ما هي حرب داعش والحرب عليها؟
كيف تُنظّم داعش الشباب وخاصة الشباب الأوربي منه؟ ما الذي يدفع شاب في مقتبل العمر ليتطوع في تنظيم (داعش)؟ أي رغبة تجعله يتحمل مشقات الطريق وسط حقول الألغام ليبايع الخليفة البغدادي، ويرتدي زيا أسود، قميصا وسروالا وعمامة، ويتحزم بشريط رصاص يتدلى من رشاش على كتفه؟ من يقاتل؟ ولماذا يقاتل؟ من يمولهم؟ من يسلحهم؟ لديهم دبابات من أحدث طراز، خرجت للتو من مصانع السلاح، ألا يوجد رقابة على سوق السلاح العالمي؟ هكذا يقول التحالف الدولي لمحاربة داعش "إنهم يجففون منابع التسليح لداعش"، ولكن ها هي أحدث الأسلحة بيد داعش يستخدمونها، من باعها لهم؟ أليست مصانع السلاح في الدول التي لديها صناعات عسكرية؟
قالوا الحرب الدائرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأجل النفط، ولكن النفط العربي لم يكن يوما بيد العرب، وبقي شعار "بترول العرب للعرب" حبرا على ورق، وبقي النفط العربي بيد الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية صاحبة الامتياز بالتنقيب عليه، وكارتل النفط العالمي أعضاؤه متفقون على توزيع الحصص فيما بينهم، وينقلونه بناقلات النفط العملاقة تجوب بحار ومحيطات العالم، والعرب فقط قاعدين على آبار النفط، وكل مجموعة آبار عليها مشيخة نفطية تسمى دولة تأخذ أتاوة محددة من مبيعات النفط. لذا ليس مقنعا أن يكون النفط دافع هذه الحرب العبثية، التي دمرت البنية التحتية في تلك الدول، وتقدر تكلفتها في سوريا أواخر 2014 زهاء 40 تريليون دولار أمريكي، والعراق زهاء 50 تريليون دولار أمريكي، وليبيا 30 تريليون دولار أمريكي، والملاحظ رغم ضراوة الحرب أن النفط يُـباع وتنقله ناقلات النفط بسهولة بالغة كما كان يباع في وقت السلم.
الحرب لم تدمر فقط البنية التحتية، بل دمرت البنية الحضارية والثقافية للمنطقة. فقد نُهبت الآثار وصارت بالأسواق العالمية، ودُمّر ما بقي منها على يد داعش أو بقصف قوات النظامين السوري والعراقي؛ حيث حضارة تمتد لخمسة آلاف سنة قبل الميلاد. أمر مبكٍ بالفعل، حضارة عمرها سبعة آلاف سنة تنهال عليها معاول داعش كأن لها ثأرا معها، والذريعة "أصنام عبدها الناس وهو شرك بالله"، ولا يعلم أولئك الجهلة بالدين أن الفاتحين المسلمين ما دمروا كنيسة أو معبدا أو آثارا لبلاد دخلوها، وهل هناك أكثر من "أصنام" الصين التي فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي؟ ولم تُمس آثارهم وحضارتهم بما فيها تماثيلها الرائعة، لا تزال لليوم تحفة للناظرين. من أفتى لهؤلاء الجهلة بتدمير إرث الحضارات؟
هناك من يرى أن تقسيم المنطقة على أسس جديدة وراء هذه الحرب؟ أن تنبت دول بهويات جديدة أدنى من هوية الوطن الراهنة؟ هويات دينية ومذهبية، تبرر إقامة دولة يهودية بفلسطين طرحتها إسرائيل؟ يبدو هذا الاحتمال ضعيفا، لأن العرب أصلا لم يحتجوا على إقامة " الدولة اليهودية" التي تطرد خارجها كل من هو غير يهودي، من المسلمين والمسيحيين والأديان المذاهب الأخرى.
ومع رواج طرح "الدولتين، فلسطينية ويهودية" جاء الاحتجاج العربي على "يهودية الدولة الإسرائيلية" واهنا، حتى الفلسطينيون أنفسهم المتضررون من هذا القرار لاذوا بالصمت، على أمل أن الدولة الفلسطينية المأمولة تتسع للجميع. إذن والحالة هذه إزاء موقف عربي غير مكترث بيهودية الدولة ما الحاجة للحرب لأجلها؟
الشيء المؤكد أن المستفيد من الحرب الهوجاء الجارية بالمنطقة العربية هم مصانع وتجار السلاح. لقد راجت تجارتهم لحد التخمة، وأنقذت مداخيلها الضخمة الاقتصاد الغربي المأزوم منذ عام 2007 وحتى اليوم، وكان ضحية هذه الحرب القذرة بشر لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في هذه المنطقة الجغرافية الأشبه برمال متحركة أو انجراف تربة أو خط زلزالي نشط.
كانت المنطقة العربية مستهدفة ولا تزال. ولعل قول تشرشل وزير الخارجية البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية "ويل للعالم إذا استيقظ الأسد الرابض على ضفاف المتوسط"، وبلاده صاحبة وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين، ليكون هذا الكيان ذراع الغرب في ترويض هذا الأسد الرابض على المتوسط، لذا الحروب العربية مع إسرائيل كانت دورية لغاية عام 1982، حيث كانت كل 10 سنوات تقريبا تقع حرب، أول حرب عام 1948، انهزم فيها جيش الإنقاذ العربي برمته أمام عصابات الهاجانا اليهودية، فاحتلت إسرائيل جزءا من فلسطين، كان أساس دولة إسرائيل، التي طرحت في الأمم المتحدة 15 مايو 1948.
ثم حرب 1956، التي شنتها إسرائيل في أعقاب قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ولم تكن إسرائيل وحدها بل معها بريطانيا وفرنسا، ولكل منهما ذرائعها لخوض حرب أرادوا منها تكسير ثورة 23 يوليو الطامحة لبناء اقتصاد وجيش يحمي القرار الوطني.
ثم كانت حرب 1967، وقد خدع الاتحاد السوفياتي آنذاك (نصير قضايا التحرر) العرب، بأنه لا حرب تشنها إسرائيل، ولم يكترث للتوتر الذي ساد لثلاثة أسابيع قبل الحرب، لكن إسرائيل في فجر الخامس من حزيران/ يونيو باغتت العرب على الجبهة المصرية ظهير العرب، وقصفت قواعد سلاح الجو المصري في سيناء، فكانت الفيصل لهزيمة عربية شنعاء، واستولت إسرائيل على غزة والضفة الغربية في فلسطين، وسيناء في مصر، والجولان السورية.
أراد العرب الثأر لهزيمتهم فباغتوا إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، قالوا "انتصرنا"؛ لكنها للأسف كانت حربا لتحريك التسوية السياسية، وخرجت مصر السادات من الصف العربي باتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978.
إن تحييد أكبر قوة عربية بالمعركة جعل إسرائيل أقوى في مواجهة بقية دول الطوق، فجاءت حرب 1982 على لبنان في أتون حرب أهلية طاحنة، بين ظهرانيها المقاومة الفلسطينية، التي كانت إسرائيل تهدف لإخراجها من لبنان بعد أن صورتها باعتبارها سبب الحرب الأهلية، ولكن لم تنته الحرب الأهلية بل استمرت حتى عام 1992، واحتلت إسرائيل بيروت، أول عاصمة عربية تحتلها إسرائيل.
وكانت أولى نتائج تحييد مصر تأجيج حرب بين العراق وإيران الجارين، حرب استنزفت قدرات البلدين على مدى ثمان سنوات، وبعدها دخلت المنطقة بمرحلة "الغزو الأمريكي" للعراق عام 2003، بعد حصار دام 13 عاما، والعرب يتفرجون على جوع العراقيين وهزال أطفالهم، دون أن تحرك لهم قصبة. فبعد إعلان أمريكا احتلال العراق رسميا في 9 أبريل، أصبحت الحرب من مفردات الحياة اليومية للعراقيين، تفجيرات مواجهات سجن بوغريب ومشاهد إذلال لا تخطر على بال. وهكذا حيدوا العراق من المعركة مع إسرائيل.
ازداد الاحتقان الشعبي في الشارع العربي، حيث يعاني من أنظمة قمعية مستبدة، تتاجر بفلسطين، تقتطع المجهود الحربي باسم تحريرها، وتبني فيه قصورها داخل وخارج الأوطان. واستشرى الفساد، إلى أن "انفجرت" عربة محمد البوعزيزي التونسي في ديسمبر من عام 2010، الذي أحرق نفسه احتجاجا على الظلم الذي لحق به عندما أحرقوا عربة الخضار التي يعتاش منها، واحترقت معه قلوب التونسيين، فخرجوا ثائرين على الظلم والاستبداد. ودوى هدير عربة البوعزيزي في شوارع وأزقة الوطن العربي، بخروج الآلاف من الشباب ثائرين يهتفون "للحرية وإسقاط النظام"، الذي جثم على صدور الشعب لعقود من الظلم والاستبداد.
للأسف تعرض حلم الشباب العربي للسطو المسلح عندما تعمدت أطراف ترفض حرية الشعوب لأنها تخسر السلطة والثروة لو سادت الحرية ودولة القانون، فدفعت المال بسخاء لعسكرة الحراك الشعبي السلمي، وتسلق سُراق الثورات أمواج ثورة شعب غاضب يريد عيشا كريما ويرفض الذل والهوان. بعد بضعة أشهر تحولت الثورات إلى حمّام من دماء الشباب الثائر على الظلم. لم يمت هؤلاء الشباب في معركة تحرير الأمة من الصهيونية التي صدّع الحكام رؤوسنا "بمعركة تحريرها"، بل مات الشباب في حرب داخلية عبثية. أبناء البلد الواحد يقتلون بعضهم البعض، والعدو يتفرج على أنهار الدم العربي.
رغم هذه الوقائع والسرد التاريخي لاستهداف الأمة العربية يبقى السؤال الذي لا أجد جوابا عليه: لماذا شاب عشريني يضع حزاما ناسفا ويفجر نفسه في مسجد ملئ بالمصلين وهو من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"؟ أليسو مسلمين لماذا يقتلهم؟
والمدهش أكثر هو تطوع شباب أوربيين في داعش، وهم يعيشون رغد العيش مقارنة بشبابنا الذي سدت كل الأبواب في وجهه، هل المتطوعون الأوربيون مقاتلون فعلا أم من أجهزة الاستخبارات؟ الله أعلم، ما أعلمه أن البلاد العربية بعدما كانت "بلاد الرعب أوطاني" أصبحت جحيم حرب لا يعرف مداها إلا الله ومن خطط لهذه الحرب المجنونة وسرق الحلم العربي بالحرية.
نظرية المؤامرة غير كافية لتفسير تطوع هؤلاء الشباب في داعش، التي نفخها الإعلام بسيطرتها دون عناء على زهاء 50% من سورية والعراق، ويبدو دخولها لتلك المناطق كأنه بالاتفاق مع أنظمة المنطقة وبضوء أخضر أمريكي وبدعم إيراني أحيانا، وهكذا ضاعت تخوم ولاءات داعش، لتصبح تابعا لمتغير السياسة الإقليمية والدولية، بتقديم خدماتها لهذا الطرف أو ذاك.
وسوم: العدد 675