لجنة العكننة والبسابس!
أخاف قارئي الكريم أن يطول حديثي عن طرائف الشيخ القرضاوي ولطف معشره، فتمل، لكن أظن أن علي استيفاء بعض الجوانب الطريفة من شعره ومذكراته، بجانب بعض القفشات التي يُسَرِّبها لي واحد من البسابس الذين يعملون مع الشيخ حفظه الله.
ولعلك تسألني: ما البسابس؟ فأقول وأمري لله تعالى إنهم العصافير، أو الدبابيس، أو الخوازيق، أو الوِدان، أو العسس..
مافهمتش حاجة سيادتك؟ إذن فاقرأ هذه الفقرة من مذكرات الشيخ عن حكايات العكننة والبسابس في المعتقل، كي أعود وأزيدك إيضاحاً:
(كان هناك أفراد قليلون لم يصبروا على المعتقل، ولم يرضوا به، ولم يكيفوا أنفسهم وفقاً للحياة الجديدة، والناس تتفاوت طاقاتهم في الاحتمال؛ فمنهم من يقارع الأهوال ولا يبالي، ويواجه الأحداث كالطود الأشم، ومنهم المتوسط الاحتمال، ومنهم من لا يحتمل أي مكروه يصيبه.
وكان من الذين قلّ احتمالهم، وعز عليهم فراق أهليهم، أخونا وصديقنا الداعية الطنطاوي الأستاذ حسني الزمزمي، الذي وصل معنا إلى معتقل الطور، ولكنه لم يُخف تبرمه، وضجره منه، وانضم إليه نفر قليل على شاكلته، سماهم الإخوان (لجنة العكننة) ورئيسها الأستاذ الزمزمي.
والحق أن لجنة العكننة كانت مصدر ترويح وفرفشة للمعتقلين؛ فقد كان الأستاذ الزمزمي رجلاً فَكِهاً خفيف الروح - بطبيعته وبطريقته - وكان إذا ناداه أحد: يا أستاذ زمزمي، يرد عليه: إن شاء الله خرَّاب يتعِمي، و(خرّاب) هذا لقب عبد الرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية المصرية آنذاك، الذي كتب المذكرة المسمومة لحل الإخوان، فسماه الزمزمي (خرّاباً) بدلاً من عمّار.
وكان له أرجوزة نظمها في الضابط سعد الدين السنباطي الذي اعتقله في طنطا، ومطلعها:
يا رب أخزِ الظالمَ السنباطي واجعلْهُ في كلِّ المسائلِ واطي
يا رب واجعل كيدَه في نحرهِ ورد سُمَّ سهمهِ لصدرهِ
وكان الإخوة - ولا سيما أهل العلم والأدب منهم - كلما سمعوا أرجوزته، أضاف إليها كل منهم بيتاً من عنده.
إلا أن العكننة الحقيقية كانت تتمثل في وجود عدد من العملاء والجواسيس، زرعتهم الحكومة وجهات الأمن زرعاً في أوساط الإخوان، فسميناهم البسابس (جمع بِسبِس) مهمتهم أن يتجسسوا، وينقلوا أخبار المساجين أولاً بأول إلى الحكومة، ولم يطق هؤلاء البسابس الحياة الروحية للإخوان، واستيقاظهم لصلاة الفجر، وحرصهم على الصلوات، ولهذا سُرعان ما انكشفوا؛ فالإخوان ينهضون للصلاة وهم نائمون!
وفي يوم كان الإخوان يصلون وهم يهتفون: عاش جلالة الملك؛ وهو ما أثار حفيظة الأخ الشهم إبراهيم كروم فتوة القاهرة المعروف، الذي جمع عدداً من الشباب الأقوياء، وانهالوا على هؤلاء (البسابس) ضرباً حتى أصابوهم بجراح، وعملت قضية للحاج كروم، وعلمت أنه حُكم عليه فيها بعد خروجه من المعتقل بستة أشهر.
واسمحوا لي أن أبتدع نظرية (بسبسية) جديدة، هي أنه ليس كل البسابس وِحشين، وأن البسبسة قد تكون أحياناً مطلوبة ولطيفة، فليسمح لي شيخي القرضاوي أن أشغِّل الصديق الشيخ أكرم عبد الستار (بسبس) لينقل إلى قرائي الكرام من خلال مشاهداته وسماعه بعض طرائف الشيخ، وهي على كل حال بسبسة حميدة، يؤجر عليها، وإذا امتنع هاخليها عكننة، وهو حر، ما هي يا عكننة، يا بسبسة؛ واللا إيه؟!
ومما رواه لي الشيخ أكرم أنه كان ذات مرة يسعل (يكح) والشيخ منه قريب، فقال له: إيه يا شيخ أكرم؟ انت هاتكح معايا؟ أنا ما حدش يكحّ معايا!
وأثناء مرض أستاذنا الدكتور عبد العظيم رحمه الله تعالى اتصل به الشيخ مطمئناً، وحين سمعه بادره ممازحاً:
ما شاء الله، إيه الحلاوة دي؟ صوتك ولا صوت أم كلثوم.
وفي مؤتمر صحفي في البحرين سأله أحدهم: يا أستاذنا بعض الصحفيون يقول.. فقال الشيخ: سيبويه كدا هايزعل منك.. قل: بعض الصحفيين.
ومن التعليقات الطريفة أيضاً تعليق سمعته غير مرة من الشيخ على أنه لا كهنوت في السلام، وليس عندنا رجال دين، بل علماء دين، فكان يقول: احنا لا عندنا "بابا" عندنا ولا "ماما".
ومما يرويه الشيخ أكرم في كتابه الجميل الوافي عن القرضاوي (اللي ما جابليش منه نسخة للحين) قوله: أذكر أنني شاركت مع عدد من الشباب في نقل مكتبة الشيخ من بيته القديم إلى بيته الجديد، ولما حضر وقت الطعام دخل علينا الشيخ بابتسامة تعلو وجهه وهو يقول: هيا إلى الطعام، إذا حضر الهرس بطل الدرس!
وأذكر كذلك أن المجلس الأعلى لشؤون الأسرة في قطر، دعا الشيخ إلى المشاركة في (مائدة مستديرة) لمناقشة موضوع (دية المرأة في الشريعة الإسلامية)، فقال مدير الدائرة: نبدأ بفضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي!
فقال الشيخ: لا.. الصح أن نبدأ بالترتيب الأبجدي، واسمي يبدأ بحرف الياء، فأنا آخر واحد يتكلم إن شاء الله.
ويروي الدكتور صلاح الراشد أن شاباً عربياً كان يسكر في حانة من حانات الخمر في إحدى الدول الأوربية، وكانت المرأة التي تسقي الخمر نصرانية، فكان الشاب يسألها وهو في قمة السكر: هل أنت مسلمة؟ فتقول: لا، فيقول لها: يبقى هاتروحي جهنم.. وينفجر ضحكاً..
وكان كل يوم يقول لها هذا.. فشدّها هذا التساؤل المتكرر، وبدأت تبحث عن الإسلام، وتقرأ فيه، حتى عرفت الحق فاقتنعت فأسلمت، يقول الدكتور صلاح:
عندما رويت القصة كان معنا الشيخ القرضاوي، الذي ضحك الشيخ وقال:
حتى سكارى أمة محمد دعااااااة!
وأحيلك قارئي الحبيب إلى قصيدته (أصوليون) لتحس بحجم كمية (خفة الدم) التي يتحلى بها أستاذنا حفظه الله.. وكفاية كدا من القرضاوي.. على الأقل الآن.
وسوم: العدد 690