نظري، فإنها ستفتح المجال أمام القوى السياسية والمدنية العربية للاستفادة من التغيرات الجديدة الواقعة في أوروبا.

قد لا تكون قضية السياسات الخارجية من المواضيع المطروحة في حملات الانتخابات الأوربية. حيث لم نسمع بأن أحدا قد تحدث بشأن الحرب في سورية، أو الوضع في مصر أو ليبيا أو مالي. لقد كان التركيز على القضايا الداخلية والاقتصادية. لكن البرلمان الأوروبي الجديد سيكون لديه قوى سياسية جديدة، وأعضاء جدد من الأحزاب القومية والشعبية، ومن الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية اليسارية التي ترى فوز حزب "سيريزا" المتطرف في اليونان  أو فوز حزبي "نستطيع" و "اتحاد اليسار" الإسبانيين فوزا كبيرا.

لقد أقر الجميع  بأن دور الأحزاب اليسارية هو دور حيوي فيما يتعلق بالنضال ضد الديكتاتورية، والدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، والحريات السياسية إلى آخره. إلا أنه يجب علينا أن نضع في حساباتنا إمكانية الحوار لفهم واستيعاب تأثير هذه القوى الشعبية والقومية الناشئة التي لايمكن أن نهملها على الإطلاق. يُؤكد التاريخ وتجربتي المهنية الخاصة بوضوح أن ظهور هذه القوى الجديدة يمكن أن يفتح المجال لفرص جديدة في مجال الدفاع عن مصالح البلدان والحركات العربية .

لقد بات واضحا أن المجال أصبح مفتوحا أمام تغيير جديد في أوربا، كما حدث من ـ خلال وسائل أخرى ـ في العالم العربي، لا سيما بعد تشكيل البرلمان الأوروبي الجديد المنتخب، والبعثة الأوروبية الجديدة خلال الفترة القادمة. سيكون هناك  نشاط في بروكسل. وستبرز قوى مؤثرة جديدة، وأفكار جديدة في أوروبا، يمكن أن تقوم بتشكيل وإعادة هيكلة العلاقات المستقبلية بين العرب والعالم الإسلامي وأوربا من اليوم.

- الدكتور حسن المغربي. خبير في الشؤون الأوربية والعربية. مستشار لدى مركز أمية للبحوث والدراسات الإستراتيجية.