الرد على إنكار ونفي تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم دولة مدنية

جريا على عادة موقع هسبريس المغربي على الشبكة العنكبوتية والذي دأب على التسويق للفكر العلماني نشر اليوم 19/06/2016 مقالا تحت عنوان : " الحديث عن دولة الرسول فكرة لا تستند إلى أساس " وهو مقال ينقل ما جاء في كلمة للمدعو محمد جبرون المحسوب على الفكر ، والذي استضافته " مؤسسة مؤمنون بلا حدود " لقراءة نعت بالعلمية لكتابه : "نشوء الفكر السياسي الإسلامي وتطوره " وهو كتاب نال به صاحبه جائزة المغرب للكتاب خلال هذه السنة . ومما نسب لصاحب هذا الكتاب  قوله أن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم أو دولته المدنية فكرة لا تستند إلى أساس، لأن الأمر يتعلق بمجرد كيان بسيط يعتبر امتدادا لكيانات مثله كانت موجودة قبل الإسلام . ويزعم أن الذين يقولون بوجود دولة الرسول عليه السلام لا يملكون من الأدلة ما يثبت ذلك من المؤسسات ، والإدارة ، وكيفية تدبير الشؤون ، ووجود قيادة ، وأن فكرة هذه الدولة فكرة ساذجة مادتها الخام وجدت قبل الإسلام ، وأن المسلمين كانوا يتصرفون بمحض إرادتهم ولا ينتظرون الوحي . ولا يعترف هذا المفكر حسب توصيف موقع هسبريس  له إلا بالدولة العباسية المستبدة دينيا في مقابل الدولة الأموية المستبدة مدنيا .  بداية وقبل الرد على نفي تأسيس الرسول صلى الله عليه وسلم دولة مدنية لا بد من الإشارة إلى أن هذه الفكرة تندرج ضمن الصراع السياسي القائم في البلاد العربية بين أحزاب علمانية  أو ليبرالية التوجه ، وبين أحزاب ذات مرجعية إسلامية أفرزتها ثورات الربيع العربي التي أجهزت على نموذج الأنظمة المستبدة الفاسدة ، وهي أنظمة واجهت ثورات هذا الربيع بثورات مضادة بإيعاز ودعم  من قوى خارجية لها حساسية مفرطة ضد ما تسميه الإسلام السياسي . ومن أساليب هذه الثورات المضادة أسلوب التشكيك في صلاحية الإسلام لتأسيس الدولة المدنية المنافسة للدولة  الليبرالية والعلمانية .  وتدخل فكرة نفي تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم لدولة مدنية ضمن هذا الصراع السياسي . وقبل الرد أيضا على صاحب فكرة نفي وجود دولة الرسول المدنية لا بد من الإشارة إلى أن حملة الفكر العلماني والليبرالي ينطلقون من قناعة مفادها أن الدين مفارق للحياة ، وأنه يقتصر على أماكن وطقوس العبادة بينما يحكم غيره الحياة في شتى مجالاتها . ولا شك أن الانطلاق من هذه القناعة التي يتعامل معها أصحابها كمسلمة لا تناقش يفضي حتما إلى ما توصل إليه صاحب فكرة نفي وجود دولة الرسول صلى الله عليه وسلم المدنية . وقبل الرد  عليه أيضا لا بد من الإشارة إلى أن الحياة لا يمكن أن تنفصل عن الدين سواء تعلق الأمر بالإسلام أم بغيره من الديانات السماوية السابقة أو حتى الديانات الوضعية ،ذلك أن الناس يخوضون غمار الحياة بشتى مظاهرها وفق تصورات دينية حتى وهم يأكلون ويشربون أو يتناسلون أو يتعاملون المعاملات الاقتصادية والسياسية .... فيما بينهم. ولا بد أيضا من الإشارة إلى أن رسالة الله عز وجل الخاتمة للبشرية تغطي كل نواحي الحياة البشرية في كل العصور والأمصار إلى قيام الساعة ، وهذا ما يميز الإسلام  الذي يحيط بالحياة من كل جوانبها . وإذا ما خرج جانب من هذه الجوانب عن التغطية الدينة يفقد الدين بذلك مبرر وجوده إذ لو كان البشر يستطيعون تدبير شؤون حياتهم التدبير الموفق  بمحض إرادتهم لما كانت الحاجة  أصلا إلى تدخل الله عز وجل لتوجيههم عبر رسائل نزلت تباعا حتى جاءت الرسالة الخاتمة المصدقة لما بين يديها والمهيمنة عليه . ولا بد أيضا من الإشارة إلى أن خلفية منكر وجود دولة مدنية أسسها النبي صلى الله عليه وسلم  خلفية مادية محضة لأنه استعمل نعت السذاجة والبساطة  لوصف هذه الدولة، ولا شك أنه صدر في حكمه هذا عن مقارنة هذه الدولة  بما يوجد في عصره من ماديات مهملا أسس الدولة غير المادية . ومن المثير للسخرية أن يتحدى السيد محمد جبرون من يقولون بوجود دولة الرسول من خلال إثبات مؤسسات وإدارات وتدبير شؤون بل وقيادة ، علما بأن الرسالة فوق كل قيادة . وإذا ما تعلق الأمر بما هو فوق القيادة فمن السخف البحث عن الجانب القيادي بالمفهوم المتداول في عصرنا عند الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، علما بأن وضعه كرسول لا يمكن أن ينفي تأسيسه لدولة  عظمى تتحدى الزمان والمكان، لأنها دولة تعتمد في تأسيسها التوجيهات الإلهية الواردة في الرسالة الخاتمة للناس كافة . ومعلوم أن هذه الرسالة تتضمن التوجيهات الكبرى لتأسيس الدولة الإسلامية المدنية بالمعنى الصحيح للمدنية . ومقارنة عصر ما بعد البعثة بما كان قبلها محض هراء، خصوصا وأن الرسالة الخاتمة تتضمن نصوصا صريحة بوجود فرق بين ما بعد البعثة  وما قبلها .ولقد حولت هذه الرسالة حياة الناس من حال إلى حال، بل قلبت حياتهم رأسا على عقب، وصححت مفاهيمهم للحياة ، وأخرجتهم من حياة العصبية القبلية الساذجة والبسيطة  والخرافية إلى الحياة المدنية التي غيرت نمط تفكيرهم ومعاشهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم ...ولا يصح ما ذهب إليه جبرون من أن الناس بعد الإسلام كانوا يتصرفون كما كانوا قبل البعثة بمحض إرادتهم ولا ينتظرون الوحي . ولو صحت هذه الفكرة لما وقع تغيير في مسار قبائل كانت متفرقة حولتها رسالة السماء الخاتمة إلى أمة بالمفهوم الواسع للأمة التي تصهر الأعراق والأجناس المختلفة . ويكفي أن نشير إلى كلمة أمة التي تتكرر في الرسالة الخاتمة لنفي ما زعم جبرون الذي يعترف أن الدولة العباسية كانت دولة دينية ، و نعته لها بالمستبدة يدل على حمله فكرة نسبة الاستبداد لدين الإسلام ، كما أن نعته للدولة الأموية بالاستبداد المدني يدل على فكرة مروق هذه الدولة من الدين، وذلك هو المؤشر على المدنية في نظره. وللحكم على ما أسسه النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من الانطلاق من مضامين الرسالة التي جاء بها، والتي  أحدثت فعلها في حياة الناس يومئذ بتدخلها في مختلف شؤونهم من تكاثر وتناسل ،وأكل وشرب،  وعلاقات ،ومعاملات فيما بينهم ومع غيرهم ممن يختلف معهم دينا أواعتقادا . ففي هذه الرسالة القواعد أو القوانين الضابطة لتأسيس الدولة المدنية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ... ولا ندري كيف غيب السيد جبرون فكرة الخلافة التي جاءت مع الإسلام، وهي نمط دولة مدنية قوامها اختيار الأمة لقيادة تدير مختلف شؤونها ،الشيء الذي لم يكن من قبل  في نمط الحياة القبلية. ومع وجود فكرة الخلافة التي أسست لها النبوة خرج الناس من نمط  حياة إلى آخر. ولو لم يكن لدين الإسلام  تأثير على الحياة لما استطاع صهر الأمم والشعوب المختلفة في بوتقة واحدة، ولظل من كانوا قبل البعثة على حالهم التي كانوا عليها من قبل ، ولما اكتسح الإسلام المعمور . وأخيرا نكرر أن مثل هذا التوجه هو وليد الصراع السياسي الذي خلقته وضعية ما بعد ثورات الربيع العربي، والتي أفرزت رهان الشعوب على الأحزاب ذات التوجه أو المرجعية الإسلامية ، وهو ما لم تقبل  به قوى عالمية  تتوجس مما تسميه الإسلام السياسي لأن في وصول مثل هذه الأحزاب إلى مواطن صنع القرار منافسة للنموذج الليبرالي  والعلماني الذي  يقدم نفسه البديل الوحيد ، ويفرض الوصاية على ما يسمى الدولة المدنية ،وهي الدولة التي يقصى فيها الإسلام من الحياة في نظر أصحاب هذا النموذج . وحري بالذين يجترون مقولات القوى الكبرى المهيمنة على العالم والتي تجرم الإسلام  أن  يعملوا على إثبات أن الدولة الإسلامية التي أسسها الإسلام دولة مدنية بامتياز ، لا تؤمن بنفي من يختلف معها بل تتعايش معه في إطار الاحترام والسلم والأمن . وحري بهؤلاء أن يشتغلوا على تقديم برامج سياسية  واقتصادية واجتماعية من شأنها النهوض بالأمة الإسلامية عوض صرف وإهدار الوقت في الجدل الإيديولوجي العقيم والمتخلف والاستئصالي والإقصائي .ولن ينال من الإسلام ما يلفق له من تهم  بعضها أخطاء بشرية هو براء منها .

وسوم: العدد 673