في بيتنا هرة
أوتْ إلينا هرةٌ صغيرةٌ، فأشفقنا عليها وأطعمناها، فلازمت البيت، ولم تعدْ تبرح، وعرَضَ لنا سفرٌ وحملنا همَّها ولكن قلنا: هي مُطلقة والله سيرزقها، وغبنا أسبوعين وعدنا فلم نرها، ثم عادتْ بعد يومين، ورجعتْ إلى عادتها في لزوم البيت[1].
وتعودتْ إذا جاعتْ أنْ تقفزَ إلى نافذة المطبخ، وتضربُ على الزجاج.
ومرت أيامٌ فلم نعد نراها تقفزُ إلى النافذة، ثم تبين أنها حامل، وكأنها تخشى على أجنتها...
وولدتْ ثلاثةَ أولاد قبل موعدهم، وكانوا ميِّتين، فجلستْ عليهم ساعات، ثم لما أيستْ منهم أكلتهم!
واشتدَّ الحرُّ فاكتشفتْ هواء باردًا يَخرجُ مِنْ أسفل أبواب الغُرف، فكانت تلتصق بالباب التصاقًا شديدًا، وتجعل صدرَها إلى جهة الباب.
وكنّا نفتح لها البابَ أحيانًا فتدخلُ وتضطجعُ تحت المقاعد، وتغمضُ عينيها، وتستغرقُ في النوم.
وغفلنا عنها مرةً، وإذا بها تصعدُ على المقاعد، وتتمددُ على الآرائك.
ثم صارتْ تهجمُ إذا فُتِحَ بابُ الغرفة هجومًا، هربًا من الحرِّ الشديد.
ثم حملتْ ثانية، وولدت ولدين: واحدًا أشقر جميلًا، وآخرَ أسود كالليل، وقد اختارتْ مكانًا آمنًا تحت شجرةٍ كثيفةٍ في ممرٍّ ضيقٍ داخل سياج البيت.
ولا أدري لِمَ فرحنا بهذين القطين الصغيرين، وصرنا نراقبُهما وهما يتدافعان على أثداء أمهما، ونعجبُ مِنْ لونيهما المختلفين، ومِنْ تنافسهما على أسباب الحياة.
وشعرنا بواجبٍ نحوهما فضاعفنا مِنْ تقديم الحليب واللحم للأم المُرضع.
وصارتْ تأتي فتشربُ الحليب وتأكل، ثم تعود إلى ولديها، وتتمدد وتغمضُ عينيها وكأنها تعبِّرُ بذلك عن راحتِها وسعادتِها بهما وهما يتدافعان ويطآن عليها...
والحقُّ أننا وجدنا ببرِّهم ومتابعتهم شيئًا مِنْ راحةٍ مِنْ بعضِ ضغوطِ الدنيا، وهمومِها.
وبهذه المناسبة كان هذا المقال، وفيه طُرفٌ ولُمعٌ مِنْ أخبارِ هذا الحيوانِ الأليفِ الطوّاف علينا.
ويظهرُ في هذه الأخبار أثرُ السُّنة في الوصيةِ بها ورحمتِها، وعدمِ الإضرارِ بها.
♦ ♦ ♦
الهرة في السُّنة النبوية:
لقد كان للهرة في السُّنة النبوية ذكرٌ صالحٌ، في الحثِّ على الرحمةِ بها وعدمِ تعذيبها، ومن ذلك ما جاء عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ - رضيَ اللَّهُ عنهُما - أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قالَ: "عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حتَّى ماتَتْ، فدخَلتْ فيها النارَ، لا هيَ أَطْعَمَتْهَا، ولا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، ولا هيَ تَرَكَتْهَا تأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرض[2]"[3].
وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضتْ عليّ الجنة، حتى لو تناولتُ منها قطفًا أخذته، (أو قال: تناولتُ منها قطفًا، فقصرتْ يدي عنه)، وعُرِضتْ عليّ النارُ فرأيتُ فيها امرأة مِنْ بني إسرائيل تُعذَّب في هرةٍ لها، ربطتْها فلم تطعمْها، ولم تدعْها تأكل مِنْ خَشَاشِ الأرضِ، ورأيتُ عمروَ بن مالك يجرُّه قصبه في النار"[4].
وقد أفردَ العلماءُ الأحاديثَ الواردة فيها بالتأليف، كما سيأتي معنا، وهذا غير الحديث عنها في الكتب التي تناولت الحيوان للجاحظ، والدميري، والإسكندري.
♦ ♦ ♦
الصحابي الجليل أبو هُريرة:
قال الحافظُ ابنُ حجر في ترجمته:
"قال أبو علي بن السكن: اختُلِفَ في اسمه:
فقال أهلُ النسب: اسمُه عمير بن عامر.
وقال ابنُ إسحاق: قال لي بعضُ أصحابنا عن أبي هريرة: كان اسمي في الجاهلية عبدَ شمس بن صخر، فسمّاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَالرحمن، وكُنيتُ أبا هُريرة لأني وجدتُ هرة فحملتُها في كمّي، فقيل لي: أبو هُريرة. وهكذا أخرجه أبو أحمد الحاكم في "الكنى" من طريق يونس بن بكير عن ابنِ إسحاق، وأخرجه ابنُ منده مِنْ هذا الوجه مطولًا.
وأخرج الترمذيُّ بسندٍ حسنٍ عن عبيدالله بن أبي رافع قال: قلتُ لأبي هُريرة: لِمَ كنيتَ بأبي هُريرة؟
قال: كنتُ أرعى غنمَ أهلي، وكانتْ لي هِرةٌ صغيرةٌ، فكنتُ أضعُها بالليل في شجرة، وإذا كان النهار ذهبتُ بها معي فلعبتُ بها، فكنوني أبا هُريرة. انتهى.
وفي صحيح البخاري أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا هِرٍّ.
وأخرج البغوي من طريق إبراهيم بن الفضل المخزومي - وهو ضعيفٌ - قال: كان اسمُ أبي هُريرة في الجاهلية عبدَ شمس، وكنيته أبو الأسود، فسمّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَالله وكناه أبا هُريرة"[5].
♦ ♦ ♦
أبو الحسين النوري (ت: 295هـ) والهر:
قال الغزالي وابنُ الجوزي: "دخل الشبليُّ على أبي الحسين النوري - وهو معتكفٌ - فوجده ساكنًا، حسنَ الاجتماع، لا يتحرّك مِنْ ظاهرهِ شيءٌ، فقال له: مِنْ أين أخذتَ هذه المراقبة والسكون؟ فقال: مِنْ سنّورٍ كانت لنا، فكانتْ إذا أرادت الصيدَ رابطتْ رأس الحِجر لا تتحركُ لها شعرة"[6].
♦ ♦ ♦
الشبلي (ت: 334هـ) والهرة:
قال الدميري:
"روى ابنُ عساكر في "تاريخه" عن بعضِ أصحاب الشبلي أنه رآه في النوم بعد موته فقال له: ما فعل اللهُ بك؟
فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرتُ لك؟
فقلتُ: بصالح عملي. فقالَ: لا.
فقلتُ: بإخلاصي في عبوديتي. قالَ: لا.
فقلتُ: بحجّي وصومي وصلاتي. قالَ: لم أغفرْ لك بذلك
فقلتُ: بهجرتي إلى الصالحين، وإدامة أسفاري في طلب العلوم. فقال: لا.
فقلتُ: يا ربِّ هذه المُنجيات التي كنتُ أعقدُ عليها خنصري، و ظنّي أنك بها تعفو عني وترحمني. فقال: كل هذه لم أغفرْ لك بها.
فقلتُ: إلهي فبماذا؟
قال: أتذكرُ حين كنتَ تمشي في دروب بغداد، فوجدتَ هرةً صغيرةً قد أضعفَها البردُ، وهي تنزوي مِنْ جدارٍ إلى جدارٍ مِنْ شدة البردِ والثلجِ، فأخذتَها رحمةً لها فأدخلتَها في فروٍ كانَ عليك وقايةً لها مِنْ ألمِ البرد؟
فقلت: نعم.
قال: برحمتِك لتلك الهرةَ رحمتُك"[7].
♦ ♦ ♦
ابن بابشاذ والقط المُبصر والقط الأعمى:
قال ابنُ خلكان في ترجمة العلامة النحوي طاهر بن أحمد بن بابشاذ إمام عصره في علم النحو (ت: 469هـ):
"ويُحْكى أنه كان يومًا في سطح جامع مصر وهو يأكل شيئًا وعنده ناسٌ، فحضرهم قطٌّ فرموا له لقمة، فأخذها في فيهِ وغاب عنهم ثم عاد إليهم، فرموا له شيئًا آخر ففعل كذلك، وتردد مرارًا كثيرة وهم يرمون له وهو يأخذه ويغيبُ به ثم يعود من فوره، حتى عجبوا منه، وعلموا أنَّ مثل هذا الطعام لا يأكله وحده لكثرتهِ، فلما استرابوا حاله تبعوه فوجدوه يرقى إلى حائطٍ في سطح الجامع، ثم ينزل إلى موضعٍ خال صورة بيت خراب، وفيه قطٌّ آخر أعمى، وكل ما يأخذه من الطعام يحمله إلى ذلك القط ويضعه بين يديه وهو يأكله. فعجبوا من تلك الحال، فقال ابنُ بابشاذ: إذا كان هذا حيوانًا أخرس قد سخر الله سبحانه وتعالى له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرمه الرزق، فكيف يضيع مثلي؟ ثم قطع الشيخُ علائقه، واستعفى من الخدمة، ونزل عن راتبهِ، ولازمَ بيته، واشتغاله، متوكلًا على الله سبحانه وتعالى. وما زال محروسًا محمولَ الكلفة إلى أنْ مات عشية اليوم الثالث من رجب سنة تسع وستين وأربع مئة بمصر، ودُفِنَ في القرافة الكبرى، رحمه الله تعالى"[8].
"وكان وظيفته بمصر أن ديوانَ الإنشاء لا يخرجُ منه كتابٌ حتى يعرض عليه ويتأمله، فإن كان فيه خطأ مِنْ جهة النحو أو اللغة أصلحه كاتبُه، وإلا استرضاه فسيروه إلى الجهة التي كُتِبَ إليها، وكان له على هذه الوظيفة راتب من الخزانة يتناوله في كل شهر، وأقام على ذلك زمانًا"[9].
أي هو مدققٌ لغويٌّ للرسائل التي تصدرُ عن الدولة.
♦ ♦ ♦
سيف الدولة الأسدي والهرة:
قال الصفدي في ترجمة ملك العرب سيف الدولة صاحب الحلة صدقة بن منصور الأسدي (ت: 501هـ):
"يقال إنه استقبلته مرة هرةٌ وثبتْ إلى أعطافه، وطاشتْ إلى وجهه، وخدشتْ عرنينه، فأنشد:
أما إنه لو كان غيرك أرقلتْ * إليهِ القنا بالراعفات اللهاذم"[10].
♦ ♦ ♦
السمعاني والهرة:
للحافظ أبي سعد عبدالكريم بن محمد السمعاني الشافعي (ت: 562هـ): "فضائل الهرة"، ثلاث طاقات". قال الذهبي: "يقع لي أنَّ الطاقة نصف كرّاس"[11].
♦ ♦ ♦
الرفاعي والهرة:
قال محدث واسط تقي الدين عبدالرحمن الواسطي في كتابه "ترياق المحبين" الذي أفرده لسيرة السيد أحمد بن علي الرفاعي (ت: 578هـ):
"كان سيدي أحمد قد نام يومَ الجمعة قبل الصلاة، فجاءتْ هرة فنامتْ على كمِّه، فاستيقظ فوجدها نائمة على كمه فلم يسهلْ عليه أنْ يزعجها من نومها، فطلب من زوجته الصالحة رابعة المقص، فأتتْ به، فقصَّ كمه وتركه تحت الهرة ومضى إلى الجامع، فصلى الجمعة، فلما رجعَ من الصلاة وجد الهرة قد قامتْ من النوم، فأخذ كمَّه وخاطه، فلامته زوجتُهُ على ذلك، فقال لها: أي بنتَ الشيخ ما كان إلا الخير، وهذا لا يعيبنا وحصلتْ الحسنة".
♦ ♦ ♦
وقال الواسطي أيضًا:
"قالت الشيخة الصالحة رابعة - طاب ثراها - يومًا لسيدي أحمد: هل تطلب نفسك شيئًا، فأخبرها أن نفسها نفسه تطلب هريسًا منذ مدة طويلة. فقالت: أي سيدي، ما أهون هذه الشهوة وما أوجدها؟
فقال: أي بنتَ الشيخ، كيف آكل هريسًا والفقراء لا يأكلون؟! وكيف أخونُهم وأختصُّ دونهم بشهوةٍ من شهواتِ الدنيا؟!
فقالت: أي سيدي أنا أعمل هريسًا يكفي الفقراء.
فقال: بارك اللهُ فيك، ثم شرعتْ في عمل هريسٍ كثيرٍ، فلما فرغ أمرتْ أن تقسم بين الفقراء، وأن يعزلَ نصيب واحد لسيدي أحمد أسوة بالفقراء، ففعل ذلك وأحضر نصيبه فقدمته بين يديه، وأخبرتْهُ أنَّ الفقراء قد أكلوا، فحمد الله ثم قام يصلي ركعتين شكرًا لله تعالى، فبينما هو قائمٌ يصلي إذ جاءتْ فأرة، فجعلت تدورُ حول الهريس وتشمه، فنهضتْ عليها هرة فقطعتْ رأسَها، فلما فرغ مِنْ صلاته بكى ثم نحى الهريسَ عنه، فقالت له زوجتُهُ الصالحة رابعة: أي سيدي لمَ تنحيه عنك؟ فقال: أي بنتَ الشيخ: شيء تُقْطعُ فيه الرؤوسُ ما لأحمدَ فيه نصيبٌ".
♦ ♦ ♦
ابن سميع الحلبي (مِنْ أهل القرن السدس الهجري):
قال الإمامُ ابنُ العديم (ت: 660هـ) في ترجمة أبي سعد بن أبي الحسين بن عبدالله الشرابيشي الحلبي:
"سمعتُ الشيخ الصالح أبا عبدالله محمد بن أبي سعد قال: حدثني أبي قال: كان بحلب رجل يقال له ابن سميع يسكن بباب اليهود الذي يقال له الآن باب النصر، وكان ضامن سوق الدواب مكاسا.
قال الشيخ محمد: وكان بينه وبين والدي معرفة، فاتفق أن حضرته الوفاة فأوصى إلى والدي أن يخرج عنه حجة وصدقة، وغير ذلك، وكان له أخوات لم يكن له وارث غيرهن، وكان لبيت المال معه تعلق، وأثبت والدي وصيته عند مُحيي الدين بن الشهرزوري، وحضر بعد موته بمدة نوابُ الحشر ووالدي داره لاعتبار تركته.
قال والدي: فابتدر أحد الجماعة وقال: رأيته في النوم وهو على حال حسنة، وقال لي: غفر الله له بهذه القطيطة، فنظرت فإذا هرة مبتلة في الشمس، فسمع أخواته من أعلى الدار قول القائل عن المنام فقالوا: واللهِ نعرفُ له حكاية مع هذه القطة التي تذكر، وذلك أنه كان له هرةٌ يألفها، وتدورُ به ويحضنها، ويطعمها على مائدته، ويأنس بها، فاتفق أنه خرجَ يومًا إلى سوق الدوابِّ فمضتْ الهرة إلى المُستراح فسقطتْ فيه، فلما جاء من سوق الدوابِّ وعليه الترابُ جلس ومدَّ رجليه إلى أسفل القاعة، وطلب ماء ليغسلَ رجليه وسأل عن طعامٍ هيئ له، فصعدتْ أختُه لتصبَّ له الطعام، وبقيتْ أختُه الأخرى عنده تغسلُ رجليه، فقالتْ له: ما تعلمُ يا أخي ما جرى على القطيطة؟
فقال لها: وما ذلك؟
قالت: سقطتْ في المُستراح.
فقال: لا آكلُ حتى أخرجها، ومنعهم من إنزال الطعام، وقام وشمّر ثيابه، وأخذ المجرفة، وجاء إلى المُستراح وفكَّ البلاط، وحفرَ حتى وصل إلى رأس الجب الذي يستخرج منه الغائط، فأراد رفعَ الطابق فامتنع عليه، فخرج إلى خارج الدار واستعان بمَنْ أعانه على قلعه، ثم حفرَ في الحائط، وعارضَ خشبة، وجعلَ فيها حبلًا وأمسكه بيده وانخرطَ فيه حتى نزل، فوجد الهرةَ جالسة على التقن[12]، فأخذها وصعِد، وغسلها، وتركها في الشمس حتى يبست، فهذا حالُه مع الهرة"[13].
♦ ♦ ♦
الآمدي والقطة:
جاء في ترجمة الإمام سيف الدين علي بن أبي علي الآمدي الشافعي (ت: 631هـ):
"وكان فيه رقةُ قلب، وسرعةُ دمعة. ومِنْ عجيب ما يُحكى عنه أنه ماتتْ له قطة بـ "حماة" فدفنها، ولما جاء إلى "دمشق" نقلَ عظامَها في كيسٍ، ودفنها في تربة بقاسيون"[14].
♦ ♦ ♦
ابن خلكان وسنورعبدالله:
قال ابنُ خلكان (ت: 681هـ) معرِّفًا بيزيد الحميري:
"وكان يزيد الحميري خال المهدي مقدمًا في دولة بني العباس، ولي للمنصور البصرة واليمن، وماتَ في سنة خمس وستين ومئة بالبصرة، وفيه قال بشار بنُ برد:
أبا خالدٍ قد كنتَ سباح غمرةٍ
صغيرًا فلما شبتَ خيمت بالشاطي
وكنتَ جوادًا سابقًا ثم لم تزل
تأخر حتى جئتَ تخطو مع الخاطي
فأنتَ بما تزداد مِنْ طول رفعةٍ
وتنقصُ من مجدٍ كذاك بإفراطِ
كسنورِ عبد الله بِيعَ بدرهمٍ
صغيرًا فلما شبَّ بِيعَ بقيراطِ
قلتُ [القائل ابن خلكان]:
لقد كشفتُ عن سنورِ عبدالله المَظانَّ، وسألتُ أهلَ المعرفة بهذا الشأن، فما عرفتُ الخبرَ عن ذلك، ولا عثرتُ له على أثر، واللهُ أعلم.
ثم ظفرتُ بقول الفرزدق، وهو:
رأيتُ الناسَ يزدادون يومًا
ويومًا في الجميلِ وأنت تنقصْ
كمثل الهر في صغرٍ يُغالى
به حتى إذا ما شبَّ يرخصْ
ومِنْ هاهنا أخذ بشارٌ بقولهِ، وليس المراد هرًّا بعينهِ، بل كل هر تكون قيمتُه في صِغره، وينقصُ منها في كِبره، واللهُ أعلم"[15].
♦ ♦ ♦
ابن طولون والهر:
للعلامة شمس الدين ابن طولون الحنفي الدمشقي (ت: 953هـ): "إظهار السر في فضل الهر"، ذكره لنفسه في كتاب سيرته[16].
♦ ♦ ♦
الجزيري والهر والهرة:
للشيخ عبدالقادر بن محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي (توفي بعد سنة976): "رفع المَضرَّة عن الهر والهرة"[17].
♦ ♦ ♦
القاري والهرة:
للعلامة الملا علي بن سلطان محمد القاري الهروي المكي الحنفي (ت: 1014هـ): "البَرَّة في الهرة"، رأيتها مخطوطة ضمن مجموع في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد، تناولَ فيها الحديثَ الموضوع: "حب الهرة من الإيمان".
♦ ♦ ♦
الشيخ الصالح أحمد السبسبي الحموي والهررة:
حكى الشيخ سعدُ الدين المراد "عن عمِّ والده الشيخ حسن المراد - رحمه الله - عندما كان يذهبُ إلى الشيخ أحمد السبسبي فيرى عددًا من القطط وقد وضعهم بالرحمانية (أي الشيش) كسيخ لحمٍ فقال له الشيخ حسن: لماذا هذا يا شيخ أحمد؟ فردَّ عليه قائلًا: لأنهم يتقاتلون مع بعضهم عندما أريدُ أنْ أطعمهم، أمّا كذلك فكلُّ واحدةٍ منهم تأكل نصيبَها بالتساوي. وعندما كان ينتهي مِنْ طعامهم يقول: بسم الله وينسلهم جميعًا، فيذهبون وكأنَّ شيئًا لم يكن!!"[18].
♦ ♦ ♦
القصاب والهرة:
♦ كان الشيخ عبدالقادر القصاب (ت: 1360هـ) "يرأفُ بالحيوان، وينثرُ الحَبَّ للطيور، والخبزَ للكلاب، ويُطْعِمُ الهررةَ مِنْ طعامه"[19].
♦ ♦ ♦
الشيخ عبدالرحمن زين العابدين والهررة:
قال الشيخ عبدُالرحمن زين العابدين الأنطاكي الحلبي - وهو مِنْ عباقرة علماء عصره - (تُوفي سنة 1411هـ):
"بيني وبين الحيوانات محبةٌ عجيبةٌ... تستقبلني القططُ، والطيورُ، والكلابُ، والحجلُ، والدراجُ... كل هؤلاء كانوا عندي يعيشون في قبو الدار، وعندما أطرق البابَ يخرجون جميعهم لاستقبالي.
لا يعتدي أحدٌ على الآخر!
لقد جمعتْ بينهم المحبّة".
وقال: "كنتُ في أنطاكية، وكان عندي قط محبٌّ، سافرتُ أسبوعًا، فبقي القط على سطح المطبخ بلا طعامٍ ولا شرابٍ، فلما أتيتُ رمى بنفسه عليَّ، وراح ينظرُ إليَّ نظراتٍ فيها عتاب!".
وقال: "مرضتُ يومًا، فلا زمني القطُّ في فراشي، وجاء لزيارتي مُلّا علي ومُلّا أحمد فوجدا القطَّ يمسحُ بيده شعري، وهو يبكي، فأبكاهما، وقالا: هذه أول مرةٍ نرى قطًّا يبكي على صاحبهِ!"[20].
♦ ♦ ♦
الحاجة وهيبة البقاعي والهرة:
قال الشيخ محمد مطيع الحافظ في ترجمة الحاجة وهيبة بنت محمد البقاعي رائدة النهضة النسائية في دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (ت: 1415هـ):
"ولشدةِ رقةِ قلبها كانت ترفقُ بالحيوانات المسكينة الضعيفة، وخاصة القطط التي تغشى البيوت العربية[21]، فتقدمُ لها الطعامَ وترأفُ بها. وقد حدَثَ مرة أنها كانت تمشي قرب بيتها فسمعتْ مواء هرةٍ في إحدي الدكاكين المغلقة، فسألتْ عن صاحب الدكان، فأخبروها عن مكانهِ في باب المُصلى - وكان بعيدًا عن دارها -، فطلبت راجيةً إحضارَهُ ليفتح دكانَهُ ويُخْرِج الهرَّة، وهذا ما تمَّ، وعندما فعلَ لم تنسَ عمله هذا فقدمتْ له هديةً ماليةً.
وأخبارُها في رأفتِها بالحيوانات كثيرةٌ ومتعددةُ الجوانب"[22].
♦ ♦ ♦
الشيخ ابن عثيمين والهرة:
من اللطائف أنَّ الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ) كان مرةً في أحدِ دروسه على سطح الحرم المكي، فأتتْ هرةٌ من بين الصفوف، والشيخ يُلقي الدرسَ فتوقف الشيخُ وقال: ماذا تريد هذه الهرة؟ لعلها تريد ماءً، فسقوها، ثم ذكر الشيخُ فائدةً بمناسبة حضورِ الهرّة، فضحك الجميعُ[23].
[1] مِنْ أمثالِ أهل حلب الشعبية: (شبارق ما بفارق)، يُضرَبُ لمَنْ يلازمُ شيئًا أو أحدًا لا يفارقهُ، وقد سألتُ عن معنى (شبارق) فلم أجد جوابًا.
ثم رأيتُ في اللغة: "الشَّبْرِقُ: ولَدُ الهِرة، وجَمْعُه شَبَارِقُ"، فانكشف المعنى، وظهر أنهم يشبِّهون المُلازم للشيء بالهررة التي تلازمُ البيتَ ولا تدعه.
[2] هي هوامُّ الأرض وحشراتُها.
[3] رواه البخاري ومسلم في عدة أبواب من الصحيحين.
[4] رواه مسلم.
[5] الإصابة (7/ 426 - 427).
[6] إحياء علوم الدين (4/ 399)، ومنهاج القاصدين (3/ 1367).
[7] حياة الحيوان الكبرى (2/ 522).
[8] وفيات الأعيان (2/ 516).
[9] المصدر السابق.
[10] الوافي بالوفيات (16/ 298).
[11] الوافي بالوفيات.
[12] التقن: ترنوق البئر والدمن، وهو الطين الرقيق يخالطه حمأة. المُحكم.
[13] بغية الطلب في تاريخ حلب (10/ 4465).
[14] الوافي بالوفيات، و"إنسان العيون في مشاهير سادس القرون" ص (276).
[15] وفيات الأعيان (6/ 190 - 191).
[16] انظر: الفلك المشحون ص (76).
[17] السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة.
[18] مِنْ كتاب "سلطان العارفين" ص (109).
[19] تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (1/ 548).
[20] انظر: كتاب "المُهاجر الغريب المقهور" ص (247).
[21] أي غير الشقق.
[22] انظر: "الروضة البهية في ترجمة الحاجة وهيبة" ضمن كتاب: "في ربوع الشام: دمشق" ص (621).
[23] مِنْ كتاب: "محمد صالح العثيمين: العالم القدوة المربي والشيخ الزاهد الورع" لإبراهيم العلي وإبراهيم باجس ص (44).
وسوم: العدد 684