قراءةٌ في تداعياتِ أعقدِ صراع تشهدُه المنطقة
في حوارٍ له في مركز الدراسات الاستراتيجية و الدولية في واشنطن، في: 14/ 9، وصف جون برينان ( مدير المخابرات الأمريكية ) ما يحدث في سورية، بأعقد صراع مرَّ عليه في أثناء عمله في قضايا الأمن الوطني، على مدى 36 عامًا، مذكّرًا بأنّ بلاده لا تمتلك حلاً سريعًا، أو عصا سحرية لحلّه، و أنّه سيستغرق وقتًا طويلاً لإيجاد حلّ دائم له، و ذلك للأسباب الآتية:
ـ كثرة الأطراف الداخلية و الخارجية المتصارعة هناك.
ـ عمق الانقسام الطائفي الحاصل فيه.
ـ طول السنوات التي مارست فيها عائلة الأسد القمع، الذي أخمدت به تطلعات البلاد إلى الديمقراطية.
لقد تشابكت المصالح في سورية، لدرجة أنّه لا النظام و لا القوى المنضوية في الثورة باتَ بمقدورهم ( منفردين )، أن يتوصلوا إلى صيغٍ تضعُ حدًّا لهذا النزاع الذي تمّ وصفه كذلك.
فعلى صعيد العلاقات الروسية ـ الأمريكية ما تزال الفجوة بينهما واسعة، و إنّ رغبة الروسية في التوصل إلى اتفاق ( من نوعٍ ما ) قبل انتهاء فترة أوباما، جعلها تستعجل الإعلان عن اتفاق التهدئة الأخير، و أصبح وزير خارجيتها ( لافروف ) يلوّح برفع الغطاء عن بوثائقه الخمسة، ما لم تبادر أمريكا إلى نشره على وسائل الإعلام.
و هو الأمر الذي يرى فيه المراقبون نوعًا من الاضطراب لديها؛ لأنها ـ و بحسب الواضح ـ لم تستطع أن تجعل من الملف السوري ورقة تقايض بها في الملفات الأخرى بينهما، و هي تخشى قرارات الإدارة الأمريكية القادمة بخصوصه، و لذلك نراها تُلحّ على استصدار قرار من مجلس الأمن يُدعِّمه، و يحول دون نقضه منها مستقبلاً، و هو ما تماطل به أمريكا، و لاسيّما بعد ظهور تباينات في المواقف لدى البنتاغون و المخابرات، عن الخارجية.
و على صعيد المصالح التركية؛ فإنّها بعد تحركها الأخير في شمال سورية، أصبحت تحجز مقعدًا لها في الصف الأمامي على طاولة الحلّ لهذا الملف، و قد نالت ما تبغيه مرحليًا في إبعاد داعش و الـ PYD عن حدودها لمسافة تزيد عن 90 كم و بعمق يتراوح ما بين 15 ـ 20 كم غرب الفرات، و هي تترقب المزيد من عمليات الاقتلاع لهما في منطقتي: الباب، و منبج.
و غير بعيد أن يكون لها المسعى ذاته في شرقه، بعدما تواردت الأخبار عن تنسيق مماثل مع الأمريكان في الرقة، و لعلّ أولى طلائعه ما ذكر عن قيامه بإزالة الأسلاك الشائكة قبالة تل أبيض؛ تمهيدًا لدخول قواتها، و هو الأمر الذي جعل قوات PYD تسارع في إعلان تحركها بصحبة الأمريكان في بعض قرى تل أبيض رافعة العلم الأمريكي على بعض السواري؛ خشية أن تلقى المصير ذاته في حالة جرابلس، في ظلّ التفاهمات التركية ـ الأمريكية ( مع غض الطرف الروسية ـ الإيرانية، و حتى نظام الأسد ).
و لا يُستبعَد أن تحمل الزيارة المؤجلة لرئيس الأركان الروسي ( فاليري جيراسيموف ) إلى أنقرة يوم الخميس: 15/ 9، تفاهمات جديدة في هذا ملف، لا تصبّ في مصلحة تلك القوات.
و عن تشابك العلاقات السعودية ـ الإيرانية، غيرُ خافٍ ما حملتْه الأيام الأخيرة من تصعيد ملموس بوضوح بينهما، و قد كانت أزمة الحجّ و ما صاحبها من تصريحات غير معهودة، رأس الجليد الذي طفا.
و يرى مراقبون أنّ ما كان من تحريك ملف: 11/ سبتمبر، بعد مرور خمسة عشر عامًا عليه، ضد السعودية، تحت مشروع قانون ( العدالة ضد رعاة الإرهاب )، أمر عملت عليه قوى اللوبي الإيراني المعادي للمملكة داخل التشكيلة السياسية الأمريكية.
و لربما يقوم أوباما بتوقيعه بعد أن تمّ تمريره بسلاسة عبر الكونغرس الأمريكي بمجلسيه، ليصبح تشريعًا يمكن من خلاله مقاضاة المملكة، و المطالبة بتعويضات مالية، و ذلك بسبب قوة هذا اللوبي في إدارته، ممثلاً بمستشارة الأمن القومي الأمريكي العليا ( سحر نوروزيان ) الإيرانية الأصل، و المعروفة بنشاطها فيه، و التي كان لها دور كبير في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني.
و من غير المستبعد حينها أن تكون مدخرات المملكة في أمريكا، و المقدرة بـ ( 750 ) مليار دولار، تحت رحمة قاضٍ مُبتدأٍ، على حدّ تعبير جمال خاشقجي.
و على الصعيد المحلّي فإنّه يمكننا قراءةُ جملة من الأمور التي حدثت مؤخرًا، منها:
1ـ تخلّي السعودية عن الدعم اللوجستي في الجبهة الجنوبية لصالح الإمارات، و ما رافق ذلك من تبريد فيها، أثار كثيرًا من اللغط في الحواضن الشعبية للثورة.
2ـ تسارع وتيرة التغيير الديمغرافي لدى النظام؛ تمهيدًا لفرض الأمر الواقع، و حمايةً لمشروعه في التأسيس للدولة المفيدة، في حال فرض تسوية من نوع ما.
3ـ الشروع في تفكيك داعش، بما يخدم مصالح الدول صاحبة النفوذ في الملف السوريّ ابتداءً، و قد كان الشروع في ذلك ابتداء من مناطق غرب الفرات، كمناطق جرابلس و منبج، و من ثَمَّ منطقة الباب، حيث ذكرت الأنباء انسحاب ما يقارب 20 آلية لـلتنظيم، من بينها باصات تحمل عائلات مقاتلين له التنظيم من مدينة الباب نحو مدينة مسكنة شرقي حلب.
4ـ تغيير نمط التعاطي التركي مع الملف السوريّ، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة؛ الأمر الذي جعلها تحجزًا لها مقعدًا في الصف الأول، حول طاولة الحل المستقبلي.
5ـ بروز نغمة التخوين، و الغمز من تيارات ذات وزن في الثورة، كجماعة الإخوان، و جاء ذلك متزامنًا مع مؤتمر الشيشان، الذي تمّ فيه إخراجُهم و السلفية من دائرة أهل السُّنة.
6ـ توجيه التُّهم بالخيانة و التقصير لبعض فصائل الثورة، عقب التراجع العسكري في جبهة الراموسة، و هناك خشية من إلقاء تبعات ذلك على كتائب معينة، عوضًا عن المكاشفة المقنعة، على غرار ما كان من قرار فصل نائب القائد العام للجبهة الشامية ( جمال الدين الإبراهيم: أبو عبد الرحمن، قائد كتيبة جيش عمر/ قطاع كرم الجبل )؛ بدعوى تخاذله و خيانته في فك الحصار عن حلب.
7ـ عجز النظام عن تمويل آلة الحرب، ممّا جعله يفكر في الإقدام على إصدار قرارات يتم من خلالها مصادرة استثمارات مملوكة لمستثمرين خليجيين ( قطريين، و سعوديين )، و الحجز على مشاريع مالية و عقارية مملوكة للقطاع الخاص؛ تحت مبرر دعم وتمويل الإرهاب في سورية.
8ـ ظهور حالة من الاصطفاف الشعبي المعارض لتنحية جبهة فتح الشام جانبًا؛ تمهيدًا لضربها بموجب الاتفاق الروسي الأمريكي، و هو الأمر الذي حمل مناصري تلك الفصائل على الطلب منها بالانفتاح، و تغليب مصلحة الثورة السورية على برنامجها الآيديولوجي، لدرجة أن لبيب النحاس ( مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في أحرار الشام ) تمنّى عليها أن ترفع راية الثورة كردّ جميل للسوريين.
9ـ خروج أصوات من معسكر حلفاء النظام تصف الواقع الهش لقواته، و تدعو للخروج من هذا الملف، و هو ما جاء في مقالة مهمة للمحلل العسكري الروسي ( ميخائيل خوداريونوك )، المقرب من الدائرة الإعلامية لبوتين، في صحيفة غازيتا، في: 6/9/2016، حول تحلل الجيش النظامي و عجزه عن حماية نفسه، و عن تحقيق أي نصر مهما كان صغيرًا، و هو يدعو لحلّه و تشكيل جيش جديد بدلاً منه، و بأنّه قد حان الوقت للتفكير في خروج روسيا التدريجي من هذا النزاع قبل نهاية سنة 2016، و الاكتفاء بقواعد لها كحميميم و الضبعة.
وسوم: العدد 686