في حضرة الفتوى
(كلمة الانضمام إلى "هيئة كبار العلماء" في دائرة الشؤون الإسلامية بدبي، ألقيتْ في جلسة الاستقبال في (30) من محرم الحرام سنة 1437هـ).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا محمّدٍ مُعلِّم النّاس الخير، وعلى آلهِ الأبرار، وصحبهِ الأخيار، والتابعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
سعادة الأستاذ الدكتور رئيس هيئة كبار العلماء:
حضرات العلماء الأجلاء:
أحييكم وأدعو لكم وأستميحُكم العذر بهذه الكلمات.
إنَّ هذه الهيئة التي تُمثِّل مرجعيةً علميةً عُليا هيئةٌ شرّفها اللهُ بأنْ تكونَ موقِّعةً عنه، وأجلّها بجلالِ النيابةِ عن رسولهِ الكريمِ صلى اللهُ عليه وسلم في بيانِ الأحكامِ، وتفصيلِ الحلالِ من الحرام.
ومهامُّها كانتْ فيما سلفَ مهامَ مشيخةِ الإسلام، وقد قام بها علماء فطاحل كانوا نوراً للقلوبِ من الظلمات، وأماناً للعقولِ من الشُّبهات، وعصمةً للنُّفوسِ من الشَّهوات.
وكان فيهم مَنْ رُبَّما أفتى في اليوم ألفَ فتوى باللغات: العربيّة، والفارسيّة، والتركيّة، كما جاء عن الإمام المُفسِّرِ أبي السعود.
وهذا -مع العلم والإتقان والإخلاص- يكونُ -إنْ شاءَ اللهُ- مِنْ أفضلِ الأعمال.
ورحم اللهُ الحافظَ ابنَ حجر القائلَ: "إنّ أولى ما صُرِفتْ فيه نفائسُ الأيام، وأعلى ما خُصَّ بمزيدِ الاهتمام: الاشتغالُ بالعلوم الشرعيّة، المُتلقاة عن خيرِ البرية، ولا يرتابُ عاقلٌ في أنَّ مدارَها على كتابِ اللهِ المُقتفى، وسُنّة نبيهِ المُصطفى، وأنّ باقي العلوم إمّا آلاتٌ لفهمِها، وهي الضالّةُ المطلوبةُ، أو أجنبيةٌ عنها، وهي الضارّةُ المغلوبةُ".
وقد سُئِلَ أبو عثمان بكر بن محمد المازني (ت: 248هـ) عن أهلِ العلمِ، فذكرَ أشياء...ثم قالَ: "والعلمُ الفقه".
ولعِظَمِ هذا المقام جاء عَنْ مفتي دمشق الشيخ محمود حمزة أنه بقي بعد توليه الفتوى لا ينام الليلَ حتى يصلي الفجر، وهو عاكفٌ على مطالعة كتب المذهب، وغيرِها، مع البحث، والتأليف، فكاد يَستظهرُ أغلبَ مسائلِ المذهب الحنفي، ولا سيما ما كان عائداً منها إلى القضاء الشرعي، على اختلاف قضاياه وضروبهِ.
ولعِظَمِ هذا الشأن كان الإمامُ مالكٌ يقول عند الفتوى: "ما شاء الله، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله".
وقال الإمامُ حمّاد بن إسحاق المالكي البغدادي: إني لأستعينُ بكلمةِ مالك -رضي الله عنه -عند فتياهُ، وهي: ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صعبتْ عليَّ المسألة، فإذا قلتُها انكشفتْ لي.
وللخوفِ من الخطأ فيها كان النظرُ الجَماعي لدى السلف:
قال الحافظُ الفسوي في "المعرفة والتاريخ": "حدَّثنا أبو عبد الرحمن بن المبارك قال: كان فقهاءُ المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة:
سعيد بن المسيب.
وسليمان بن يسار.
وسالم بن عبد الله.
والقاسم بن محمد.
وعروة بن الزبير.
وعُبيد الله بن عُتبة.
وخارجة بن زيد بن ثابت.
وكانوا إذا جاءتهم مسألةٌ دخلوا جميعًا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى ترفع إليهم، فينظرون فيها فيصدرون".
وكان في تاريخنا مَنْ يتورَّع عن الفتوى احتياطًا كما جاء عن عددٍ من العلماء، ومنهم الفقيه عبدالله العمراني القزويني (ت: 585هـ)، كما قال الإمامُ الرافعي في "أماليه الشارحة".
ومنهم مَنْ كان يكفُّ عن بابٍ منها.
ولجلالةِ الفتوى رأينا المؤلفاتِ العظيمة الكثيرة في بيانِ جلالتِها، وخطرِها، وشروطِها، وآدابِها، من "الفقيه والمُتفقِّه" للخطيب البغدادي، إلى "تعظيم الفُتيا" لابن الجوزي، إلى "أدب المُفتي والمُستفتي" للنووي، إلى "صلاح العالَم بإفتاء العالِم" لحامد العمادي.
أيها العلماءُ الأجلاء:
لقد ذُكِرَ في ترجمة الإمام أبي الحسن ابن القابسي أنه كُلِّم في الجلوسِ للناس فأبى، فكلم فأبى، فأتىٰ الناسُ يهدمون عليهِ بابَهُ لما أغلقَهُ دونهم، فلما رأى ذلك خرَجَ وهو ينشد:
لعمرُ أبيك ما نُسِبَ المُعلّى ♦♦♦ إلى كرَمٍ وفي الدنيا كريمُ
ولكنَّ البلادَ إذا اقشعرَّتْ ♦♦♦ وصوَّحَ نبتُها رُعِيَ الهشيمُ
وقال: أنا واللهِ ذلك الهَشيم، أنا واللهِ ذلك الهشيم. فبكى وأبكى.
فما عسى أنْ يقولَ أمثالُنا في حضرةِ الفتوى، وفي حضرةِ هذا المقام؟
سعادة الرئيس:
أشكرُ لكم ظناً حسناً أرجو أنْ أرقى إلى تحقيقهِ، وقد جئتُ بنيةِ الاستفادةِ لا الإفادة، وقال العلماءُ: حيثما كنتَ فكنْ قربَ فقيه.
وقالوا: لا يزالُ الرجلُ على خيرٍ ما طلبَ العلمَ، فإذا ظنَّ أنه قد علِمَ فقد جهل.
وفَّقكم اللهُ، وسدَّدكم، وسدَّد بكم.
ووفَّقنا اللهُ وسدَّدنا وسدَّد بنا جميعًا.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
وسوم: العدد 684