العقل الروسي ...والفيتو الخامس

حلب ... ليست مسرح دوبروفكا .. ولا هي مدرسة بيسلان

حتى لو استرسل المسترسلون مع الطرح الروسي ، واعترفوا ، أن ثمة مجموعات إرهابية مندسة في صفوف الفصائل الثورية ، فكيف يمكن ان يكون الحل المرجو ، لو كان على الساحة قادة أو ساسة أو دبلوماسيون ؟ إن الجواب على هذه الأحجية البسيطة ، والتي لا تعدو أن تكون معادلة رياضية من الدرجة الأولى ؛ يختلف باختلاف عقل المجيب ، درجة الذكاء ، والمستوى الثقافي ، والخلفية الإيديولوجية .

العامة تقول : أحرقَ اللحاف من أجل برغوث . وقيل لجحا علق رأس الثور في الجرة ، قال : اقطعوا رأس الثور ، فلما قطعوه ، وظل الرأس عالقا داخل الجرة ، قال الآن : اكسروا الجرة . من غير العقل الروسي ، أو عقل بوتين ( المخبر الصغير ) المتسم بالغباء والمشحون بالحقد والكراهية ، يقترح خنق رواد مسرح بمن فيه بالغاز لأن عشرة من المعارضين، الذين يطلق عليهم ( إرهابيين ) تسللوا إلى المسرح واحتجزوا من فيه؟ ! من غير بوتين المخبر الصغير يأمرباقتحام مدرسة فيها أكثر من ألف تلميذ بالدبابات ، لأن مجموعة من (الإرهابيين) حسب مصطلحاته قد احتجزتهم ؟! من غير العقل الروسي الذي تربى في ظل نظرية تشييء الحياة ( الحياة مادة ) ، واحتقارها والاستهانة بوجود الإنسان ، حياته ومشاعره وآلامه وعذاباته وطموحاته وتطلعاته يلجأ إلى تدمير آبدة من أوابد التاريخ الإنساني مثل حلب لأن بين مئات الألوف من سكانها عشرات أو مئات ممن يصنفهم هو إرهابيين .

حديثنا هذا ليس تحليلا سياسيا مهوما منطلقا من دوافع إيديولوجية ، أو مندفعا في فراغ التعميم العدمي القائم على خطاب إعلامي عدمي واستهلاكي . بل إن المتابع الدبلوماسي لإبداعات العقل الروسي البوتيني ، سيجد العديد من الشواهد الناطقة ، التي تكشف عن أكثر من براءة اختراع بوتينة ، لم يُسبق بوتين إليها ، في أي دولة من العالم غير ما سبق إليه حافظ الأسد في حماة وفي تدمر وفي جسر الشغور وإدلب وحلب في ثمانينات القرن الماضي .

يروي لنا تاريخ بوتين الدبلوماسي أنه في 23 / تشرين الأول / ( اكتوبر ) 2002 قام عشرة أو عشرات من المقاومين الشيشان المطالبين بحرية وطنهم ، واستقلاله ، والذين يصفهم العقل الروسي بأنهم ( إرهابيون ) بالتسلل إلى مسرح ( دوبروفكا الثقافي ) في موسكو واحتجزوا فيه مئات الرهائن ، مطالبين بحرية وطنهم ، واستقلاله ، وانسحاب المحتل الروسي منه ، فكيف عالج العقل البوتيني الموقف المكرور في كل دول العالم. 

لقد درجت كل حكومات العالم عندما تبتلى بمثل هذا الحدث ، أن تحتويه بالمزيد من الدبلوماسية وبتقديم التنازلات من فوق الطاولة وتحتها حرصا على أرواح المدنيين الأبرياء ؛ بينما قرر عقل بوتين المبدع الشرير المستهين بالحياة الإنسانية ، أن يضخ نوعا من الغاز السام القاتل ، من فتحات التهوية على قاعة المسرح فسمم كل من فيه ، غير مبال بأعداد الضحايا الذين يمكن أن يتساقطوا نتيجة هذا العمل الإرهابي الخسيس، الذي يقدم عليه رئيس دولة ، الأصل الأول فيه حماية أرواح الناس . لقد أقدم القاتل الإرهابي على تنفيذ العملية التي أسفرت عن إصابة المئات من رواد المسرح وخلصت بالنهاية إلى مقتل مائتين من المواطنين الروس ، قتل منهم 129 مواطنا نتيجة استنشاق الأنفاس الأولى من الغاز السام ، الذي لا يزال الخبراء الدوليون يحارون في معرفة ما هو . كانت جريمة بوتين في رائعة النهار ، وتحت سمع المجتمع الدولي وبصره ، وأغضى الجميع عن جريمة المجرم كما يغضون اليوم عن جريمته في إبادة السوريين ، وتدمير ديارهم ...

ومرة أخرى ، وبعد عامين تقريبا من جريمة ( مسرح موسكو ) وبالتحديد في 1 / إيلول ( سبتمبر ) / 2004 /قام عدد من الثوار الشيشان المطالبين بحرية بلادهم واستقلالها ، والملقبين بالإرهابيين حسب معجم المحتل المتغطرس ، بالتسلل إلى مدرسة في بلدة ( بيسلان ) مطالبين باستقلال بلادهم . كان في المدرسة ما يزيد عن 1100 إنسان ، من الطلاب والمعلمين والمعلمات. ومرة أخرى ، وبدلا أن يذهب بوتين إلى حل دبلوماسي ، يقوم على سياسة الاحتواء ، عاد عقل المخبر الصغير إلى إبداع الحل الأسهل عليه ، والأقرب إلى روحه وقلبه ؛ فسير رتل من الدبابات خلال ثمانية وأربعين ساعة ، لتقوم في في 3 / أيلول سبتمبر ، باقتحام المدرسة على من فيها مما أدى إلى قتل ثلاث مائة وعشرين إنسانا ( 320 ) ، منهم ستة وثمانون طفلا ( 186 ) ، لم يسأله أحد في العالم الذي يكرر عزمه على محاربة الإرهاب ، فيم قتلتهم ..

واليوم ، إن السلوك الروسي في سورية ، والفيتو الروسي ، في مجلس الأمن ، هو حلقة في سياق عقل إرهابي ينجدل تلقائيا مع قوى الإرهاب الطائفي الأسدي والصفوي على السواء ، الإرهاب الذي يحمل على كاهله عبارات ثأر عمرها ألف وخمس مائة عام .

في عالم الأدب تعود النقاد أن يقولوا ( الأسلوب هو الرجل ) ، بكل بساطة يمكن أن ننقل المقولة إلى عالم السياسة لنقول لصاحب الفيتو الخامس في سورية ( الإرهاب هو بوتين ) ( الإرهاب هو بشار ) . وكل من يشكك في هذه الحقيقة أو يجادل فيها ، فهو شريك في جريمة الحرب التي تمارسها مدرسة الشر العالمي ضد السوريين .

لا ينفع أن نقول نستنكر وندين تعليقا على الفيتو الروسي الخامس لأن الفيتو الخامس بالنسبة إلينا هو نفسه الفيتو الأول وهو نفسه الفيتو العاشر ، ولو نفعت إدانة مع الفيتو الأول لنفعت مع الذي يليه ..

يبقى من واجب الذي يريد أن ينفض عن نفسه عار الاشتراك في حرب الإبادة التي تشن على السوريين ، من دول العالم والإقليم ، العودة المباشرة للتحرك العاجل المبادر للتحرك خارج إطار مجلس الأمن ، لقطع الطريق على رغبات بوتين المظلمة ، وبتفعيل عملي لروح القانون الدولي ورفع مفهوم القانون فوق منطوقه ..

ويبقى من واجب السوريين أجمع أن يدركوا من الوقائع التي قصصناها في هذا المقال ، أن يدركوا طبيعة عدوهم ، ومترديات تفكيره ، وحقيقة ما يراد بهم . بفعل واع رشيد.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 689