إلى أعلام الموقعين أفيدونا بقول جامع وفتوى معتمدة "من حضر المصافّ فقد تعين"
كنت إنسانا تسحره عبارة الأصوليين والفقهاء كما يسحره خيال الشعراء ، ولباب الحكماء . كنت رغم ما يقول البعض ،عن عويص عبارة الفقهاء وتعقيداتها ، أشعر أنني إزاءها أمام فن من الإبداع البياني ، وأجمل القول كان عندي حين يقول لك صاحب حاشية ( وأما قوله ... ) ثم يفيض بالشرح والتأويل والتمثيل وذكر الأوجه وتعداد الاختلافات ..
تصلني هذه الأيام نشرات دورية ، تحمل عناوين ضخاما ، أتوقع أن تحيي في ذاكرتي عبارات صاحب الفقهين والرسالة والأم والمبسوط والمجموع والبدائع والتحفة والحاشية واللباب والكفاية والمستصفى والمنخول وإرشاد الفحول .. فأُهرع ، أبتغي الذواق ، في عصر حلت فيه بالإسلام والمسلمين الأحداث الجسام ، واشرأبت فيه العقول والقلوب تلتمس نورا في الفردي والجماعي، وما يجب وما يندب وما يباح وما يكره وما يحرم ؛ فلا أفيء في الغالب إلا إلى مثل ما قال المعري، أو ما ذكره مولانا في تبدل حال اهل سبأ (( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ )) .
أقدر أن بين ظهراني الأمة المسلمة ، وفي أهل الشام خاصة ، نخبة من العلماء الراسخين . وأقدر فيهم مع العلم والنبل وسمو المقصد رغبةً لا تخفى في أداء ما ( استُحفظوا ) ، وبيان ما اختلط على الناس من أمر دينهم ، أو ما أغلق عليهم منه ، فآثروا الصمت في زمان تختلط فيه الأصوات ، ويتعالى فيه الضجيج ، فلا يكاد يستبين فيه صوت الحليم ولا الحكيم . ولكن كل ذلك لا يعفي حامل المصباح من أن يسعي بين يدي الناس بنور ، يطفئ الفتنة ويبدد ظلمة الشبهة ، ويصدع بالحق في كلمة صريحة واضحة صارخة يجمع عليها من أهل الحق أحرصهم عليه . وقالوا وقد ضُرب الإمام مالك رحمه الله تعالى في فتواه أيام أبي جعفر المنصور ، وشُهر به ليعود عنها ، فظل يردد على رؤوس الناس : أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس أقول : إن طلاق المكرَه لا يقع .
جميل ما تصدره المجالس والروابط والهيئات والشرعية ، من بيانات ، تصاغ على منهج أهل السياسية في الخطاب العام المعوم فتصف كما يصفون : هذا جميل وهذا قبيح ، وهذا خير وهذا شر ، وهذا حق وهذا باطل . وجميل أن يعلن أصحابها على الطريقة نفسها : نستنكر وندين ونشجب أو نؤيد ونساند وندعم وندعو ونرغّب ، ولكن المطلوب الحقيقي من ( أعلام الموقعين ) فوق السقف الذي استظلوه ، و أعلى من النهج الذي انتهجوه . مطلوب منه توقيع عن الله على منهج : قال الله ..قال رسوله في دعوة واضحة إلى وجه للحق مبين .
المسلمون اليوم ، وفي سورية خاصة ، أحوج ما يكونون ، إلى الفتوى الشرعية المباشرة والمجردة ، تساق في حيثياتها ، وفي انعكاساتها . المسلمون في سورية اليوم ، بحاجة إلى من يجهر بحكمه تعالى (( هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ )) بفقهها وحقها ، لكي لا يضل أقوام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
ولا يجوز أن تبقى حديقة الإسلام بلا سياج ، ولا يجوز أن يبقى أهل الشام بلا مرجع على نهج الفقهاء الواضح الثابت المنضبط الجماعي إن لم يكن الإجماعي ، وليس نهج الساسة ، والخطباء، وكتاب المقالات الذين يعلو موجهم ساعة وينخفض أخرى ...
اليوم وهذه الشام تفرّغ من أهلها ، ويرفع فوق رؤوس مسلميها تهديد مباشر ( تقتلون أو تخرجون ) ، وينتشر حولها الخذلان ، وتكثر من بعضهم الادعاءات ، ويسجل بعضهم نفسه في ديوان أهل الجهاد ، فيستأثر بسهم الفارس وما هو من أهل الساقة ، ثم تنطفئ مصابيح الفتوى وتزهر وصاويص الدعوى فلا يكاد وجه للحق بحق يستبين ..
في كتب الفقه الجميلة : ( من حضر المصافّ فقد تعين ) وشرحوا في الحواشي ، المصاف : لقاء الصفين ، وأضافوا ( من حضر ) ولو عابرا غير قاصد ، فلا ينبغي له أن ينسلّ ، وقالوا ، فقد تعين : فقد أصبح الثبات بحقه فرضا عينيا ثابتا ، وإن لم يكن كذلك قبل حضوره . وحذروا وإلا فقد شمله الوعيد (( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ))
ففي أي مصافّ أهلُ الشام اليوم ، وما هو الواجب على الناس فيما يدور فيها ، أين هو قول الحق باسم شريعة ، لم تترك المسلمين فوضى ، ولم تقبل للدين أن يكون ( هوى ) ، (( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا )) ...
أفيدونا بقول جامع وفتاوى معتمدة جزاكم الله عنا كل خير ...
وسوم: العدد 691