الدرس الذي ترفض إسرائيل أن تتعلمه
يقول درس التاريخ إنه لا بقاء لاحتلال أجنبي لأرض شعب آخر ، وإنه في أقصى خروج على هذا الدرس يذوب المحتلون في الشعب صاحب الأرض ، ويتكون شعب يحمل سمات المحتلين وسمات أهل البلاد الأصليين . وقد تتغلب سمات على سمات حسب كثرة عدد وقدرة كل طرف على التأثير في الطرف الآخر ، ولكنهما ينتهيان إلى مكون واحد متآلف بدرجة أو بأخرى . إسرائيل ترفض باستعصاء غير مسبوق تعلم هذا الدرس ، وأساس رفضها أنها لا ترى نفسها محتلة لأرض شعب آخر ، واختصر مؤسسوها السياسيون والعسكريون ومنظروها الفكريون جريمة اغتصابهم لأرض الشعب الفلسطيني بأنهم لم يفعلوا أكثر من العودة إلى أرض تخصهم ، وأن قوى كثيرة أكبر من شعبهم توالت على البلاد في حقب تاريخية وأقصته منها إلى الشتات ، ولذا سنوا قانون العودة الذي يمنح كل يهودي في العالم حق العودة إلى فلسطين التي أسموها إسرائيل . وفي تضاد كامل مع هذا الحق شرَعوا طرد الفلسطيني بكل وسيلة تيسرت لهم ، وكان بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق يقول : " نحن نحارب الفلسطينيين بأساليب لا تخطر على بال الشيطان " ، ومازالوا يوالون هذا الطرد الذي فشلوا في إنجازه كاملا في 1948 ، وفي حربي 1956 و 1967 . في حرب 1956 التي احتلوا فيها غزة وسيناء ، وبعد وقت وجيز من الاحتلال ، جالت طائرة إسرائيلية في سماء غزة على ارتفاع منخفض تأمر في مكبر صوت ساكني بيوت الشعر ( وكانت كثيرة في ذلك الحين ) بالرحيل إلى سيناء ، وحمل أصحاب تلك البيوت متاعهم القليل ( أكثرهم لاجئون ) على ظهورهم أو على ظهور دوابهم ويمموا سيناء ، وفجأة ، بعد أن بلغها بعضهم ، توقفت عملية الترحيل ، ولا أدري لم توقفت ، قد يكون السبب تدخلا دوليا أو أي سبب آخر يخص إسرائيل مباشرة ، والمهم أن من رحل عاد إلى مكانه . وفور احتلال غزة في 1967 ملأت قوات الاحتلال مجموعة حافلات بمن وقع في يدها من الرجال والشبان الغزيين ، وألقتهم على ضفة قناة السويس لشرقية ، وكلف الضابط الإسرائيلي المشرف على العملية مسئولا من الصليب الأحمر رافق الحافلات بالطلب من الضباط المصريين الذين كانوا على الضفة الغربية توفير معدية لنقل ركاب الحافلات إليهم ، ولما رفضوا الطلب ، هدد الإسرائيليون بقتل الركاب فورا ، فوافق المصريون ووفروا المعدية خوفا من أن ينفذ الإسرائيليون تهديدهم ، وكانت الأجواء حينئذ تلائم تنفيذه ؛ فالحرب انتهت منذ وقت وجيز ، والأصابع لا تزال على الزناد ، ومن قتل آلاف الجنود المصريين المتقهقرين في الحرب ليس لديه مانع من قتل هؤلاء الذين يصر على ترحيلهم إلى مصر . وتوقف الترحيل بهذه الطريقة بعد ذلك . وكل ما قامت به إسرائيل تاليا من القتل والإبعاد وهدم البيوت ، وتدمير الورش والمصانع في غزة والضفة استهدف إخلاء فلسطين من الفلسطينيين بجعل حياتهم مستحيلة فيها ، أو شاقة جدا في أرحم حال إلا أن الصمود الفذ للشعب الفلسطيني ، والرغبة في تجنب تكرار التطهير العرقي الذي اقترفته إسرائيل في 1948صنع حاجزا منيعا هدد مستقبل مشروع الإخلاء والتفريغ ، وتوالي ثلاث انتفاضات أصابه بالفشل ، ونبه الإسرائيليين إلى أنه وهم عبثي لا أمل في جعله واقعا ، وأن سعيهم لفرض استثنائية خاصة بهم على وقائع التاريخ ومسلماته لا سبيل إلى نجاحه . وكانت دائما مشكلة الشعب الفلسطيني الكبيرة غيبة قيادة وطنية مخلصه تشبهه في صموده وبطولته ، وقادرة على تحويل تضحياته الوطنية إلى منجزات سياسية على أرض الواقع . اهتز الوجدان الشعبي في غزة مؤخرا عند رحيل أم الرضوان فاطمة الجزار التي صبرت محتسبة على مآسي استشهاد خمسة من أبنائها وأربعة من أحفادها ، وانبثق التساؤل العفوي : هل لدينا قيادة فلسطينية ترقى عدة درجات من درجات تضحيات وصبر هذه الأم ؟! ووظف الإسرائيليون كل قدرات خبرائهم الأمنيين والسياسيين والنفسيين لتفسير أحداث انتفاضة القدس التي انفجرت في مطلع أكتوبر / تشرين الأول 2015 ، وخادعوا أنفسهم كعادتهم على أسلوب تجاهل العارف ؛ فقالوا إنها وليدة تحريض مسئولي السلطة الفلسطينية والإعلام الفلسطيني متجاهلين نية وقصدا حقيقة أن السلطة تصدت للانتفاضة ، وأنها تتعاون أمنيا معهم في وأدها ، لكنهم يوجهون تفسيرهم المخادع لشعبهم وللعالم . وبين وقت وآخر ، وكلما لمحوا توقفا لعمليات الانتفاضة الفردية السمات بشروا أنفسهم بأنها هبة وسكنت . والآن ، في الأسبوع الأخير من رمضان ، عادت العمليات في أراضي 1948 وفي الضفة ، وكيف لا تعود والواقع الذي تفرضه إسرائيل للفلسطينيين يفجر عودتها تفجيرا ؟! ولم تتخل إسرائيل في مواجهة هذه العودة عن تفسيرها المعهود المتعمد للمقاومة الفلسطينية لظلمها وجرائمها . هي في تصنيفها إرهاب طائش أو إرهاب يصنعه التحريض ، وتحريض من ؟ كالعادة تحريض السلطة ، وسايرها بيان الرباعية الذي صدر منذ أيام ؛ فدعا إلى وقف التحريض ، ويقصد التحريض الفلسطيني أو تحريض السلطة مثلما تقول إسرائيل . والتقط بولي مردخاي منسق جيش الاحتلال في الضفة كلمات القيادي الفتحاوي اللواء أبي العينين " أينما تجد إسرائيليا اقطع رقبته ! " وعدها المحفز على عمليات المقاومة الأخيرة في الخليل التي قتلت فيها يافا أريئيل من مستوطنة " كريات أربع " ، والحاخام ميخائيل مارك من مستوطنة " عتنائيل " جنوبي الخليل ، وللمناسبة هذا الحاخام ابن عم يوسي كوهين رئيس الموساد . وإسرائيل لا تكرر نفس تفسيراتها المخادعة لأسباب مقاومة الشعب الفلسطيني لسيطرتها عليه أرضا وبشرا فحسب ، وإنما تكرر أيضا نفس أساليبها الفاشلة لعقاب المقاومين من قتل فوري ولو على الشبهة ، وما أسرع جنودها المذعورين إليها ، ومن هدم لبيوت أسر المقاومين ، وإبعاد لهم بعد انقضاء زمن اعتقالهم ، وأحيانا إبعاد أسرهم ، وغالبا ما يكون الإبعاد إلى غزة ، وتفكر في موجة المقاومة الأخيرة في إبعاد الأسر إلى اماكن داخل الضفة وغزة أيضا ، وتحدثت عن وقف معين لدفعها لأموال المقاصة إلى السلطة الفلسطينية ، وهي الضرائب التي تجبيها على البضائع الداخلة إلى الضفة وغزة ؛ مستهدفة دفع السلطة لزيادة نشاطها في الكشف عن قوى المقاومة ومنع عملياتها . إسرائيل تكرر المكرر رغم توالي فشلها فيه ؛ لأنها ببساطة تصر على رفض الخضوع لدرس التاريخ وعبرته انطلاقا من وهمها بأنها لا تغتصب أرض شعب آخر يوجد منه عليها عدد يساوي أو يفوق عدد المهاجرين الذين يؤلفون بنيتها البشرية ، وترى أنها استثناء لا يشبه سواه ، ولكل سلوك نهاية تنبع من نوعيته ، ونهاية نوعية سلوك إسرائيل ستكون اختفاء كيانها من المنطقة بطريقة قد تكون أبسط مما يتصور كثيرون ، وأولهم إسرائيل .
وسوم: العدد 675