الجهل المقدس يكبلنا ...!!
لم يقل :الضعيف أمير الركب ، ولا قال: سيروا على سير أضعفكم .
وإنما قال : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله .....
" والجهل المقدس " في مجتمعاتنا المسلمة ليس حالة فقط ، بل هو في كثير من الأحيان قيم عادات مجتمعية سائدة وسائرة ومتداولة ، وعلى كل صعيد الفردي والجماعي ، والديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي .
" الجهل المقدس " لم يقدسه قرآن ولا سنة صحيحة معتبرة ، عند من دققوا ونخلوا فصححوا أو حسّنوا أو حكموا ...، وإنما قدسته تراكمات عصور من التخلف ، والانحطاط ، والانغلاق ، والخوف ، والانمساخ ، حتى أننا لا نكاد نعلم ؛ متى ؟ وأين ؟ تسلل إلى نصوص وعقول وقلوب أبناء هذه الأمة التي ما تزال تكبل نفسه به ، لتحمي به سلبيتها ، وتقاعسها ، وترددها . بل أحيانا تركن إليه لأنها تحب أن تركن إليه لتمارسه تحت عنوان زائف من الدين والقداسة ، فتكون كمن افترى على الله الكذب ، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله بدعواه هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حق وهذا باطل ، وهذا جميل وهذا قبيح ..
" الجهل المقدس " حالة متسيدة غالبة ، لا يمكن مقاربتها ، لا برفق ولا باخيه ، لأنك مجرد أن تقترب منه سوف يقوم دونه ( سدنة وحراس ) ينخرون كما نخر بطارقة هرقل يوم عرض عليهم الإسلام .
والأعجب في هذا النوع من الجهل ، أن يجد في كل مرحلة من مراحل تراكمه أو تقديسه وتكريسه وتكريزه ، شفعاء يشفعون له ، ويوجهونه ليدخلونه ، رغم ما يتلبس به من كذب صريح على الدين والشريعة ، حظيرةَ القدس ، وما هو منهما في شيء ، فترى العالم المكين بعد أن يدرس سند ( المروي ) ومتنه ، ويخلص بك إلى أنه ، ضعيف واهٍ ، أو لاأصل له ، أو فيه فلان وفلان من الكذابين ؛ يستدير برشاقة عجيبة ، ليوجه هذا القول ، ويلتمس له مقعدا في مصاف كلمات الحكمة التي جاء رسول الله ليعلمها للناس إلى جانب ما علمهم من كتاب . ويزيد طيّب القلب هذا ، فيروي في مساندة المعنى المكذوب على رسول الله ، والمفترى على دين الناس وعقولهم ، ما قارب المعنى أو سانده أو يمكن أن يعتمد بديلا عنه ولو من بعيد ...
شرع أهل علم أصول الحديث أن من علامات وضع الحيث على رسول الله أن يخالف في متنه أي في نصه ودلالته ( صريح العقل ) . ولكن قلما ما وجدنا أن هذا المنهج يعتمد عمليا في نقد النصوص . ونحن هنا عندما ننقل عبارة ( صريح العقل ) ، نقصد بالضبط ما قصده واضعوها وما ضبطوه . بل نجد بعض العلماء قد جعلوا غرضا من أغراض معالجاتهم ( درء التعارض بين المنقول والمعقول ) بأنواع من القول لا تخلو في كثير من الأحيان من التمحل والتعسف . ومع أنهم قالوا قد ينسى الضابط ، وقد يخال الثقة ، إلا أنهم لم يعتبروا هذه القاعدة أيضا ولم يعملوها ..
ونعود إلى ركام ( الجهل المقدس ) الذي يكبل واقعنا ، ويثقل نهوضنا ، ويعيق انطلاقنا لنرصده في واقعنا في مجليين ، الأول ركام من النصوص ، نخال فيها القداسة ، وماهي بذات قداسة . ونظل نتلقاها بالقبول ، ونتداولها في مجالسنا ، ونستند إليها في أقوالنا ، ونفزع إليها إذا أردنا أن نفحم خصومنا . والمجلى الثاني في نمطية من الفكر والعادات محكومة عقليا وسلوكيا بتراكمات هذه النصوص ، لتتربى شعوبنا ، تحت طائلة من المحرم (غير المقدس ) ، والعيب الذي الأصل فيه التغير والتطور . المحرم (غير المقدس) مثل ( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) أو ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) . وهذا إما في تحريم غير المحرم أصلا ، او المبالغة في أمر بعض المنهيات حتى يكون من شأنها أنها الدين كله ، أصله وركنه وذروة سنامه .
ومع ما يضللنا ويقيدنا ويعيقنا ويتعبنا هذا ( الجهل المقدس ) ترانا نلتذ به كما يلتذ الطلا شاربها ، ونترنم على وقع حاديه :
فسيروا على سيري فإني ضعيفكمُ ...وراحلتي بين الراوحل ظالع ..
لم يردّ أحد على هذا المترنم إن كنت ضعيفا فما انت وركب الأقوياء ؟! وإن كانت راحلتك ظالعا فما أنت والسير وراء العضباء ؟!
ورووا لنا في تلافيف هذا الجهل: أن الضعيف أمير الركب ، فخدعونا ولا يصح ، وأكدوه بقولهم سيروا على سير أضعفكم ، ومرروه ، ولا يصح ، فكيف إذا سرنا على سير أضعفنا، نصل الغاية ، ونبلغ الهدف وربنا ينادينا : وسارعوا ، وسابقوا . ورسولنا يعلمنا أن من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزلة ...( الترمذي وحسنه )
كيف ومن الحكمة التي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " .رواه مسلم في باب الأمر بالقوة وترك العجز .
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ونعم ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولنرد جُشاء أهل الجهل على أهله ...
وسوم: العدد 685