مبعدي حصار كنيسة المهد

قرار صدر على الطاولة المستديرة في المبنى المحطم

ليلة الأول من نيسان لعام 2002م، كان لها وقع خاص، تدرج الليل بسواده على وجه الأرض، لبست معطفي الأسود، سولت لي نفسي بأن خطباً ما سوف يحصل، ودّعت زوجتي وأطفالي، وقبّلت يدين أمي، وتمتمت لها بصوت منخفض: أدعو لي يا أمي، وذهبت أرى وجه أبي النائم، وبصمت قاتل في نفسي تحدثت: رضاك يا أبي، فسلاماً على روحك، خرجت بسيارتي متأملاً معالم حارتي، كأني لن أرجع لرؤيتها مرة أخرى، فمشت سيارتي وأنا دامع العينين، أنظر في الطرقات هنا وهناك، وصلت المقر، وانضممت إلى زملائي الفدائيين.

قررت أنا وزملائي الذهاب في جولة لتفقد أطراف المدينة، وفوجئنا جميعاً بما رأت أعيننا، دُقت الهواتف لإخبار الجميع بالأخبار السيئة، لكن جميعهم نطقوا بنفس الكلام: جميع المداخل مليئة بالدبابات والمدرعات العسكرية، تراجعوا لأخذ أماكنكم والدفاع عن المدينة.

كانت المعركة حامية الوطيس، رصاصات ملأت المكان، ضربات تصيب وأخرى تخيب، شهداء وجرحى، بدأت الذخيرة تنفذ، تم أمرنا بوقف فوهات البنادق قليلاً عن ضرب الرصاص لأخذ القرارات، لكن لم يكن أمامنا سوى التراجع شيئا فشيئاً، وبعد منتصف الليل واستمرار المواجهات، دخل التاريخ يومه الجديد الثاني من نيسان/أبريل 2002م، وهنا أصل الحكاية.

استمر العراك بالرصاصات، والحصار للمدينة بدأ جديّ لا لهو فيه، والتف حولها طوق كبير يضيق الخناق عليها، كانت أعياد الفصح المجيد للتو انتهت، الذي كان بمثابة فسحة مرح لنصف أهل المدينة والسائحين الأجانب في ظل الإنتفاضة.

بدأت علامات المؤامرة تظهر أكثر مع انقشاع الليل وبزوغ شمس الشروق، فأكملت طريقي أنا وزملائي بخطى طريق النضال برصاصاتنا القليلة، وأبينا الاستسلام، وبعد معارك عنيفة دارت بيننا وبين العدو، بقيت دبابات العدو تطاردنا بشكل مستمرة من كل اتجاه، لكن الأسوء من هذا الأمر هو نفاذ الذخيرة من بين أيدينا، ولم يتبقى أمامي وأمام من كان معي سوى اللجوء في مكان نحتمي به، كل الشواهد أشارت إلى عقولنا باللجوء إلى كنيسة المهد، ركضنا نحوها مسرعين، أطلقت رصاصتين على باب الكنيسة بسبب عدم وجود وقت بطلب الاستئذان بالدخول لتسارع الأحداث، دخلنا الباب الصغير واحداً تلو الأخر، وأغلق الباب ورائنا، لترى عيوننا 237 فلسطينياً تجمعوا في بؤرة واحدة، فدائيون ورهبان مسيحيين ومدنيون وأطفال، مسلمون ومسيحيون وضعنا في كفة واحدة كما وضع الهلال مقابل الصليب، للآن ... لن أعرف، لماذا أرجلنا سبقتنا إلى هناك؟ مع أن المسجد مقابلاً للكنيسة في خط واحد، وكان نُصب المسجد أقرب لنا من الكنيسة!

بدأت الحكاية تأخذ منحنى أخر بعد اللجوء داخل الكنيسة، وكان للحكاية رونق أخر مغمس بالذكريات الأليمة، لقد كان الحصار ذو معالم شرسة، اعتداء من أشرس الاعتداءات الإسرائيلية على المدينة، دبابات ومدرعات عسكرية وجيش مشاة، جابوا المكان وتفحصوه، وأعلنت حالة التأهب ومنع التجول داخل المدينة إلى إشعار أخر، بدا الأمر خيالياً لنا لما رأيناه من فوهات الكنيسة، كأنهم يحضِرون أنفسهم لتصوير فيلم حربيّ.

جاءت لنا الأخبار عبر الهاتف بخروج العدو على شاشات التلفاز، لتبرير الحصار الذي وجد في وسط مدينة السلام "بيت لحم"، فالذي وصلنا: أنهم نعتونا بإرهابيين وأنهم يوردون القبض علينا، لأننا مخربين على حد قولهم، ولم يكتفوا بذلك، لقد رّوجوا لسمعة مشينة حولنا، وقالوا: بأننا نحن الإرهابيون قمنا باختطاف الرهبان داخل الكنيسة كرهائن.

ضحك الجميع، وقلت: تلك الدعايات ما هي إلا ليتعاطف المجتمع الدولي معهم ويسلموننا لهم، يضعون الدعايات الكاذبة، لوضع الشك والبلبلة في نفوس أصحاب القرارات العليا.

وقف الإعلام الفلسطيني على أرجله لمساندتنا وظل على تواصل معنا لتغطية ما يحدث داخل الكنيسة، والرد على تبريرات العدو، وجعلنا عدداً من الرهبان من داخل الكنيسة يكلمون الإعلام، فقال أحد الرهبان: نحن ليس رهائن لأحد، إنما نحن رهائن السلام والدفاع عن أرواح البشر.

فسحقت دعايات الصهاينة وكشفت ألاعيبهم.

مضى أول يوم من الحصار بفوضى عارمة، والتفتت أنظار العالم لكنيسة المهد، وبدأت الصحافة العربية والغربية تصور المكان وتنقل الأخبار إلى العالم، وباءت محاولاتهم بالدخول إلى الكنيسة بالفشل، قذائف ورشاشات نصبت على الأسطح المجاورة للكنيسة، وتمركزت القناصات في مواقع إستراتيجية لمراقبة كل حركة ترى من الكنيسة، وتحدث العدو بكل ثقة عن إنهاء الحصار خلال يومين، فوضع رهناً علينا، وأننا سنخرج مستسلمين، لكن... كان رهانهم خاسر منذ بدايته، فهم لا يعرفون جيداً أطباع المدافعين عن أرضهم.

أطل اليوم الثاني من الحصار علينا بصورة جديدة، كان للصباح كلام أخر، أطفال نيام على الأرض، وجزء منا يجلسون بحلقات دائرية يتحاورون بما يجري، وبعضنا الأخر واقفاً يتلصص النظر من فوهات جدران الكنيسة الصغيرة لمراقبة الأحداث، وأنا كُلفت بمهمة نقل الأخبار من داخل الكنيسة، واستقبال الأخبار الخارجية لأخبر بها أصدقائي، وفي ساعات الظهر، تم محاولة اقتحام الكنيسة، لكن باءت بالفشل، لكن مساءً حصلت بعض المناورات بالرصاص فانتهت الليلة بكارثة، أول شهيد للحصار سقط داخل الكنيسة ألا وهو قارع الأجراس.

بعد مرور ثلاثة أيام، لن نستسلم بعد، الحرب النفسية بدأت للتو، أخبرنا المراقبين للأحداث حول الكنيسة، أنها وضعت الأسلاك الشائكة حول الكنيسة كطوق حصار أخر، وبدأت النداءات تقول لنا أخرجوا، لكن لم نستجيب لهم، ولوقاحة الإسرائيليون جاءوا ببعض أمهاتنا لكي نستسلم، لكن لن يفلحوا حتى بذلك التهديد، وفي اليوم الرابع، ضيق الخناق علينا فقطعت الماء والكهرباء والدواء وأي وسيلة غذائية بالدخول لنا.

وفي اليوم الخامس في ساعات الفجر الباكر، تكررت محاولة الاقتحام، كادت أن تنجح وأن يدخلوا الكنيسة، وهيأ عقلي لي مذبحة الحرم الإبراهيمي، كنت على يقين بأن التاريخ سيكرر المذبحة، لكن هذه المرة ستكون في كنيسة وليس في مسجد، لكن الحمد لله، في أخر رمق فشلت محاولة الاقتحام، لكن عوضوها، فقاموا بإطلاق الرصاص والقنابل الحارقة، مما أدى إلى اندلاع النيران في إحدى غرف الكنيسة، كما استشهد في اليوم ذاته أحد أفرد الشرطة من المحاصرين بطلق ناري في وجهه، نزف أمام عيوننا حتى الموت، فكان هو الشهيد الثاني للحصار،  فصنع له بعض الرجال تابوت خشبي، ووضع فيه وترك في إحدى زوايا الكنيسة الباردة.

في اليوم السابع، اتصل البابا الكبير بأحد الرهبان، رفعت معنوياتنا، ودعانا بالصمود وعدم الخوف، وفي اليوم الحادي عشر وصلت الأخبار عبر الهاتف عن وصول وزير الخارجية الأمريكية إلى البلاد، وفي تلك اللحظات رفعت المناطيد للمراقبة وإطلاق النار على من يتحرك حركة واحدة، وبعد سبعة عشر يوماً من الحصار، قيل لنا بأن هناك وفد للمفاوضات قد وصل للتفاوض، فرحت كثيراً وقمت بنقل الخبر لإسعاد نفوس زملائي، لكن بعد فترة قصيرة، انتكست فرحتنا التي لم تتم، كان هناك حديث حول قائمة بأسماء المطلوبين المتواجدين داخل الكنيسة، وكان للإفصاح عن أسمائنا بالأمر الغير مقبول.

مضت أيام من الحصار، وكان لكل منا حكاية، نسرد حكاياتنا بالدور لتمضية الوقت، وأحياناً كنا نجتمع بصوت واحد نلحن الأغاني الوطنية بشكل جماعي لضياع وقت أخر، ولحظة نرى الصمت خيم المكان، فينزوي كل شخص منا بذكرياته الماضية، ويغلبه الحنين إلى عناق الحرية، والشوق إلى أهله.

اليوم الرابع والعشرين للحصار، تم إبلاغنا عن أولى الصفقات بين الطرفين، طلب الفلسطينيون إخراج شهيدين من الكنيسة، فقبل الإسرائيليون بشرط خروج تسعة صبية مع الشهيدين، تمت الصفقة بكامل بنودها، أخرجنا الشهيدين وتسع صبية، لكن الاحتلال أخل بصفقته بعد إتمامها، قام باعتقال عدد من الصبية للتحقيق معهم.

ركضت الأيام وشارفنا على الأسبوع الرابع من الحصار، شمس بعيدة المنال، شعور ممتلئ بالخوف والصمود، لا طعام ولا ماء ولا دواء، فأصبحنا نأكل الحشيش الأخضر بمذاقه المر الموجود في حديقة الكنيسة، ونعد من أوراق الشجر أفخم أنواع الحساء الذي يتميز بنكهة العلقم، وسمح لنا بتناول كوب واحد فقط كل أربعة وعشرين ساعة.

بقيت أصوات الطنين تصدر فوق الكنيسة، وأحياناً يتصدر الصوت نباح الكلاب المسجل، والأصوات المزعجة، كانت تتوتر أعصابنا لشدة ضغط الأصوات في أذاننا، ناهيك عن الطائرة الزنانة طول النهار تحلق فوق الكنيسة.

مسألة الطعام والماء، أصبحت فخاً لنا، أي شخص كان يحاول أن يخرج للبحث عن الماء، يقنصوه فيرجع إما شهيداً أو جريحاً، لكن في أخر شهر نيسان/أبريل تم طرح صفقة سميت صفقة الغذاء مقابل ورقة تخبر عن أسماء رؤوس المطلوبين، وهذا ما حصل، حمل الوفد المفاوض الطعام والدواء والشراب لنا داخل الكنيسة، وتمت الصفقة بالإفصاح عن أسمائنا.

الثاني من أيار/مايو نجحت مجموعة من الأجانب في الدخول إلينا في الكنيسة، وتم عمل المقابلات معنا واحداً واحداً، وقاموا بتصوير الكنيسة بما بدت عليها مع الحصار، ونشرت القنوات أسرار الحصار بكل تفاصيلها.

لا يوجد وسيلة اتصال، نفذت طاقة الهاتف، والحصار محكم الإغلاق حول الكنيسة، بقينا فترة من الوقت لن نعرف أخبار الخارج، وهم لا يعرفون أخبارنا، إلا بعد أن جاء وفد إلى الكنيسة وحدثونا عما جرى فيما مضى من وقت.

على ضوء الشموع داخل المبنى المحاصر في رام الله، مبنى الرئيس ياسر عرفات، كان هناك صفقات تتم بين الوفود المتفاوضة، وتم البوح للعامة ولنا بقرار المفاوضات، وضع تسع وثلاثون فلسطينياً على لائحة الإبعاد.

تم توجه الوفد المفاوض إلى الكنيسة ليلاً، وتم إخبارنا بما اتفق علينا، بأن القرار الذي صدر على الطاولة المستديرة في المبنى المحطم في رام الله، كان كما ذكر، وعلى النور الخافت تم أخد تواقيعنا خطياً التي تدل على موافقتنا للأمر الصادر بالإبعاد.

في صباح اليوم العاشر من أيار/مايو لعام 2002م، يوم الإبعاد، تم إخراجنا من الكنيسة واحداً واحداً، كانوا يفتشوننا بدقة، ثم يأخذونا إلى الحافلات التي ستقلنا لمكان نفينا، كانت عائلاتنا منتشرة فوق أسطح المنازل المجاورة لكنيسة المهد، نفي منا ستة وعشرون إلى غزة، وثلاثة عشرة نفوا في زوايا القارة الأروبية.

بعد عام، كنا نظن أن فترة الإبعاد انتهت ، لكن... أخطأنا الحساب، لقد تم إغلاق ملفنا، ووضعنا على لائحة المهملات، تمضي السنين وآمالنا مستمرة في العودة إلى أوطاننا.

 

وسوم: العدد 667