طبقاً عن طبق
كان من مقتضى الانسجام في ذلك البنيان ان تتوالى طبقاته صعداً طبقاً عن طبق, فلا يكون فوق اولاها الا ما يتوافق في اغراضه, فضلاً عن سماته وملامحه وجمالياته, مع ذلك الاساس الاول والقواعد المرفوعة في حاق موضعها من بيئتها القيمية ومناخها الروحي..
ذلك ما كان يتطلب المنطق وتزكية الوجدان ومتانة البنيان. بيد ان ما ينبغي ان يكون لا يلبث ان تجتال الارادات عنه التقارير وان يكون ذلك–في لا معقوليته–بالغاً اقصى درجات التناقض وابلغ تجليات اللامعقول.
واذا كان من عبرة يخلص اليها من يتوسم هذه الظاهرة/ الانتكاسة فهي ان النقص مستول بالضرورة على البشر, وان الكمال في دنيا الناس من المحال. والا فهل يتصور العقل ان يبنى فوق مسجد منذور لأن يذكر فيه اسم الله ويعمره رجال لا يلهيهم بيع ولا تجارة عن ذكر الله, سوق ينادى فيها على البضائع, ثم يبنى فوقها مرقص تقدم فيه الخمور وتمارس الفحشاء؟
إن هذا الذي يرفض العقل تصوّره واقعاً ملموساً لا يعدو أن يكون مثالاً يمكن تنزيله على وقائع لا تبعد في حقيقتها عن أسوأ منكر يمكن التحقق من وجوده. وهو دليل على أن في دائرة الامكان لدى الانسان ان تردّه جِبِلّتُهُ, اذا هي عميت عن فطرتها الاولى, الى «اسفل سافلين» من بنيته العقلية والشعورية, فلا يعود العقل ولا الاخلاق يقودانه بقدر ما يقوده هواه الذي هو مظنة هلاكه, والذي ينحدر به في الظلمات, دركاً اثر درك, ويظل ينفخ في روعه أنه يحسن صنعاً, على حين يحط به في سواء الجحيم.
إن حاجتنا بالغة الشدة اليوم الى ان نكون مستبصرين بحكمة للتاريخ تقفنا على معنى للتقدم والتطور والحداثة غير هذا الذي ننتحله من فتات موائد الغربيين. وإن ما نحن فيه من عماية ومزاورة عن منطق الحياة الحقيقة التي تتسامى تجلياتها, طبقاً على طبق, الى مرتبة «أحسن تقويم» سَيثّاقلُ بنا الى الارض ويحبسنا في اعقاب الأمم, ويحول بيننا وبين أن نكون اصحاب الرسالة التي كانت ذكراً (أي شرفاً) لأمة العرب, ورحمة للعالمين. وكل حديث عن التطور والتقدّم خارج دائرة هذا التأصيل لا يعدو أن يكون لدى النظر المدقق, تضليلاً في تضليل.
وسوم: العدد 680