حِلْفٌ كَأكْلِ الميتة !

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

في واشنطن التقت مجموعة من المصريين من اتجاهات مختلفة وتباحثوا في حال الثورة والوطن، اتفقوا ... واختلفوا، حدثت مناقشات حامية، علت الأصوات، ثم هدأت، حدثت صدامات، وتم احتواؤها ... لقد نجحوا في عدة أشياء هامة، أولها أنهم جلسوا سويا (للأسف أصبح مجرد جلوس الفرقاء أمرا صعبا).

وثانيها أنهم فتحوا جميع المواضيع الشائكة التي تؤرق المصريين، وثالثها أنهم وصلوا إلى حد أدنى من الاتفاق في كثير من هذه المواضيع.

لقد نجحت هذه المجموعة (وجميعها من المصريين وليس فيهم مسؤول أمريكي واحد) في إدارة حوار امتد لعدة أيام.

قبل أن يبدأ هذا العمل الهام ... أرسلت الدعوات إلى جميع من يقف في مربع مقاومة الانقلاب العسكري في مصر (أيا كانت أفكاره وآراؤه)، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ولم يتم إقصاء أو استثناء أي مصري (من مقاومي الانقلاب كما قلت).

هل في ذلك جريمة؟

عند البعض يبدو أن مجرد محاولة تجميع الناس جريمة !

***

تسربت ورقة (من شخص خبيث نعلمه) للإعلام ... خلاصتها أن المجتمعين قد اتفقوا على صيغة شديدة متطرفة في مسألة (هوية الدولة)، صيغة تمس المادة الثانية من الدستور المصري، تلك المادة التي اتفقت عليها سائر الدساتير المصرية خلال المائة عام الماضية، تلك المادة التي أصبحت من الثوابت الوطنية (حتى الانقلابيين لم يمسوها) !

للأسف الشديد ... بادر كثيرون بمهاجمة هؤلاء المصريين الذين تمكنوا من الجلوس سويا ومن دراسة وبحث مشاكل مصر والثورة المصرية، وصدقوا على شخصيات في غاية النزاهة أنها قد تتورط في مثل هذه الورقة (بشكلها الذي سُرِّبَتْ به).

كان من الممكن – بل من السهل جدا – أن يتأكد كل من هاجم هذه الوثيقة من حقيقة ما جرى ... ولكن يبدو أن أحدا لا يريد أن يتأكد.

كان القصف عنيفا، لم نره فيه حكمة كاتب، أو روية قاض، أو تؤدة سياسي، أو رحمة قريب أو حبيب ... لم نر فيه مروءة رجل، أو تعفف محترم !

***

أمام هذا القصف العنيف بادر بعض الأفاضل بالتبرؤ من المشاركة في هذا المؤتمر (وكأن المشاركة فيه أصبحت سبة) !

وبادر آخرون بالتمسك بالنص المتطرف للورقة المسربة، لإلزام غرمائهم الإسلاميين بما لم يلتزموا به أصلا، وبما لا يمكن أن يوافق عليه إلا قلة من المصريين على وجه اليقين.

تدخلت اللجان الإلكترونية، وبدأت بنفث سمومها، وتعالت أصوات المتربحين من استمرار الوضع على ما هو عليه، وعاد للصدارة الموعودون بالمناصب، ورفع كل أفاك بالسب والطعن عقيرته ... ثم تبين في النهاية أن كثيرا من التفاصيل التي نشرت عن تلك الندوة ليست أكثر من كذب.

من المستفيد من كل هذه الفتن؟ لصالح من إشعال هذا الحريق؟ ولصالح من زرع هذه الأحقاد في قلوب العاملين ضد الانقلاب؟

أطلقوا على المجتمعين وورقتهم لقب (مبادرة واشنطن) همزا ولمزا في هؤلاء، وكأن من يحركهم هم الأمريكان، بينما هم جميعا مصريون، ولم يلتق أي منهم بأي مسؤول أمريكي، والمؤتمر من بدايته لنهاية ليس أكثر من جهود لشخصيات مصرية مستقلة لا علاقة لها بأي مؤسسات أو منظمات رسمية أو غير رسمية !

آخرون وقفوا فخورين في قلب المؤسسات الأمريكية الرسمية، يلتقطون "السيلفي" والصور الشخصية، بابتسامة نصر توحي بتحرير القدس ... ثم يزايدون على من دفع الغالي والنفيس من وقته وماله من أجل محاولة رأب الصدع، ولله في خلقه شؤون.

***

ما زلت أتأمل في الأحداث التي جرت خلال الأيام الماضية لأحاول أن ألمح الجريمة التي تسببت في كل هذا الغضب الجارف، ومع الوقت تأكدت أن محاولة إزالة الخلافات وتوحيد الصفوف تعتبر جريمة في نظر البعض، لأن ذلك يتعارض من رغباتهم في تصدر المشهد !

وكأن أحدا من هؤلاء الذين نظموا ندوة واشنطن يرغب في تصدر المشهد !

فشلكم هو من يدفع الآخرين لمحاولة إنقاذ الوطن، في وقت يستحيل أن تطالب شعبا كاملا بالانتظار لإتمام فشل يمتد عشرات السنين.

خرجت التوصيات (الحقيقية) من أصحاب الشأن، ولم نجد فيها ما يقتضي كل هذه الضجة، ولم نر فيها أي إجرام في حق الدولة، أو في حق الدين، أو في حق الثورة والقصاص لشهدائها.

***

لا بد أن أشكر كل من شارك في هذه الندوة، وعلى رأس هؤلاء الرجل المحترم الذي تحمل كثيرا من سفاهات المدعين، الأستاذ الدكتور سيف عبدالفتاح.

***

في نهاية الأمر ... من حق الجميع أن يتفقوا وأن يختلفوا مع ما ورد في هذه الورقة، ولكن لا بد أن تعلم أيها الثوري الرصين أن من تختلف معهم اليوم ستضطر للتحالف معهم قريبا رغم أنفك، ورغم أنف قياداتك، ورغم أنف حلفائك (إسلاميا كنت أو علمانيا) ... سنضطر جميعا أن نتحالف وإلا ارتقبوا الفناء ... حتى لو كان حلفا كأكل الميتة !

***

بنود الورقة التي صدرت عن ندوة المصريين في واشنطن في سبتمبر 2016 في صياغتها الأخيرة، وثيقة (وطن للجميع) ... لمن يريد أن يطلع عليها :

يعكس الموقعون على هذه الوثيقة بصفتهم الشخصية تيارات سياسية متعددة بغرض مناقشة مشروع ثوري جامع يضم تصورا محدد الخطوات من أجل استكمال ثورة 25 يناير، ويقدمونها للشعب المصري كمشروع مقترح يهدف إلى بلورة مبادئ أساسية للتوافق الوطني بين مختلف القوى الوطنية للوصول إلى ديمقراطية حقيقية وليست شكلية، وضمان بناء آلية عملية تضمن التنافس السلمي والعادل بين مختلف التوجهات في إطار العملية السياسية.

وقد شارك في ورشة العمل التي تم عقد مناقشاتها في واشنطن لمدة ثلاثة أيام متصلة خلال الفترة من الثاني حتى الرابع من أيلول/ سبتمبر 2016، وتمثل المواد التالية الصياغة النهائية للوثيقة التي تم التوافق عليها:

1- ثورة 25 يناير هي الثورة الحقيقية، ويظل شعارها العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية هو الأساس لكل سياسات مستقبليّة.

2- التعدد والتنوع، يعني التعبير عن توجهات مختلفة وآراء متنوعة، والهوية المصرية الجامعة بطبقاتها المتنوعة هي العامل المشترك الموحد لعناصر الشعب المصري، ولذا من اللازم إقرار وقبول هذا التنوع والتعدد والاختلاف عن طريق آلية الحوار الفعال وآلية ديمقراطية تضمن الحماية من ديكتاتورية الأغلبية أو الأقلية.

3- السيادة والسلطة والشرعية من الشعب وللشعب وحده، ويحكم العلاقة بين قواه المختلفة دستور مدني والمساواة التامة بين كل المواطنين، ويتم إعلان وثيقة تضمن الحريات والحقوق لكل فرد من أفراد الشعب دون أية قيود بما فيها حرية ممارسة الاعتقاد وحرية التعبير والنشر والحق في التجمع السلمي بما يشتمل على تشكيل منظمات مدنية وأحزاب ونقابات وحرية ممارسة أنشطتهم على أساس سلمي وبناء على أي مرجعية كانت مع مراعاة عدم التعارض مع بقية المواد الأخرى.

4- صياغة دستور مدني ينص صراحة على عدم تدخل المؤسسة العسكرية في العملية السياسية، ويرسخ الحقوق والحريات على قاعدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق المكملة، ويؤسس للديموقراطية، ويحد من السلطة المركزية ويؤسس لنظام اللامركزية في إصدار القوانين والتمويل، وكذا يسن الضرائب مقابل الخدمات والتمثيل النيابي ويحقق مبدأ مراقبة وتوازن السلطات والفصل فيما بينها، والعمل على خلق حكم محلي قوي.

5- عدم تدخل الدولة في الدين وعدم تدخل المؤسسات والمنظمات الدينية في الدولة، سواء كانت مثل هذه المؤسسات والمنظمات رسمية أو غير رسمية، مع تجريم استغلال الدين بغرض الحصول على أي مكاسب سياسية أو حزبية، ولا تتدخل الدولة في حق الفرد في حرية العبادة وتقف على مسافة واحدة من جميع الأديان

6- وضع استراتيجية العدالة الانتقالية الشاملة لكل الشهداء والمصابين والمتضررين بما يمكنهم من نيل حقوقهم وجبر ضررهم، ويشمل ذلك ما قبل 25 يناير وما بعدها.

7- محاكمة كل من تورط في الدم قبل أحداث الثورة المصرية وما بعدها وحتى الآن.

8- الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والمتهمين في قضايا المقاومة المشروعة، ومحاكمة من قامت ضدهم الثورة وكل من استغل 30 يونيو في الانقلاب على ثورة 25 يناير.

9- إعادة هيكلة جناحي حكم القانون (الشرطة والقضاء) بما يؤسس لمنظومة قضائية وأمنية تحقق العدل والأمن للمواطنين، وتلتزم بالقوانين والمواثيق والأعراف الدولية.

10 - عودة الجيش إلى ثكناته والقيام بدوره الحقيقي في حماية الحدود والدفاع عن الوطن وعدم التدخل في الشؤون السياسية و الاقتصادية، من أهم المبادئ الأساسية لقيام دولة مدنية ديمقراطية حقيقية.

وسوم: العدد 686