حروب الشطرنج -19 (عاشوراء)

د. حامد بن أحمد الرفاعي

كم هو جميل وممتع ذاك المشهد الذي تختزنه ذاكرة الطفولة عن عاشوراء..ترانا مُتحلِّقين فرحين مستمتعين حول والدي وهو يذبح خرفان عاشوراء..صدقة للفقراء وصلة رحم للجار ولكل ذي قربة..ونبقى هكذا حتى يُقطّع اللحم ويُنقل للقدور للطهي..حيث نتحلّق من جديد حول الوالدة ومن معها من نساء العائلة..نرقب انشغالهن في نصب القدور على المواقد ووضع الجِزل والجلّة تحتها وإشعالها..ويبدأ الشرر يتطاير ونتدافع عنه والدموع تنهمر من العيون من حُرقة الدخان..والوالد يقول للوالدة ومن معها:الله يعطيكن العافية..ترى نريد اللحم مستوي (قطع وبلع) كالعادة يا ام محمد..وترد الوالدة أبشر ما يصير خاطرك إلا طيب..وننتظر بلهفة وشهية لحم عاشوراء..ونذهب ونعود ونردد:ها يُمه ما صار اللحم..؟والله جُعنا..!قريب يا عيال لا تضوجوا..وتغمسُ المِسْواطَ بالقدر وتعس اللحم وتخرج قطعة وتقول يا أبو محمود هاك وزعها على الأولاد..ونتخاطفها من يده وننهشها ونقول:لا يُمه بعدها قاسية..وتزيد- يرحمها الله- من الوقود تحت القدور..وتشب النيران ونزداد مرحاً بمشهد لهيبها ودخاخينها..وما هي إلا دقائق ونسمع الوالدة تقول:الحمد لله كل شيء استوى اللحم والبرغل وملِيحي الهِقط أو الكِثي كما يُعبِّر أهل حوران)وتبدأ تنادي يا فاطمة جهزي أنت والبنات المفارش والمناسف..وقولي لخالتك نزلة تُكثر من السمن الربعي ترى اليوم يوم خير ومبرة..ولا تنسي البصل ترى الربع يحبون البصل مع الملِيحي والهَفيت..ويُقبلُ الوالدُ ومعه وكبار رجال الديرة ويتجهون للمضافة تتوسطها نُقرةُ القهوة والدلال والمعاميل..والنيران تتراقص وتهلل بضيوفها وعشاق قهوتها وعبق هيلها..والوالدُ يرحب يا هلا بالجميع ساعة مباركة..الله يديم عينا صوم عاشوراء طاعة الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يا هلا بيك (أبو سمعان) وبكل نصارى قرية الِدور أنتم منا وفينا..ويا هلا بيك (أبو نايف) وبكل جيراننا الدروز بني معروف والنعم..ويرد أبونايف:ما عليكم زود ياهل بصر الحرير ربع الشيخ إسماعيل باشا الحريري وربع الشيخ زعل باشا الرفاعي والنعم والسبع تنعام منكم جميعاً..هذه مشاهد عاشوراء وهذه وشائجها وهذا وفاء صلة الأرحام فيها..هكذا كانت عاشوراء وهكذا بُنيت تربيتنا..وهكذا نمت أخلاقنا وثقافتنا وفق مقاصدها الجليلة المفعمة بالحب والمودة والأخوة..وحدثَ خللٌ وأدخل قومٌ على عاشوراء ما ليس منها ولا من قوام نبل غاياتها ورحمتها..فتحولوا بها من ذبح الأنعام طاعة لله ورحمة ومودة بعباده..إلى ذبح بني الأنام وتحّريقهم وتمزيق أجسادهم..وحولّوا عاشوراء من ثقافة الحب والمودة والتآخي إلى ثقافة البغي والعدوان والهلاك..فهاهم أتباعُها يدمون أنفسهم ويسفكون دماءهم..بل ترى أحدهم يستمتع وهو يضرب جبهة طفله بساطور يريق دمه طاعة لله على زعمه والعياذ بالله مما يفترون..وطوّروا الأمر فجعلوا من دجل اعتقادهم بدموية عاشوراء ثقافة عالمية تُحتذى..ألا ترون (آل ذبَّاحة) ومن تبعهم وممن غرروا بهم ماذا يصنعون اليوم..؟اذبح..ثم اذبح..ثم اذبح ولا حرج ..؟؟؟!!!

وسوم: العدد 689