قدوة القيادة في الإسلام 24

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة الرابعة والعشرون : الكفاءة القيادية

د. فوّاز القاسم / سوريا

الكفاية القيادية والدعوية ، سمة بارزة في شخصيته صلى الله عليه وسلم في المرحلتين المكية والمدنية  .

فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتمتّع بكل الصفات المثاليّة للقائد والداعية الناجح ..

من إيمان عميق ،  وعقيدة راسخة ، وعقليّة مبدعة ، وتفكير ستراتيجي ، وتخطيط ، وإرادة ، وشجاعة ، وصبر ، وتحمّل للمسؤولية ..الخ…

ولقد توفرت له عن طريقين رئيسيين :

الطريق الأول : الاصطفاء الرباني :

فلقد كانت شخصيته صلى الله عليه وسلم القيادية والدعويّة ، تُصنع على عين الله منذ أن كان جنيناً في رحم أمه ، إلى اللحظة التي شرّفه الله بها بالتكليف والوحي ، ثم رافقته العناية الإلهية في كل مرحلة من مراحل دعوته خطوة فخطوة ، حتى التحق بالرفيق الأعلى .

ولعل من مظاهر هذا الاصطفاء أنه كان ذا ماضٍ مشرِّف .

فهو من أوسط قريش نسباً ، وأعظمهم أمانة ، وأحسنهم أخلاقاً .

ولقد حفظه الله من أدران الجاهلية ، وتميز ماضيه القريب والبعيد بالنظافة والطهر ، حتى إن أحداً من قريش لم يستطع – حتى في ذروة عدائهم له – أن يعيب له قولاً أو عملاً صلى الله عليه وسلم .

بل على العكس تماماً فلقد كان موضع إعجاب وتقدير من الأصدقاء والأعداء معاً . ومن أهم شهادات الأصدقاء في المرحلة المكية ، أقف على ثلاثة منها :

الأولى : شهادة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، التي كانت معروفة في قريش برجاحة عقلها ، وكريم صفاتها .

فها هي تقبله زوجاً لها ، وتعرض عليه ذلك ، واضعةً بين يديه كل ما تملك من شرف وحسب وجمال وأموال .

وما ذلك إلا لإعجابها به ، وتقديرها له .

وعندما جاءها يرتجف من مفاجأة الوحي ، قالت له قولتها الخالدة :

(كلا والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكَلَّ ، وتُكسبُ المعدومَ ، وتُقري الضيفَ ، وتُعينُ على نوائب الحق).

الثانية : هي شهادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، والتي أدلى بها أمام نجاشي الحبشة . والتي جاء فيها :

( أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه .

فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان .

وأمرنا : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء .

ونهانا عن  الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وأمرنا أن  نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً .

وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، فصدّقناه وآمنا به واتّبعناه على ما جاء به من الله )  هشام1 (336).

والثالثة : هي شهادة زيد بن حارثة رضي الله عنه .

فلقد كان زيد خادماً عند خديجة رضي الله عنها، فاستوهبه منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فوهبته له ، فأعتقه وتبناه ، وذلك قبل أن يوحى إليه .

وقصة وصول زيد إلى خديجة لا تخلو من طرافة وعبرة .

وذلك أن أم زيد ، وهي سعدى  بنت ثعلبة ، من بني معن من طيء ، كانت قد خرجت به لتُزيرَه أهلها ، فأصابته خيل من بني القَيْن بن جسر ، فباعوه بسوق حُباشة ، وهي من أسواق العرب ، وهو يومئذ ابن ثمانية أعوام ، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد ، وقدم به إلى مكة من الشام ، ثم أهداه إلى عمته خديجة .

وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعاً شديداً ، وبكى على فقده بكاءً مُرّاً ، وأنشد في ذلك الأشعار( راجع هشام1 ص248 ) .

ثم قدم مع عمه حين سمع به أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وذلك قبل الإسلام .

فقالا له : يا بن عبد المطلب ، يا بن سيد قومه ، أنتم جيران الله ، تفكّون العاني ، وتطعمون الجائع ، وقد جئتك في ابننا عبدك ، فتحسن إلينا في فدائه .

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ؟

فقالا : وما هو ؟ فقال : أدعوه وأخيّره ، فان اختاركما فذاك ، وإن اختارني ، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً ..

فقالا له فرحين ، وهما لا يشكان بانحيازه إليهما : قد زدت على النَّصَف . فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء ،

قال له : من هذان ؟  فقال : هذا أبي حارثة بن شراحيل ، وهذا عمي كعب بن شراحيل .

قال : قد خيرتك ، إن شئت ذهبت معهما ، وإن شئت أقمت معي . فقال زيد : بل أقيم معك  .! 

فقال له أبوه : يا زيد ، أتختار العبودية على أبيك وأمك وبلدك وقومك !؟

فقال زيد : إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ، فما أنا بالذي أفارقه أبداً .

فعند ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، وقام به إلى الملأ  من قريش فقال : (( اشهدوا أن هذا ابني ، وارثاً وموروثاً )). 

فطابت نفس أبيه عند ذلك ، وظل يُدعى زيد بن محمد ، حتى أنزل الله قوله : (( أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ))الأحزاب (5) .

فقال زيد :  أنا زيد بن حارثة  .   هشام1 (249 )

وانّ المرء ليقف مشدوهاً مذهولاً أمام هذه القصة العجيبة .!!

فأية أخلاق و سيرة و صفات و معاملة ، تلك التي رآها زيد من محمد بن عبد الله ، ولم يكن قد بعث بالرسالة بعد ، لكي يفضلها على الأب والأم والوطن والقوم والحرية .!؟

وأما شهادات الأعداء على كريم أخلاقه ، وطهر سيرته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة أيضاً ، وسنكتفي كذلك بأبرز نماذجها .

_فهذا عتبة بن ربيعة ، وهو من أساطين الشرك في مكة ، يصفه في مفاوضاته معه بأنه (من أعزهم شرفاً ، وأوسطهم نسباً).

هشام1 (293)

_وهذه شهادة النضر بن الحارث ، زعيم الامبراطورية الإعلامية المعادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة كلها ، وهو من ألدّ  أعداء الإسلام ، وأكثرهم أذى لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  ها هو يخاطب قومه  : ( يا معشر قريش ،  إنه والله قد نزل بمكة أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً  أرضاكم فيكم ، و أصدقكم حديثا ، و أعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر ، فلا والله ما هو بساحر )) . هشام1 (300 )

_ولعل أروع شهادة في التاريخ ، وأعظمها دلالة على ما نتكلم عنه من صفاته وخصائصه صلى الله عليه وسلم، هي ( شهادة الأمانات) التي كانت عنده لأهل مكة . فلم يكن أحد بمكة قبل بعثته ولا بعدها ، عنده شيء يخشى عليه ، إلا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما يعلم من صدقه وأمانته .!

والطريق الثاني : هو الطريق المكتسب .

وهو يعتمد على المهارات الشخصية ، والاجتهادات الفردية ، والارتقاء الذاتي ..

فلو افترضنا جدلاً ، أن شخصاً ما ، قد  ساقته الأقدار والظروف ، إلى موقع المسؤولية والقدوة والقرار ، وهو غير مؤهل لهذا الموقع ، أي أنه لا يمتلك القدر الكافي من الصفات والخصائص القيادية والدعويّة ، بشقيها الموروث والمكتسب _ بسبب ظروف استثنائية تمر بها الجماعة أو الأمة _فعليه أن يبذل كل ما يستطيع من جهد ، للارتقاء بنفسه ، وطاقاته ، إلى المستويات المطلوبة .

ولا يعفيه ضعفه هذا ، من المسؤوليات الشرعيّة ، والأدبيّة ، والتاريخيّة ، ما لم يبذل الجهد ، ويستنفد الوسع ، ويمحض النصح ، ويعذر الى الله ...

فإذا ما فعل ذلك ، فإن خطأه ، بعد ذلك لا قبله ، يمكن أن يكون مقبولاً ، وذنبه مغفوراً . أما إذا اكتفى بالقليل ، وأخلد إلى الكسل ، ورضي بالأمر الواقع ، ثم قاد الجماعة أو الأمة ، بجهله وتقصيره إلى الهزائم والفشل ،  فعندها لا مفر له من عقاب الله ، ومؤاخذة التاريخ ، وحساب الجماهير.

 ولذلك فقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبالرغم من كل ما حباه الله من الصفات الجليلة ، والخلال الحميدة ، يهيء نفسه للوحي والدعوة والقيادة والجهاد .

ويـبذل كل ما يستطيع للارتقاء بشخصه الكريم إلى المقامات اللائقة بتشريف الله له وتكريمه ، وذلك بالعزلة ، والخلوة ، والتفكّر ، والعبادة ، والذكر،  والدعاء ، وقراءة القرآن ، وغيرها من أساليب الترقي ، هذا في الجانب النظري ..

وكذلك ، بالحضور المتميّز ، والمتابعة المستمرّة ، والقدوة المتألقة ، والمنهج الشوري الراشد ، في الجانب العملي ..

وبمجمل هذه الصفات ، الموروثة و المكتسبة ، استطاع هذا الرسول العظيم ، أن يقود دعوته المباركة ، بأعلى درجات الكفاءة والنجاح ..

ولقد حقق مع إخوانه في ربع قرن ، ما عجز الآخرون عن تحقيقه في عدّة قرون .