من أساليب التربية والتعليم في القرآن الكريم
الحمد لله حمدا كثيرا يوافي نعمه ويكافيء مزيده ، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . الحمد لله الهادي من استهداه ، الواقي من اتقاه ، الكافي من تحرى رضاه ودعاه ، حمدا بالغا أمد التمام ومنتهاه . وأصلي وأسلم على البشير النذير المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من اتبعه واهتدى بهديه وسار على شرعه ودينه إلى يوم الدين . . أشكر راعي المنتدى الأخ الشاعر : خالد النعمان على إتاحته الفرصة لي للقاء إخواني الأفاضل في هذه الأمسية السعيدة ، وأشكره على مقدمته راجيا أن أكون عند حسن ظنه وظنكم . اللهم اغفر ما لايعلمون ، ولا تؤخذني بما يقولون ، واجعلني خيرا مما يظنون . اللهم ذكرني ما نسيت وعلمني ماجهلت ، واحفظ علي ما علمت ،وزدني علما .
أيها الإخوة الأفاضل : القرآن الكريم كتاب هداية ورعاية لشؤن المسلمين في دينهم ودنياهم في كل زمان وفي كل مكان . قال الله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) الآية (38) الأنعام . عن علي رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( كتاب الله تبارك وتعالى ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب معه الأراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولايمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولاتنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا ) . من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم )) . أيها الإخوة الكرام : ومما أكدعليه القرآن الكريم التربية والتعليم . وهذه المحاضرة اختزلتها واختصرتها وبتصرف من بحث لبنت لي كانت قدمته لقسم الدعوة في كلية الآداب في جامعة طيبة في المدينة المنورة . ومن هذه (( الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم في التربية والتعليم ))
لقد جاء القرآن سهل الأسلوب، واضح البيان، متنوع الطرح، ليس فيه تعقيد في التعبير، ولا فلسفة في العرض، ولا خيالية في التمثيل، ولا يغمض سياق القرآن على عربي.
ولقد تنوع أسلوب القرآن ؛ فتجد فيه التقرير الصارم، والأمر الجازم، في الوقت الذي تستمتع فيه بالقصص المؤثرة، والأمثال المعبرة، وتسمع منه الأخبار الماضية، والأنباء القادمة.. ثم يفاجئك بفتح ناظريك على المشاهد المستقبلة من صور يوم القيامة، ومناظر من الجنة والنار، كأنك تراهما رأي العين، وتلفي فيه الحوار الممتع، والمناظرة المفحمة، في الوقت الذي يعج بالحجج العقلية، والمؤثرات العاطفية.. كل ذلك بأسلوب أخّاذ، وعبارات جذابة، وإيقاع يتناسب مع كل موضوع، ومع كل ذي روح ونفس، كل ذلك حتى يكون الخطاب شاملا للخلق، مؤثرا في النفس، مقيما للحجة... وهكذا كان القرآن في بيانه ؛ سهل الأسلوب، واضح الطرح، واقعي التمثيل، يتناسب مع الناس جميعا على اختلاف ثقافاتهم وأجناسهم . إن القرآن ينبه القلب ويثيره لينظر في الكون وصفحته الواسعة، ويحس بوجود الله المبدع، وقدرته المطلقة التي ليس لها حدود.. والقرآن يثير انتباه القلب لئلا يغفل عن مراقبة الله الدائمة، ليعلم أنه سبحانه وتعالى معه أينما كان، مطلع على قلبه، عالم بكل أموره السرية والعلنية، بل وما دون السر، كيلا يفارقه وجدان التقوى، والخشية الدائمة، ومراقبة الله في كل حال، ومن ثم يتجدد عنده شعور الحب لله وتعظيمه والتطلع إلى رضائه، والشوق إلى لقائه، والأنس به، والاطمئنان إليه في السراء والضراء، ويتقبل قدره بالتسليم والرضا دون تضجر، أو قلق أو شكوى لخلقه ، والهروب منه إليه . وبعد: هذا ما يحدث كنتيجة لتربية الروح على المنهج القرآني.وقد تناولت الباحثة بعض الأساليب التي وردت في القرآن الكريم ، وهي أكثر من أن تحصى.... ومنها :
1- التربية بالسيرة الحسنة: لا يخفى على أحد أثر السيرة الحسنة للمعلم في العملية التربوية، ولن يجد المعلم التفاعل والتجاوب من قبل التلاميذ إلا حينما يوافق قوله عمله، متحليا بالأخلاق الحسنة، والآداب السلوكية، فحسن سيرة المعلم تجعله قدوة للتلاميذ، لأن أخطر ما يصاب به المعلمون، انفصال علمهم عن عملهم وتناقض الظاهر والباطن، وقد ذم الله تعالى الذين لا يوافق قولهم عملهم، ﭧ ﭨ ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ (الصف: 2- ٣). وإذا تخلفت القدوة في العمل التربوي فإن التأثير يضعف، فالسيرة الحسنة تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي، لأن المثال إلى المرتقى في درجات الكمال يثير في نفس البصير العاقل قدرا كبيرا من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة، ومع هذه الدوافع تتهيج دوافع الغيرة المحمودة والمنافسة الشريفة، وقد أكدت الدراسات أن التلاميذ لديهم رغبة نفسية بالتشبه والاقتداء بالذين يحبونهم .
2-التربية بالوصية: لقد أخذت الوصية في القرآن الكريم ساحة واسعة لما تضمنته من توجيهات وأوامر إلهية أوصى بها الله إلى رسله وعباده حتى تستقيم حياتهم، ومنها:
_ وصية الله تعالى إلى أنبيائه ورسله: بأن يقيموا دين الله الواحد الأحد ولا يتفرقوا فيه وأن يثبتوا على المنهج الإلهي دون التفات إلى أهواء المخالفين، ﭧ ﭨ ﭽ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﭼ (الشورى: ١٣)
_ وصية الله إلى عامة خلقه: وذلك كالوصايا التي وردت بسورة الأنعام على رأسها عدم الإشراك بالله، ﭧ ﭨ ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ (الأنعام: ١٥١)، لقد اشتملت هذه الوصية على قوام حياة الضمير بالتوحيد، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة المجتمع بالتكامل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات مرتبطة بعهد الله.
_ وصية الله إلى أهل الكتاب والمؤمنين من أمة محمد r: ﭧ ﭨ ﭽﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ (النساء: ١٣١) ، فهذه وصية بالتقوى الشاملة للأديان جميعا.
_ وصية الله بالوالدين: فالله تعالى حفظ للوالدين مكانتهما ومقامهما العظيم، وألزم الأبناء بمعاملتهم معاملة حسنة، وبرهما والإحسان إليهما، ﭧ ﭨ ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ (العنكبوت: ٨) .
_ وصية الله تعالى بالأولاد: ﭧ ﭨ ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﭼ (النساء: ١١)، وهذه الوصية تشمل حقوق الذكر والأنثى وعدم إضاعتها، وكذلك أوصى الله الآباء والأمهات بحفظ حياة الأولاد وعدم قتلهم خشية الفقر ﭧ ﭨ ﭽ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭼ (الإسراء: ٣١) .
_الوصية بالأزواج: ﭧ ﭨ ﭽ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭼ (البقرة: ٢٤٠)(( ، هذه بعض الوصايا وهي ليست على سبيل الحصر وإنما أوردتها للتذكير لأني لا أستطيع الإحاطة بها .
3 – التربية بالحكمة والموعظة الحسنة: ﭧ ﭨ ﭽ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﭼ (النحل: ١٢٥)، فالحكمة والموعظة الحسنة والقول اللين والميسور، هي أساليب يستعملها القرآن في تربية النفوس، وإعداد الرجال، وإيصال الحق إلى الناس جميعا.
4 – التربية بالترغيب والترهيب: الترغيب لما أعده الله للمؤمنين بالثواب والجنة والمغفرة والرضوان والنعيم، والتشويق للاستجابة وقبول الحق والثبات عليه ، والترهيب وما توعد الله به الكافرين والمكذبين بالنار والغضب والخسران، وكل ما يخيف ويحذر من عدم الاستجابة أو رفض الحق،كل ذلك من أجل تثبيت القلوب المؤمنة، ومن أجل فتح باب الأمل والرجاء للمذنبين والعاصين ليعودوا ويرجعوا، كل ذلك لأن النفوس جبلت على حب ما ينفعها والنفور مما يضرها ، وهذا هو منهج القرآن في مخاطبته للفطرة ، والمتتبع لمنهج القرآن الكريم يجد هذا واضحا من خلال آياته ، فإذا ما ذكرت الجنة أتبعها الله بذكر النار، وإذا ما ذكر العذاب ، أتبعه بذكر الرحمة والنعيم ، وهنا تظهر الحكمة العظيمة من الجمع والموازنة بين الترغيب والترهيب، بحيث تجعل العبد يعيش بين الخوف والرجاء، فإذا عاش المرء هذه الحال لم ييأس من رحمة الله، ولا تواكل عليها ، فيستقيم حاله .
5 - التربية بالقصص: فإن للقصص الهادفة جاذبية في السمع ، وأثرا في الفهم ، وتأثيرا في النفس، فهي توضح المقصود، وتحكي الواقع ، وتدلل على مصداقية الفحوى ، لذلك أكثر الله منها في كتابه ، فلقد وردت القصص في القرآن بأساليب شتى، وعبارات متنوعة ، فتارة تستغرق القصة الواحدة السورة بأكملها أو معظمها ، وتارة تختصر القصة نفسها في أربعة أو خمسة سطور، تؤدي الغرض، وتحقق الهدف ، فانظر إلى قصة يوسفuكيف استغرقت السورة بكاملها ، فيكرر قراءتها القارئ دون سآمة ، بل يدفعه الشوق بقراءتها للوقوف على أحداثها رغم قراءته لها مرارا ومعرفته بها ، وانظر إلى قصة موسىuكم تكررت في القرآن وفي كل مرة تساق بأسلوب جذاب ، ومواقف مثيرة ، وفوائد جديدة ، فتارة تكون طويلة، وتارة تكون متوسطة، وتارة تكون قصيرة ، وكل هذا التنوع كان لأغراض مقصودة ، ودروس معبرة .
قال البوطي: ( إن صبغ القصة بروح الموعظة والعبرة ، وتدبيجها بالجمل والعبارات الإرشادية التي تتوجه من القاص إلى السامعين أو القارئين دون أن تتعرض صياغة القصة بذلك لاضطراب أو تفكك أو توهين لبنيتها الفنية ، يعتبر ذروة عمل تربوي ناجح لا تجده في مظهره الكامل الدقيق إلا في كتاب الله U .
6 – التربية بضرب الأمثال: اشتمل القرآن الكريم على كثير من الأمثال المختلفة الهادفة جريا على لغة العرب ، وذلك لأن المثل في كل أحواله يقرب المعاني ، ويجعل صورتها مثيرة لدى المستمع ، والأمثال من أقوى الوسائل لإقناع المدعوين على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم ، فكما يفهمها الجاهل وينتفع ويتعظ بها ، فإنها تكبح جناح المعاند، وتقنعه بلزوم الحق واتباعه، ولم تأت الأمثال في القرآن على نمط واحد ، بل جاءت بصور متنوعة ، تبعث على التفكير ، ولا يمثل القرآن بالغريب وإنما يتخير من المحسوسات الموجودة ، ويجليها بأوصافها ، ويضعها في المثال شاهدة واضحة على ما يريد ذكره وبيانه ، فأمثال القرآن تضيف مزيدا من الإقناع للعقل ، وتلامس الفطرة، وتدعو للإنصاف من النفس، فضرب المثل يضفي على الأسلوب عذوبة، ويهب له أنسا، فيجعل له القبول، ويدفع عنه السآمة والملل، وحين النظر في أمثلة القرآن الكريم نرى واقعية المثال، وروعة الأسلوب، وعمق المقصود ، وبساطة الطرح ، وسهولة الفهم ، ومناسبته لعموم الخلق ، لذلك يُحدث المثال فهما عميقا ، وقناعة قوية، لدى المدعو المنصف ، ولو تأملنا قول الله تعالى في اتخاذ الكفار آلهة من دونه واعتمادهم عليها،ففي قوله ﭨ ﭽ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ (العنكبوت: ٤١) فمن الذي لا يعرف العنكبوت ؟ ومن الذي لا يفهم المثل ؟ وانظر إلى آيات الله التي ضربها دلالة على خلقه : ﭧ ﭨ ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ (الواقعة:63- ٦٤) فمن الذي لا يعرف الحرث ؟ .. من خلال هذا يتبين على المربي الاهتمام بالقصص والأمثال في خطابه ، لكي يكون أسلوبه متنوعا في الطرح ، تحليه القصص المعبرة ، وتجمله الأمثلة الموضحة ، فذلك أدعى للإنصات والفهم ، وأقرب للقبول والاستجابة ، حتى لا يكون جافا وسؤوما .
7 – التربية بأسلوب الإقناع العقلي : عندما خاطب القرآن العقل ، لم يكن خطابه مشتملا على تعقيدات فلسفية ، ولم يكن غامضا لا يعرفه إلا القليل، بل كان خطابا سهلا ميسرا يفهمه العامة والخاصة ، وكان تحريرا للعقل البشري من غموض الفكر الفلسفي وأوهامه وتخيلاته ، وتحريرا له ممن عطلوه ووقفوا به عند حد التقليد، فالإيمان أساسه الإقناع العقلي وما تستطيع قوة في الأرض أن تجبر إنسانا من داخله على اعتناق مذهب أو دين ، إلا إذا كانت تمتلك من نفاسة مبدئها ، ووضوح غايتها ، ما يشد القلوب إلى هذا المبدأ وتلك الغاية، وهذا ما صنع القرآن، لقد كان القرآن الكريم في خطابه يتجه إلى الإقناع لا إلى التسليم المحض ، والتوازن بين خطاب القلب والعقل في القرآن الكريم من جمال أسلوب المربي والمعلم ، وجذبه الناس إلى الاستماع له وتأثرهم به ، أن يتضمن أسلوبه ما يثير العاطفة ولا يطغى عليها ، ومن قوة حجة الداعية، ومتانة أسلوبه، أن يحتوي على ما يحرك العقل، ولا يقتصر عليه ، فمن الناس من هم أصحاب عاطفة ، يتأثرون بما يثير الوجدان ، ويتلمس القلوب ، ومنهم من يتأثر بالقناعات العقلية ، والقضايا الفكرية ، وبناء على هذا ؛ فإن من حكمة الداعية أن يعم بخطابه الصنفين ؛ العاطفين والعقليين ، وأن يشمل بأسلوبه الطرفين ، لأن اقتصار المربي في أسلوبه على إثارة العاطفة ، وخلو خطابه مما يحمل على التفكير من إيرادات عقلية ، وقضايا فكرية ، يحمل فريقا من المدعوين على الإعراض عن الاستماع والاستخفاف بالمعلم والمربي، واقتصار المربي في أسلوبه على تحريك العقل، والطرح الفكري يدفع فريقا من الناس إلى الملل، والإعراض عما يقال، لعدم فهمه ما يطرح . ونظرا لأهمية هذا التوازن في مخاطبة الناس، فقد جاء القرآن الكريم متوازنا توازنا بديعا في هذا الشأن، فقد تضمن الأسلوب القرآني هذين الأمرين، وذلك نحوقوله تعالى : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭼ (القصص: ٧١) ، فانظر كيف حرك الله العقل بقوله: ( قل أرأيتم ) أي: ما رأيكم ؟ وهو تحريك للعقل، وإثارة للفكر، كما يحمله هذا الأمر على التذكير، ويدفعه إلى التفكير، فيما لو حصل ما نبه الله إليه من استدامة الليل، الأمر الذي يدفعه إلى زيادة الإيمان، ومزيد من شكر الله على نعمه، ثم كان طرح الأمر طرحا مثيرا للعاطفة ويدفع إلى الخوف من الله، وفيه تحريك للوجدان، لخشية الرحمن، والالتجاء إليه. وهكذا ينبغي للمعلم الحكيم – حتى يكون خطابه مؤثرا – أن يجمع بين محركات العقل التي تدفع إلى الاقتناع والتسليم ، وبين مناجاة القلب التي لها أثر في الاستجابة والاطمئنان .
8- التربية بالتذكير بأيام الله وذكر المنافع والمضار: طبع الإنسان على حب المنافع ، والاستجابة لأسبابها، وكراهية المضار، والنفور من سبلها كما طبع على نسيان نعم الله تعالى، ومكره وعقوبته، وما فعل الله بالمسرفين من السابقين، وما جازى به المطيعين من الخيرات والبركات، لهذا أمر الله U موسىu بتذكير بني إسرائيل بنعم الله فقال تعالى له : ﭽ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﭼ (إبراهيم: ٥) ، أي بأياديه ونعمه عليهم، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم " ذلك لأن النفس البشرية تستروح إذا أحست بمصلحتها، وتنفر إذا تأكدت مضرتها، فيدفعها ذلك إلى الاستجابة لما فيه الخير، والنفور مما فيه ضرر .
9 – التربية بالتذكير بمصارع الغابرين: لما كانت كل أمة حلقة من حلقات التاريخ، يمضي عليها ما مضى على الأمم، فإن القرآن جاء يدعو إلى الاستفادة من قصص الماضين، والاعتبار بها ، ﭧ ﭨ ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ (يوسف: ١١١) ، وأمر الله بالاعتبار بمصارع الأمم السابقة، والتفكر في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم . لقد ذُكر في القرآن الكريم عواقب الأمم المكذبة في مواضع كثيرة ومتفرقة ، وجاءت مجملة في مواضع ، ومفصلة في أخرى ، وهي تقرر حقيقة واحدة، وهي أن سنة الله في خلقه ماضية، كما حث القرآن الكريم الانتفاع بالتجارب التاريخية للأمم السابقة، ودعا إلى السير في الأرض، والنظر في عواقب الأمم، ﭧ ﭨ ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﭼ (آل عمران: ١٣٧) ، فلا يغني عن أمة إن هي أعرضت واستكبرت وكذبت، قوتها أو علمها وحضارتها.. والقرآن وهو يدعو إلى السير في الأرض، يكشف بلاء الأمم وكيف عذبت وزال ملكها، وحلّ بها ما حلّ من العقوبات، ويبين أن الذنوب باختلاف أنواعها هي سبب ذلك، وفصلت آيات القرآن الكريم كيف أباد الله الأمم المكذبة للرسل، ونوع عذابهم وأخذهم بالانتقام منهم ، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج الواضحة على ألسنة الرسل .
10 – التربية بأسلوب الاستفهام والترجي: ينبغي على المعلم والمربي أن يغلب على عباراته الاستفهام سواء كان تقريريا، أو استنكاريا، أو تعجبيا، وأن يكثر من ألفاظ الترجي نحو ( لعل ) و ( أرأيت ) و ( رُب ) بدل الخطاب التقريري ، والاستنكاري المباشرين ، لأن استعمال أساليب الاستفهام ، وألفاظ الترجي في الخطاب أبلغ تأثيرا، وأقل أثرا سلبيا، ولو كان يتضمن نقدا مباشرا، والمتأمل لأسلوب القرآن الكريم يجده مشحونا بهذا الأسلوب الهادف، والتعبير الممتع، حتى مع الكافرين، ومع أشد الناس عداوة لله وللمؤمنين، ﭧ ﭨ ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ (القلم:25- ٢٦) ، استفهامان متتاليان، يهزان الضمير، ويحرضان العقل، ويقرران الحق بأسلوب مقبول، وتعبير مثير، يدفع العاقل للإقرار والتسليم، وفيها ما لا يخفى من التأثير النفسي على السامع أو القارئ، لأن النفس تكره التقريع المباشر، والاتهام الصريح، ولو كانت مذنبة، ومقرة بذلك في نفسها ، لذلك جاء أسلوب القرآن مقررا للحقائق، مراعيا حال المخاطبين، فجمع بين قول الحق، وحسن العرض، لذا يحسن على المربي تعميم الخطاب، لا بتعيين المخاطب، وليكثر من استعمال أدوات الاستفهام، وألفاظ الرقة واللين، وكلمات الترجي والرفق، مما يضفي على أسلوبه لذة في السماع، وقبولا من السامعين، وهذا الأسلوب يدعو المخاطب إلى أن يعيش مع القرآن، ويعمل فكره في مضمونه، وهي تثير في المخاطب صلاحية الاستدلال ، وقوة الاحتجاج ، فيبحث بنفسه، ويتحقق بنفسه، ويستنتج بنفسه، وقد جاءت الأسئلة بطرق متعددة وبصيغ مختلفة ؛ فتأتي أحيانا تقريرية، فيأتي السؤال ومن بعده الجواب، وقد تأتي الأسئلة تحمل معها تحذيرا وإنذارا، وأحيانا يوجه القرآن أسئلة يدعو من خلالها إلى التفكير في مخلوقات الله، وأحيانا إلى الوقوف مع النفس، وأحيانا إلى النظر في عاقبة الأمم المكذبة، وهذا المنهج القرآني كان له أثره على المشركين فكان يزلزل نفوسهم، ويصدع أفئدتهم، فكانت هذه الأسئلة تطارد المشركين بالحقائق الصادقة، والتحديات القوية، وتتعقب وساوس نفوسهم في صورة استفهامات استنكارية، فتكشف شبههم، وتدحض حججهم، وتوقفهم مجردين من كل عذر ومن كل دليل وهي مع ذلك تفتح على النفس آفاقا من الإيمان الذكي الذي يجعلها تهرع متجردة إلى الله .
11- التربية بأسلوب المجادلة والمحاورة والمناظرة: وذلك حتى يتناسب خطاب المربي كافة الأحوال، وليعم كافة المخاطبين، لأن المخاطبين يتفاوتون في فهمهم وثقافتهم وطرق دعوتهم، لذلك كان تنوع الخطاب من إلقاء إلى حوار إلى مناظرة أقوى سلاحا له وأنفع للمخاطبين، وقد تعرض القرآن في بيانه البديع إلى جميع صور الجدل، من محاورة ومناظرة، ودعا المخالفين إلى ذلك، فمن صور الجدال قوله ﭨ ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﭼ (آل عمران: ٦٤) ، ومن صور الحوار: ﭧ ﭨ ﭽ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ (يونس: ٥٠) ، ومن صور المناظرة: ﭧ ﭨ ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭼ (الطور: ٣٥)، وفيها إحراج للخصم وإفحامه، وعجزه عن الجواب، فالجدال يستخدم لإقناع المخاطب، وإقامة الحجج والبراهين على صحة ما يدعو إليه، وبطلان ما سواه ، وإزالة ما يعلق في الذهن من شبه .
12 – التربية بأسلوب الخطاب المطلق: من المستحسن للمربي أن يعمم في خطابه، وأن يطلق في عباراته دون أن يخصص أقواما ، أو يعين أفرادا، ولو كانوا قائمين على الخطأ، وهذا أسلوب دأب عليه القرآن: ﭧ ﭨ ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭼ (هود: ١٨) ، ﭧ ﭨ ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ (التوبة: ٧٥) .
.. وأخيرا: إن أساليب القرآن الكريم في معالجة المبادئ التربوية متنوعة ومتعددة، ولن يتسع المقام هنا لسردها جميعها ،! لأن القرآن الكريم كلام رب العالمين، المعجز في روعة البيان والإيضاح ، ولن نجد في أساليب التربية الحديثة مهما تشدق دعاتها بروعتها وصلاحيتها لن نجد الشفاء ولا السكينة ولا الإحكام ولا اليسر ولا السهولة ، ولا التناسق ولا الشمول كما نجده في القرآن الكريم . والمقارنة أصلا غير واردة، ولكنها تذكر للعودة إلى المنهج الأصيل، إلى القرآن الحكيم، إلى مدرسته التربوية الشاملة، لنفوز بالفلاح والنجاح، وتكتب لنا السعادة والنجاة .
الصفات التي ينبغي على المعلم والمربي التحلي بها
إنه ما من عمل أو مهمة صغرت أو كبرت إلا ولمن يقوم بها صفات لابد أن يتحلى بها، فكيف بمن يتولى أمانة إعداد الجيل، وتربية النشء ؟ فيجب أن تتوفر في المعلم أعلى الصفات، والآداب الخلقية والمهنية والخصائص التربوية، لأن هذه الصفات يلمسها الطلاب، ويراقبونها في مدرسهم، وهي سبب نجاحه أو فشله، والمتعلم يكتسب أخلاقه من معلمه، وهو في مقام القدوة له، لذا وجب على المعلم التحلي بالأخلاق الفاضلة، لأن المتعلم يتأثر به أكثر من تأثره بوالده، وذلك لكثرة مجالسته له ؛ ولن ينجح التعليم إذا لم يتفهم المعلم جوانب رسالته، وأخلاقيات مهنته، وإذا لم يدرك آثارها، وانعكاساتها التربوية على الفرد والمجتمع . والحديث عن صفات المعلم يطول، فاقتصرت هنا على ما أرى ضرورة إيراده ، ومن أهم تلك الصفات:
1 – الإخلاص لله وحده، وصحة المقصد، وسلامة الاعتقاد ، 2- الالتزام بالأحكام الشرعية ، 3- التقوى والعبادة والقدوة الصالحة ، 4- الصبر على المتعلمين واحتمال الغضب والاهتمام والعناية بالطالب الموهوب ، 5- الرفق والرحمة بالمتعلمين ، 6- التواضع ولين الجانب والتنزه عن المكاسب الدنيئة وتجنب مواضع التهم ، 7-تقدير الطالب والثناء عليه وتشجيعه ، والاعتدال في معالجة الأخطاء ، 8- الأمانة واستشعار المسؤولية ، 9- العدل بين المتعلمين والبشاشة والابتسامة الصادقة لهم ، 10- حث الطالب على العلم والاهتمام به والوفاء بالوعد له ، 11- علمه بالشريعة وبمادة تخصصه والمعرفة والخبرة التربوية والإلمام بشيء من الثقافة العامة ، 12- الاعتناء بالشكل العام وحسن المظهر وقوة الشخصية ، 13سلامة النطق وحسن البيان والانضباط واتزان الشخصية ، 13-الزهد في الدنيا والتقلل منها، وعدم التعلق بها وبأهلها ، 14- المحافظة على الوقت، وعدم إضاعته إلا بما ينفع . 15- أن يكون عزيز النفس لا يمد يده لأحد ، لأن في ذلك إضعافا للحق الذي يدعو إليه . وأخيرا : أيها المعلم ! قد وضعت قدميك في طريق البناء والإعداد لهذه الأمة ، والتصدي لحمل هذه الرسالة الخالدة، والقيام بهذه المهنة الشريفة ، فكّر دوما في عظم الموقع الذي تبوأته ، والأمانة التي تحملتها، فالآباء والأمهات قد علقوا آمالهم عليك في استنقاذ ابنائهم وحمايتهم، والأمة تبحث عن المصلح والغيور للمجتمع، فأنت على ثغر من ثغور الإسلام، فإياك أن يؤتى الإسلام من قبلك.
نموذج من نماذج التربية القرآنية
إن التزام المنهج القرآني في التربية سيكون عاصما من الزلل، وسيمنع وقوع الأمة في القلق والاضطراب الفكري ، وفي الفراغ النفسي ؛ وقد عرض القرآن نماذج كثيرة للتربية، وسأقتصر على نموذج واحد:
ﭧ ﭨ ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼ (الكهف: ٩ – ١٥) . هذا نموذج في التربية الإيمانية والثبات على العقيدة: إنه الإيمان الصادق يتمثل في فتية شباب آمنوا بربهم، وأقروا بوحدانيته، ورفضوا شرك قومهم وآلهتهم التي عبدوها من دون الله، صبروا وثبتوا، خرجوا من ديارهم مع ما في خروجهم من مشقة وهلاك، وتركوا قريتهم مع ما في ذلك من غربة وحرمان، لكنه ثبات المؤمن في صراعه مع الشرك ، إنه يرفض الولاء لغير الله وهو مع هذا الرفض يعلم حجم التضحيات التي سيبذلها وهو في الطريق إلى الله . إنه الدرس العملي الحركي لتربية وتأسيس أجيال من الشباب على عقيدة قوية راسخة وإبعادهم عن زيف وأباطيل الجاهلية والشرك التي لبست أقنعة مختلفة في عصرنا الحاضر . إنه تربية للنفس كي لا تهن، وتتحرك ولا تخف، وتعلن الحق وإن اضطرها الأمر إلى هجر الدار والأهل . إن انتصار العقيدة هو أغلى من الأهل والوطن والعشيرة ، إن المبدأ هو روح المؤمن وحياته ودونه يهون كل شيء، ومن أراد هذه التربية فليسلك طريقها بقلب مؤمن صادق، صابر محتسب .
وختاما أشكر حضوركم وحسن استماعكم معتذرا عن الإطالة . وجزاكم الله خيرا .
((مراجع البحث)) 1- المدرس ومهارات التوجيه، تأليف: محمد بن عبد الله الدويش .
2-أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام، تأليف: د. محمد أمان بن علي الجامي .
3- دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في المجتمع الإسلامي، تأليف: د. عبد الله اللحيدان .
4- منهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر، للشيخ عدنان بن محمد العرعور .
5-نظرات في وصية لقمان ومنهج التربية في القرآن، تأليف : محمد النابلسي .
ألقيت هذه المحاضرة في منتدى الشاعر الشيخ : خالد النعمان . مساء يوم الجمعة في 15 رجب الخير 1432هـ . الموافق 17 حزيران 2011م .
وسوم: العدد 688