الحبّ بين الصّوفيّة وحاجة النّفس البشريّة
لا شيء يعدلُ في هذه الحياة أن تكون محبّاً، عاشقاً، متولهاً، يقتات قلبك بالحزن الشفيف البهيّ، وتقدم روحك طُعْما شهيّا في محرقة الحبّ، لتجعلك خلقا آخر، بكيفيّة جديدة، تفارقك ذاتك وطبيعتك، خلقا من بعد خلق، لست أنت الآن عند الحبّ في محرقته، كما كنت قبل ذلك.
من وصل من العشّاق إلى هذه المرتبة من الإفناء في ذاتٍ أخرى، معرّفة فيها أنها هي الكيان الحامل لكيانك، والمستوعب لكل شطحات كلّك وفكرك واضطرام روحك واشتعال خلايا جسمك في شرايين دمك؟ من وصل من المحبين إلى هذه الدرجة من التّجلي ليعيش الحبّ كما ينبغي أن يكون؟ إن ذلك لا يكون دون أن تكون عاشقا صوفيا محترقا لتصل إلى مرتبة الإشراق الكوني، فإذا ما "سافرت في داخلك فسيكون بوسعك اجتياز العالم الشاسع". إنّه بطريقة أخرى أن "تتبخر من شدة الحبّ"، دون أن تتخلى عن حاجتك الماديّة البشريّة الكبرى للارتواء من ذلك العطش الذي يسكنك.
ولكنْ، إنْ تبخرت، هل تلاشيتَ؟ أينَ جسدك وأين جسدُ من أفنيت طبيعتك في كيانه المادي أولا قبل كيانه الروحي؟ هل تشعر بارتباك وحكة شهوة بين مسامات جلدك؟ أين أنت وقد أصبحت عالما من طبيعة مختلفة؟ لعلك ستموت، ولن تعود إلا خلقا جديدا بأمر الحبّ، لتعيش قيامتك على طريقته في الرضا الكليّ نفسيا وعقليا وجسديّا كذلك. إنك لن تكون كما كنت. عند ذلك ما نفع ذلك الجسد الذي تحمله، ويحمله قرينك إن لم يحترق بمن اتّحدت معه. فاحترق "فمن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة". إنّه نوع خاصّ من التحرر، وأنت تفنى طواعية في ذات المحبوب. لا تنفكّ عنه وليس عنك يفترق. عليك بالمجاهدات والمكابدات العشقية. احزن بشفافية الروح. تعذّب. مت. انهض من جديد. واسلك الطريق إلى آخره؛ وصولا إلى الاتحاد الكامل.
عليك أيها العارفُ الصّوفيّ الدخول بالحقيقة الجديدة. ألّا تكتفي أن تمسّها بأطراف أصابعك، ولا أن تنظر إليها بعينيك وأنت عنها بعيدٌ، اقترب ثم اقترب. ادخل وتلاشَ. انتقل من إلى. كنْ قلب الحقيقة، كُنْها. عندها ستعرف أنك/ أنها الحقيقة الكاملة. ولن تستطيع الخروج منها. ولن ترى غيرها على امتداد هذا الكون الذي أصبحته كيانا واحدا لا انفصال فيه، هو عينه ما سوف تراه، هو ذاته من سوف تحيا به ومن ستحياه في نشأتك الجديدة تلك.
أين أنتِ إذن أيتها المرأةُ الحب؟ هل تحولتِ إلى ذات أخرى، وفارقت طبيعتك الأنثوية؟ هل أنت ذات كُنهٍ صوفيّ فقط؟ وأين ذلك الجسد الموهوب والمعرّف جمالا أنثويا مهيبا؟ لعلّك اخترقت حدود ما أفضى به العشق إلى مراتبه العلوية، صعودا نحو أفلاك الجمال الجسديّ متحولا نغما ناعما متسربا دفقة شعورية تحسّ ولا تقال. هل ما زلت تنتظرين في هذا العالم؟ متى تكونين الحريّة الكاملة؟ فلا تتناقضي مع كل تلك الطبيعة المجبولة من عرقين أرضي وسماويّ. إنك هنا ستكونين "رمز الكمال الإنسانيّ" ارتقاء نحو "كل الكمالات ومنتهاها" في العالم العلويّ. إذ كيف سيحيا عاشق دون أنثى بشرية. لا يفكرُ الحبّ، الحبّ الحقيقيّ، كثيرا بذلك، منفلت متفلت من إسار شهوته المحدودة. لكنه يطمح إليها كذلك. إنّ عبور الجسد لا يكون إلا مقدّمة، شراباً، خمراً، نشوة أولى مغرقة وناقلة إلى ذلك العالم الرحب في داخلك. مرحلة وتنقلك إلى الله متجليا في اتحادك الروحي ووصالك الجسدي الأرضي البشريّ. فلتتجدد في كل عبور نهر من جسد لتراك/ لتراه روحك. لتعيش الجسد بحقيقته بمعناه المجرد عما يعرفه غير العارفين. فالكل متحد بالكل، تحب بكلك. فتجرد عن كل نزعة أرضية قد تخذلك بأرضيتها وتشدّك إليها دون سواها. لتلتقي بمحبوبك حسيّا وروحيّا. لتكون حقيقة ذروتك. ذروتك الحقيقية. لكن دون أنْ تسألَ كيف يحدث كلّ ذلك. لا أحد غيرك يستطيع أن يحسّ بذلك دون أن تكون قادرا على ترجمته كلاما مفهوما لكل هؤلاء الذين يحيطون بعالمك. فتمتعْ فأنت في جنة الحبّ وحدك!
وسوم: العدد 676