أما آن للمسلمين أن يعودوا ؟
مؤلم ما تمر به الأمة الإسلامية من ضعف ووهن وصراع داخلي وتشرذم مهيمن علي كل المستويات الداخلية والخارجية .
مؤلم أن تجد تلك الأمة التي حملت الرسالة الأخيرة من السماء للبشرية تحتاج لمن يعلمها مبادئ القراءة ، ومبادئ الأخلاق ، ومبادئ الحرية ، ومبادئ الحياة .
مؤلم أن يكون مصير أمة " اقرأ " ، و " قل سيروا في الأرض " ، و " إنما يخشي الله من عبادة العلماء " أن تكون مجرد سوق يتلقي منتجات الغرب الصليبي الصهيوني ، مجرد سوق يتلقي كل شئ ، بدءا من سجادة الصلاة التي تحمل مؤشر اتجاه القبلة ، مرورا بنوعية الطعام والملبس والسلوك ، وحتي الثقافة بكل ما تشمله من معني .
مؤلم أن تضيع أمة " اعتصموا " في متاهات الخلافات المذهبية التي كادت أن تودي بها حد التناحر المسلح في القطر الواحد ، خلافات لا أصل لها في الدين ، من صنع البشر لا من صنع كتاب رباني أمر المسلمين بالتمسك به والاستعصام بحبله المتين مأمورين بعدم الفرقة والاختلاف القاتل .
مؤلم أن لا يدرك المسلمون أنهم صاروا أعداءا لدينهم بفكرهم المتغرب ، أعداءا لأنفسهم بفرقتهم ، أعداءا للإنسانية بجهلهم الذي كان سببا في تأخير التقدم الإنساني للعالم حد أن يكون الإنسان تهديدا لوجوده علي الأرض بإنتاجه أسلحة الدمار الشامل نظرا لغياب مشروع هداية خلف جهل المسلمين به وتخلفهم عنه .
مؤلم أن تضيع أمة محمد صلي الله عليه وسلم بين غياهب التاريخ المزيف ، والواقع المر ، والغد المجهول ، والفقر الإنساني ، والمرض العقلي والضعف العقدي .
مؤلم أن لا تدرك أمة الهداية حجم المشروع الذي تحمله ، وحجم الدور المنوط بها ، وحجم الأمانة في رقبتها ، ففرطت في الأمانة ، وتنازلت عن الدور ، وباعت قضيتها في غير مقابل
إن المتأمل في حال الأمة ليعجب كيف بأمة تحمل هذا المنهج ثم هي تتفرق علي فهمه وتفسيره بهذا الشكل الذي جنح بها عن جادة الإسلام الحقيقي فصارت لا تحمل منه إلا الاسم
فتمر عشرات السنين بل والمئات وهي مكبلة الفكر والفهم مجهولة المصير .
ولولا أن الإسلام هو الرسالة الخاتمة ما كانت عقولنا تستوعب أنه يمكن لها أن تعود ، أو أن بناءها يمكن أن يشيد من جديد .
إنه من العبث أن ننظر لحال الأقطار الإسلامية كل علي حدة ، فهنا النكبة السورية ، وهناك الانقلاب في مصر ، وذلك عدوان اليمن ، وتلك مشكلة العراق ثم ليبيا وتونس والمغرب العربي ، ثم بورما والأقليات المسلمة في كل مكان ، إنه من العبث أن نجزئ الحالة العربية والإسلامية بينما هي في نظر الغرب قضية واحدة ، وبؤرة واحدة ، وفكرة واحدة ، هي بالنسبة للغرب المصحف مقابل الصليب ، كما أعلنوها دون خجل بينما نجد حكامنا ومسئولينا يدافعون عنهم لتسطيح مسألة الصراع الوجودي بين الشرق والغرب ، أو بين الفكرة الإسلامية ، والفكرة الصليبية ، بل نجد من هؤلاء من يحاول تذويب الفكرة لتضيع معالمها في بوتقة الحضارة الغربية العرجاء إمعانا منهم في محو القضية من عقول أبنائها ، لنجد أنفسنا في النهاية وقد تصدينا للغرب لغير سبب يذكر ، فضلا عن التسليم له لنكون مجرد سوق استهلاكي للسع والخدمات والأفكار علي حد سواء ، وتكون إما غربيا متحضرا ، أو عربيا متخلفا ، إما مستهلكا لمنتجات حضارة مصنوعة لندفع ثمن رفاهيتهم ، أو تكون إرهابيا رجعيا عدوا للإنسانية .
إنه من العبث أن تستبعد الإسلام من المعركة ، بينما الحرب في أساسها كانت عليه ، سواء كانت هذه الحرب جهلا به ، أو خوفا منه ، المحصلة في النهاية واحدة وهي أن العالم الإسلامي لم يعد يعني بالنسبة للآخر سوي رمز للتخلف والإرهاب ، وربما في نظر البعض لا يستحق الوجود أو لا يستحق لقب الإنسانية ، حارب الدين ليتحول الأمر في النهاية أن نحاربه نحن وتتخفي منه بالتقليد الأعمى للمظهر الأوروبي حتى نخرج من دائرة الاتهام ، وعادي المسلم ذاته حتى فقد الرؤية وفقد الوعي والإدراك بالذات فضلا عن الغير ، ويقول الدكتور علي شريعتي في هذا " العالم الآن لا يضم أكثر من كتلتين ، كتلة الراكبين وكتلة المركوبين ، كتلة الراكبين من الغرب الرأسمالي والشيوعي وكتلة المركوبين والمستضعفين التي تضم بقية العالم "
ويستشهد شريعتي ببرتراند راسل الباحث عن الحرية ونظرته للعرب إذ يقول " إن النفط ملك الحضارة ، ليس ملك حسن أو حسين أو قبيلة كذا أو شعب كذا ، ملك الحضارة وملك الصناعة وملك البشرية "
إنه يري أن العرب أو المسلمين أو ما يسموا بالعالم الثالث والرابع والخامس ليسوا أهل لما يملكونه ، ليسوا أهل إلا أن يكونوا مستهلكين لمنتجات حضارتهم ، وتلك شهادة ليس رجل غربي عنصري ، إنما رجل حر بمنظور التاريخ
وسيظل العرب والمسلمين حاملين لتلك النظرة الدنية ما لم ينفضوا عنهم كل ما علق بهم عبر مئات السنين من تحزب أعمي وأفكار ليست من دينه وعبادات لاهوتية شبهت المسجد بالكنيسة في أدائها ، ولا تكاد تخرج من باب المسجد للشارع لتكون سلوكا معبرا عن الدين الذي حث علي طلب العلم والعمل والسعي والوحدة ونبذ الفرقة والأخذ بكافة الأسباب الأرضية والسنن الكونية مع التوكل الكامل علي الله عز وجل ، أمر أتباعه لتكون الدنيا في أيديهم يتموا بنائها ويحسنوا صنعها ، بل وجعل الإحسان من أعلي درجات العبودية لله ، وجعل في غرس الفسيلة في الأرض حتى لو انتهت الدنيا تقربا من الله وعمل عظيم ، لكن الفرق في الأداء بين الإسلام وبين الشريعة الغربية ، إن العمل والسعي والبحث عند المسلم وسيلة لا غاية ، وتعبيد للأرض لله لا أن يكون هو عبدا لديها ، عبدا لرغباته وراحته وطمعه ، الفرق بين الإسلام وغيره أن المسلم يجب عليه أن يملك الدنيا ليصلحها ، ولا تملكه فيفسدها ويفسد ذاته .
وهنا يجب أن نتساءل ، إلي أي شيء يجب أن يعود المسلمين كي يتحملوا مسئوليتهم تجاه العالم ؟ إلي أي هوية ؟ إلي أي مذهب ؟ والخلاصة يمكن أن نسأل ، إلي أي دين يجب أن يعود المسلمون ؟
من الصعب أن يجد أحد منفردا جوابا لهذا السؤال ، وذلك لأننا في حقيقتنا لسنا علي قلب دين واحد ، فما يعرف هنا ستجد له تعريفا مغايرا وربما معاديا في مكان آخر ، لكنني أستطيع أن أذكر بعض ملامح هذا الدين دون التطرق لنقاط خلاف تضاف لرصيد الخلاف الوافر لدينا كمسلمين ، ما أستطيع أن أقول عنه أنه هو الدين الذي جعل سلمان الفارسي يهاجر أهله وهو ابن سيد قومه باحثا عنه في عمق الصحراء ليصير في النهاية من آل البيت ، الدين الذي جعل صهيب الرومي أن يترك كل أمواله تجارته ، ولا يخرج إلا برداء بال من مكة حبا في الهجرة إلي رسول الله ليقول عنه المصطفي صلي الله عليه وسلم ربح البيع أبا يحيي ، الدين الذي دفع مصعب بن عمير الشاب المرفه يتحمل تعذيب أبويه له ثم هو يتركهما هاربا بدينه فيكون الفقير الغني بعد الغني والدعة ، الدين جعل مسلمي مكة يتركون أموالهم وأبناءهم وأهليهم وديارهم في هجرتين خالصتين لله للحبشة ثم المدينة ، الدين الذي انطلق من الجزيرة العربية ليبني أعظم حضارة في تاريخ الإنسانية في سنوات معدودة ، الدين الذي هذب نفوس الأعراب ليصيروا أرق من رؤية طائر جائع فتنثر الغلال علي رؤوس الجبال حتى لا تجوع الطيور في بلاد المسلمين ، الدين الذي يجعل الجندي الصغير يحمل أموال وكنوز كسري ويذهب بها إلي المدينة بكسرة خبز وبعض الماء ويلقي بحمله علي الأرض غير عابئ بما يحمل غير أن تصل الأمانة لخليفة المسلمين ، الدين الذي يجعل أمة متفرقة ترعي الغنم وتشرب الخمر ويكون همها معاقرة النساء وتتباهي به شعرا إلي امة تهزم اعتي إمبراطوريتين في العالم وقتها ، أمة غير عابئة بالموت في سبيل الله ، غير أنها لا تهدم بئرا ولا تقتل شيخا ولا طفلا ولا امرأة ، أمة تقدس العلم والقراءة والكتابة والقوة والغني غير أنها تسخر كل هذا لله ولإصلاح العالم وسعادته
هذا هو الدين المقصود ، الدين الذي أحيا العالم بعد موت ، وأيقظه بعد سبات ، وساده عدلا بعد ظلم ، وحرره بعد عبودية وأغناه بعد فقر إنساني مدقع ، هذا هو الإسلام الذي يجب أن تعود إليه الأمة كي تنقذ نفسها وتنقذ العالم من حولها ، فمتى تعود ؟
وسوم: العدد 682