الشعبي التابعي الظريف!
يسوؤني أن يتكون لدى الناس صورة قاتمة عن أهل الدين، وأنهم دائماً متجهمون مكشرون، لا يعرف الابتسام لوجوههم طريقاً، وتكره ملامحهم البشر والفرحة..
وأتخيل أن كثيراً من الناس يتصورون أن جيل الصحابة والتابعين كان جيلاً من (النكديين) الذين لا يعرفون إلا الصلاة والصوم والجهاد وأن الضحكات لا ترن في بيوتهم في أية مناسبة، بل إنهم – فقط – يبكون، ويكشرون، ويذكرون الموت والبلى، ويعيشون الآخرة في الدنيا!
وقد قلت من قبل إن هذه صورة كاذبة كلياً، تحتاج إلى أن نواجهها، ونكشف عن حقائق تؤكد أن كثيراً من هؤلاء من أظرف الظرفاء، على رغم كونهم من كبار أهل العلم والفقه والحديث، والجد والتركيز، والانشغال في العلم والتعليم.
ومن هؤلاء رجل من كبار التابعين وعلمائهم (التابعي هو من لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم، لكن رأى بعض الصحابة) اشتهر باسم الشعبي، واسمه عامر ابن شراحيل الشعبي الكوفي) (13هــــ 103هــــــ) من أظرف ظرفاء الدنيا، ومن أعلم علمائها.
قال عنه الإمام الزهري رحمهما الله: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشَّعْبِيُّ بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام.
وقال ابن خلّكان في وفيات الأعيان: ويقال إنه - أي الشعْبِي - أدرك خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رحمه الله ذكياً سريع البديهة، فقيهاً محدثاً، ظريفاً مُزَحة، واشتهر بذلك، ودونته مجامع كتب التاريخ والسِّيَر.. ومما ورد عن ذكائه ما حكاه عن نفسه، قال: أنفذني أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسأل عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة حتى استحثثت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي:
أمن أهل بيت المملكة أنت؟ (أي: هل أنت من الأمراء؟) قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدُفعت إليّ رقعة، وقال لي: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال الشعبي: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأُنسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها، فرجعت وأوصلتها إليه، فلما قرأها قال: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، وخبرته بسؤالي وجوابي، ثم خرجت من عند عبد الملك، فلما بلغت الباب رُددت، فلما مثلت بين يديه قال: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا، قال: اقرأها، فقرأته، وإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره، فقلت: والله لو علمت هذا ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك. قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك؛ قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم فقال: ما أردت إلا ما قال.
ويقال إن الحجاج سأله يوماً، فقال له: كم عطاءك في السنة؟ فقال: ألفين، فقال: ويحك! كم عطااك؟ فقال: ألفان!
فقال: كيف لحنت أولاً؟ قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما يلحن الأمير فأعرب، فاستحسن منه ذلك وأجازه (وأستبعد القصة؛ لأن الحجاج كان من فصحاء العرب في زمانه)!
وقال رجل للشعبي كلاماً أقذع فيه فقال له: إن كنت صادقاً غفر الله لي، وإن كنت كاذباً غفر الله لك.
وكلم الشعْبِي عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى، فقال له: أيها الأمير، إن كنت قد حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن كنت حبستهم بالحق فالعفو يسعهم، فأطلقهم.
وكانت له كلمات في الحكمة أوردها عنه كتاب السير، منها:
- ما ترك أحد في الدنيا شيئاً لله إلا أعطاه الله في الآخرة ما هو خير له.
- تعايش الناس بالدين زمناً طويلاً حتى ذهب الدين، ثم تعايش الناس بالمروءة زمناً طويلاً حتى ذهبت المروءة، ثم تعايش الناس بالحياء زمناً طويلاً حتى ذهب الحياء، ثم تعايش الناس بالرغبة والرهبة، وأظن أنه سيأتي بعد هذا ما هو أشد منه.
- كانت العرب تقول إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساوئه: ذلكم الرجل الكامل، وإذا كانا متقاربين: ذلكم المتماسك، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك.
- ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها.
- لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره رأيت أن سفره لم يضع.
- من زوج كريمته من فاسق، فقد قطع رحمها.
ولا يعنيني هنا أن أتكلم عن الشعبي الفقيه المحدث الحكيم، بل عن الشعبي الظريف، الذي تخرج منه المُلحة عفو الخاطر، فلا يملك من أمامه إلا الابتسام أو الضحك، لحلاوتها، وما تحمل من مفارقات ولطائف؛ فاسمح لي قارئي الكريم أن أسوق لك بعضاً منها:
* كان الشعْبِي ضئيلاً نحيفاً، فقيل له يوماً: إنا نراك ضئيلاً ، فقال: زُوحمت في الرحم. (يعني أن أخاه التوأم، كان كابس على نفسه، وهو في بطن أمه)!
* وسأله رجل عن المسح على اللحية أثناء الوضوء: كيف يكون؟ فقال: خللها بإصبعك.. فقال الرجل: أخاف ألا تبلها، قال الشعبي: إن خفت فانقعها من أول الليل!
* وقال رجل له: إني خبأت لك مسائل..... قال: خبئها لإبليس حتى تلقاه، فتسأله عنها.
* وسأله آخر: هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم، قال الرجل: مقدار كم؟ كم مرة يحك؟ قال الشعبي: يظل يحك حتى يبدو العظم!
* وسأله آخر: ما اسم امرأة إبليس؟ فرد عليها ساخراً من سؤاله:(ما كنتش معاهم يوم جوازهم)! ذاك عرس ما شهدته.
* وقال له رجل ما تقول في رجل شتمني في أول يوم من شهر رمضان، أتراه يؤجر؟ فرد الشعبي: إن قال: يا أحمق، رجوت له ذلك.
.. وللحديث عن الشعبي الظريف رحمه الله بقية..
وسوم: العدد 693