ابن عثيمين ظريفاً
لم يكرمني الله تعالى بأن أتتلمذ مباشرة على العلامة ابن عثيمين عليه رحمات الله، لكن سعدت برؤيته، وسمعت بعض دروسه في المسجد الحرام، وحاورته هاتفياً أكثر من ساعة في محاضرة هاتفية في قاعة عبد الله ابن زيد بإدارة الدعوة، كنت أسأله فيها - وهو يجيب - نيابة عن الجمهور الذي يسمعه ولا يراه، وفي هذا اليوم نشّفت رأسي معه، قائلاً إنه يريد أن يحرمنا الخير، فقال لي مازحاً: ما غلبني أحد غيرك.
ورغم ما يشيع من ظلم وتجنٍّ على المشايخ السلفيين - والسعوديين خاصة - باتهامهم بثقل الدم والجفاء، فإن الشيخ العلامة العثيمين حالة مميزة في خفة الدم، وسرعة البديهة، يتجلى معها تواضعه وبساطته وحسن خلقه.. يعرف ذلك من عاملوه، وجلسوا إليه.
واسمحوا لي أن أقتطف بعض ما نُقل عنه من طرائف كتبها تلاميذه وبعض مريديه:
فمن ألطفها ما حصل له في مكة حين ركب تاكسياً، بعد أن خرج من الحرم، والظاهر أن المشوار كان طويلاً، فأراد سائق التاكسي أن (يسولف) ووجه سؤالاً للراكب الذي لا يعرفه:
ما تعرَّفنا على الاسم الكريم يا شيخ!
فرد الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين!
فرد السائق المشاكس الذي ظن أنه يكذب: هلا يا عمي، تشرفنا، معك عبد العزيز بن باز!
فابتسم الشيخ، وقال له: ابن باز أعمى؛ كيف يسوق التاكسي؟
فرد السائق (بلماضة): وابن عثيمين في نجد، وش اللي يجيبه هنا؛ تمزح معي أنت؟!
هنا ضحك الشيخ، وأفهمه أنه بالفعل ابن عثيمين، ليقع السائق في حرج بالغ بعد أن تبين له الحق!
ومن سرعة بديهته ومزحه اللطيف أن سائلاً سأله رحمه الله: إذا انتهيت من الدعاء؛ إيش اسوي يا شيخ؟ فقال الشيخ بسرعة: نزل يدك!
وسئل ذات مرة: إذا كان القارئ يستمع إلى المسجّل فمرّ بسجدة تلاوة، هل نسجد للتلاوة؟ فقال الشيخ:
إيه، إذا سجد المسجَّل سجدة التلاوة فاسجد معه!
وناداه أحد الإخوة الأعاجم: يا شيكْ يا شيك (يقصد: يا شيخ يا شيخ) فقال الشيخ رحمه الله:
صح، أنا شيك بمئة وعشرين ألف ريال! (يقصد قيمة الدية الآدمي).
وسأله شخص مرة: لقد اختُرع جهاز ينبّه على السهو أثناء الصلاة، فلا يسهو المصلي إذا استعمله، فما حكمه؟
فضحك الشيخ رحمه الله وقال: أهو يسبح أم يصفق؟ وكان الشيخ يقصد التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء؛ حال السهو في الصلاة!
ومرة قام إليه أحد الإخوة من مصر في الحرم، فعانقه على الطريقة المصرية، وكان المصري ضخم الجثة، فما كان من الشيخ إلا أن عانقه بنفس طريقة المصري، وطبطب على ظهره، وأصدرت طبطبات الشيخ صوتاً مسموعاً، والكل يشاهد ويضحك.
ومرة جاء إليه شيخ هرم في الحرم في الدرس، والشيخ يلقي الدرس، وأخونا في الله يريد جواب سؤال، فيقول له الشيخ: بعدين..
فما كان من الرجل إلا أن أصر على موقفه، وظل واقفاً حتى تضايق الشيخ منه، وقال للحاضرين تسمحون له يسأل؟ فقالوا: نسمح..
فقال الشيخ: تدرون وش سؤاله؟ يقول إنه جامع زوجته في نهار رمضان، فهل عليه شيء؟ وطبعا كان الرجل في موقف لا يحسد عليه!
وكان الشيخ ابن عثيمين يلقي درساً في باب النكاح عن عيوب النساء، فسأله أحدهم: لو تزوجت ووجدت أن زوجتي ليس لها أسنان (كأنهم لا يزالون يتزوجون عمياني!) هل يبيح لي هذا العيب فسخ النكاح؟
فقال الشيخ: هذي امرأة زينة، لأنها لا يمكن أن تعضك!
ومن أجوبته اللطيفة عن سؤال يقول فيه صاحبه إنه متزوج، ويريد الزواج بالثانية بنية إعفاف فتاة:
فقال له الشيخ ابن عثيمين: أعط المال لشاب فقير يتزوجها، وخذ أجر الاثنين!
ويروي الشيخ محمد بن صالح المنجد أن طفلاً جاء مرة إلى الشيخ ابن عثيمين يطلب منه أن يجيب له عن أسئلة إحدى المسابقات، فقال له الشيخ: أجيب عليها، ولكن إذا فزت تعطيني نصف الجائزة!
وسئل رحمه الله عن حكم التأمين على السيارة، فأجاب في تورية لطيفة:
إن كان معنى التأمين أن يجلس الإنسان فوق السيارة ويقول آمين، فلا بأس!
وحدث بعض تلاميذه أن الشيخ عندما وصل في شرح القصيدة النونية لابن القيم إلى أبواب وصف الحور العين، قال له بعض الطلبة: اشرح لنا هذا يا شيخ، فقال الشيخ رحمه الله: هذا بعدين.. بعدين.
وبينما كان مرة في أحد دروسه فوق سطح الحرم، دخلت قطة بين الصفوف، فأوقف الدرس سائلاً: ماذا تريد هذه الهرة؟ لعلها تريد ماء، اسقوها ماء، ثم أخذ يكلمهم عن سؤر الهرة (بقية الماء الذي شربته) وأنه طاهر لا ينجس، للنصوص التي وردت فيها، وأضاف:
هذه فائدة بمناسبة حضور الهرة درسنا، فضحك الجميع.
وفي أحد دروسه سأل رحمه الله أحد طلابه: من هو السارق؟ فقال الطالب:
السارق هو الذي يأخذ ما ليس له - وكان هذا الطالب ممسكاً بيده قلماً – فانتزع الشيخ منه القلم بقوة، وقال: أنا أخذت قلمك هذا، فهل أنا سارق؟ فقال الطالب: لا، لأنك تمزح، فأدخل الشيخ القلم في جيبه بعدما أحكم غطاءه، وقال:
لا لا.. أنا جاد، ما أمزح؛ فهل أنا سارق؟ وانفجر الجميع بالضحك!
وكان من عادة الشيخ رحمه الله أن يسأل الحاضرين فيما مر من الدرس، فوجه سؤالاً لأحد الحاضرين، فقال الضيف معللاً عدم قدرته على الإجابة:
يا شيخ طال عمرك، أنا ضيف، ولست طالباً معهم، فقال الشيخ:
الضيف يأكل من طعام أهل البيت!
وسأل أحدهم الشيخ عن حكم لبس العقال، فأخذ عقال رجل بجانبه، ووضعه على رأسه، ثم قال: (السؤال التالي)!
وذات مرة ألقى محاضرة، فلما أراد الخروج، وحمل حذائه قام أحد الشباب بحمل حذاء الشيخ، فلم يرض الشيخ بذلك، وقال للشاب مداعباً: (تريد أن تأخذها؟) وقابله أحدهم في المستشفى، فسأله: خيراً؟ فقال: أحلل السكر، فقال: كلنا نعرف أن السكر حلال، ابحث لنا عن شيء آخر، وحلله لنا!
وسأله أحدهم: هل يجوز أن أقتني ديكاً حتى يؤذن فأسأل الله من فضله؟!
فقال الشيخ: لا أدري عن هذا! المشروع للإنسان إذا سمع صياح الديك أن يسأل الله من فضله، لكن أخشى أن يكون ديكك أخرس! لا، هذا ما ورد عن السلف، والحمد لله أنت اسأل الله من فضله إذا سمعت صوت ديك أو لا! اسأل الله من فضله دائماً.
وسأله أحدهم: في كثير من الليالي أرى في المنام كأني في درس فضيلتكم، ويكون عندي بعض المسائل، فأسألك فيها فتجيبني!
فقال الشيخ ضاحكاً: أنا ما أستحضر هذا! ولا أشعر إذا حلمت أنك تسألني لا تعتمد هذا، إن سمعت الشريط لا بأس، أما نحن فلا نُدرِّس النومى! ولو تكتب المسائل، وتعرضها عليّ فيمكن تكون صحيحة!
وسأله أحدهم عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر) ما رأيك فيمن يقيم مسابقة للدجاج أو الحمام؟!
فقال الشيخ: والله – شِف يا أخي – الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبَقَ إلا في نصل أو خف أو حافر) السَبَق يعني العوض، لأن هذه الأشياء يُستعان بها في الحرب والقتال، فمن أجل هذه الفائدة، أباح الشارع العوض فيها، فإن كانت دجاجتك يُستعان عليها في القتال تركب عليها وتكر وتفر!، فلا بأس، وإلا فلا!
وسئل: هل يجوز للرجل أن يخالط الشغالة في البيت، وماذا يحل له منها؟
قال الشيخ: إذا تزوجها فلها أن تكشف وجهها له، وهذا هو الحل، وإلا فلا يحل له منها شيء، هي كالمرأة التي في السوق، يجب عليها أن تحتجب، ويتأكد الحجاب في حقها أكثر من غيرها؛ لأنها في البيت، ويسهل الخلوة بها، فإذا كشفت وجهها فإن الشيطان يجعل هذا الوجه - وإن كان ليس بذاك - ليفتتن بها والعياذ بالله، فيجب على الخادمة أن تحتجب، ويجب على أهل البيت أن يأمروها بذلك؛ لأنها امرأة أجنبية. وإذا أرادوا الحل الذي ذكرته فهو سهل، إذا لم يكن لها زوج يستأذن من الجهات المسؤولة أن يتزوجها، وتبقى عنده في البيت، لكن أخشى إذا أصبحت زوجة أن تطلب خادمة فيما بعد وهذه مشكلة!
وسئل رحمه الله: ما رأيك بهذه الأدعية التي توضع في السيارة كدعاء الركوب، ودعاء السفر، وغير ذلك، وماذا يُرَدّ على من قال بأنها من التمائم؟!
فقال: من التمائم!؟ من قال إنها من التمائم فقد صدق إذا كانت السيارة مريضة!
هي معلقة الآن على السيارة لا على الراكب، ووضعها في السيارات طيب؛ لأنه يذكر الراكب بدعاء الركوب، أو بدعاء السفر، وكل ما أعان على الخير فهو خير، فلا نرى في تعليقها بأساً، وليست من التمائم في شيء! إلا كما قلت لكم أولاً:
إذا كانت السيارة مريضة، وعلق عليها هذا وشُفيت بإذن الله!! فهذا طيب! وحينئذٍ نريح أصحاب الورش!
وسئل رحمه الله يوماً وهو يأكل فقال مازحاً: الواحد منكم يسأل سؤالاً في دقيقة، وجوابه يحتاج إلى ربع ساعة، ثم يستمر السائل في الأكل؛ ويدع الشيخ يجيب، وما عليه لو أن الشيخ ظل يجيب عن الأسئلة إلى أن ينفد الطعام!
وصادف أن أحد كبار السن من أهل البادية صلى في مسجد الشيخ - وهو لا يعرفه - وعندما كان الشيخ في صلاة جهرية نسي أثناء القراءة إحدى الآيات، فذكره بها أكثر من شخص خلفه، وعندما انتهى الشيخ من الصلاة أشار للحاضرين أن التذكير لا يكون بهذا الشكل الجماعي، وأن واحداً يكفي عن البقية، فقال البدوي الشيبة: إلا المفروض أن الشايب اللي مثلك ما يعرف يقرا، يصف ورا، ويخلي الصلاة لأهلها!
ومِما يُحْكَى عن الشيخ أنه كان في مجلس مع سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمهما الله تعالى، فأبي ابن باز إلا أن يترك إجابة الأسئلة للشيخ ابن عثيمين، ولما جاء السؤال الأخير اتفق إن كان الشيخ ابن عثيمين يُخالف الشيخ ابن باز في هذه المسألة، فقال ابن عثيمين:
وخير ما نختم به المجلس جواب الشيخ ابن باز عن هذا السؤال الأخير، وترك الجواب للشيخ!
وكان من عادته رحمه الله حين يُدّرس في الحرم المكي الشريف أن يطلب من الحاضرين التركيز- وكان طلبته أشتاتاً، شباباً وكباراً في السن - فإذا رأى أحداً منهم يتلفت أو لا ينتبه للدرس يوقفه، ويسأله: احنا وصلنا لوين؟ فإن لم يجب تركه واقفاً، وتخيل منظر الرجل، وهو واقف كالطفل كأنه في صف مدرسي!
وفي إحدى المرات كان الطلاب يسبحون في بركة ماء، فسأل الشيخ أحدهم:
لماذا لا تسبح يا فلان؟ فقال له: أنا لا أجيد السباحة، فقال له الشيخ: تعلّم واسبح مع زملائك..
فلما نزل إلى البركة مع الطلاب كاد أن يغرق، فنزل إليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بنفسه، وأخرجه منها.
ومن حلمه وحسن تأتيه رحمه الله تعالى، ما يحكيه شاب من عنيزة، يقول: كنت يوماً أدخن، وقد ابتعدت عن منزلنا في زاوية في الشارع، ومر الشيخ من هذا الشارع راجلاً، ثم توقف الشيخ وقد ارتبكت؛ إذ لم أنتبه له إلا وقد وصل، ولم يكن بالإمكان التصرف في السيجارة التي في يدي!
يقول: رميتها فسقطت، فأخذ الشيخ رحمه الله السيجارة، ومدها لي، وقال:
لا تستح مني إذا كنت ترى فيها فائدة لك، ثم أخذ رحمه الله يعرضها، والدخان لا يزال يتصاعد منها، ويسألني: هالدخان وين يروح؟
يقول الشاب لم أستطع حتى الكلام حياء من الشيخ!
فأجاب: هذا كله يذهب إلى رئتيك، وهذا معناه تلفهما، وأخذ يبين مضارها، وأنها مسببة للأمراض، وأخذ يتحدث والابتسامة لا تفارقه وهو يمازحني، ثم تركني وراح، وكانت آخر سيجارة دخنتها!
رحم الله العالم الفقيه الأصولي المفسر المحدث الأديب، وجمعنا به في فردوسه الأعلى.. وآجر الأمة في مصيبتها بفقده.
وسوم: العدد 687